العقل وحدوده ..
أرأيتم لو أنّ شخصاً كان في سفر، فتعطّلت سيّارته لخلل فنّي أو ميكانيكي، فوقف ينتظر
المساعدة، فجاءه رجل ( عقلاني ) مغرور! فعرض عليه المساعدة، فقال له: وهل أنت فنّي أو
ميكانيكي؟ قال: لا، ولكنّ الله منحنا العقول لنحلّ بها جميع المشكلات!!! فهل يمكن لهذا الرجل (
العقلاني )! أن يصلح هذا العطل الميكانيكي بعقله دون خلفية ميكانيكية دقيقة، أم أنّه سيزيد من
هذا العطل لجهله بتفاصيل الميكانيكا ودقائقها؟ أظنّ أنّ الثاني هو الصحيح..
وهذا هو الحال في كلّ تخصّص، فالمهندس لا يمكن أن يحلّ قضايا الطبّ الدقيقة بعقله مهما أوتي
من الذكاء والفطنة والعقل لجهله بدقائق الطبّ وتفاصيله وخفاياه، والعكس صحيح، وهكذا سائر
أصحاب التخصّصات الأخرى لا يمكن لهم أن يخوضوا في القضايا الشرعية والأحكام الفقهية مهما
أوتوا من الذكاء والعقل لجهلهم بدقائق أصول الفقه والأحكام وخفاياها من الناسخ والمنسوخ
والمطلق والمقيد، والعام والخاصّ، والمتقدم والمتأخر، والمجمل والمبين والصحيح والضعيف والظاهر
والمؤول... الخ، فلا يعرف هذه الأصول المهمّة إلا الراسخون في العلم، ولولا ذلك لما عظّم الله شأن
العلماء الراسخين..
وهكذا الراسخون في العلم الشرعي لا يخوضون في دقائق التخصصات الأخرى.
وليس المقصود مما سبق التقليل من قيمة العقل، فالنصوص الشرعية لا يمكن فهمها إلا بالعقل،
لكنّه العقل المنضبط بالشرع وأصوله، لا العقل المجرّد التائه... تماماً كالحريّة، فإنّ للحرية حدوداً إذا
تجاوزتها صارت فوضى وانفلات، وهذا هو حال من يحكّم عقله في كلّ مجال ولو كان خارج تخصّصه،
وما ضلّ من ضلّ من الخوارج والمعتزلة وأشباههم إلا لمّا حكّموا العقول دون رسوخ في العلم،
وكذلك كل من تجرأ على العلم الشرعي من الأطباء والمهندسين وغيرهم، فنتج عن ذلك شرّ
عظيم.. وأذكر في هذا السياق أنّ أحد المشاهير في علم النفس ممن له حضور إعلامي مميز،
وفيه خير كثير، ألقى محاضرة حضرها جمع غفير، لكنه استدل بحديث صحيح يتعلّق ببعض قضايا
المرأة المثيرة للجدل من بعض العلمانيين والمنافقين، ممّا أثار حفيظة كثير من الحضور الغيورين،
وفي نهاية المحاضرة جاءه أحد طلبة العلم فأخبره أنّ الحديث منسوخ..!!! وأخرج له من جهاز الجوال
كلام أهل العلم الراسخين عليه...!
فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه وعرف قدر أهل العلم والاختصاص، فلزم حدوده، وأراح واستراح. والله
ولي التوفيق.
بقلم فضيلة الشيخ الدكتور محمد عبد العزيز المسند ..