عرض مشاركة واحدة
قديم 04 Apr 2010, 02:48 AM   #21
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ص -134- حله, فشرع الله سبحانه حله بالكفارة وسماها تحلة, وليست هذه الكفارة ماحية لهتك حرمة الإسم بالحنث, كما ظنه بعض الفقهاء, فان لحنث قد يكون واجبا, وقد يكون مستحبا, وقد يكون مباحا, وإنما الكفارة حل لما عقده.
النوع الثالث: ما تكون فيه جابرة لما فات, ككفارة قتل الخطأ, وإن لم يكن هناك إثم, وكفارة قتل الصيد خطأ, وإن لم يكن هناك إثم فإن ذلك من باب الجوابر, والنوع الأول من باب الزواجر, والنوع الأوسط من باب التحلة لما منعه العقد.
ولا يجتمع الحد والتعزير في معصية, بل إن كان فيها حد اكتفى به, وإلاّ اكتفى بالتعزير, ولا يجتمع الحد والكفارة في معصية, بل كان معصية فيها حد فلا كفارة فيها, وما فيه كفارة فلا حد فيه, وهل يجتمع التعزير والكفارة في المعصية التي لا حد فيها؟ فيه وجهان, وهذا كالوطء في الإحرام والصيام, ووطء الحائض, إذا أوجبنا فيه الكفارة, فقيل: يجب التعزير, لما انتهك من الحرمة بركوب الجناية, وقيل: لا تعزير في ذلك, اكتفاء بالكفارة, لأنها جابرة وماحية.
فصل:
وأما العقوبات القدرية فهي نوعان: نوع على القلوب والنفوس, ونوع على الأبدان والأموال.
والتي على القلوب نوعان, أحدهما: آلام وجودية يضرب بها القلب, والثاني: قطع المواد التي بها حياته وصلاحه عنه, وإذا قطعت عنه حصل له أضدادها, وعقوبة القلوب أشد العقوبتين, وهي أصل عقوبة الأبدان.
وهذه العقوبة تقوى وتتزايد, حتى تسري من القلب إلى البدن, كما يسري ألم البدن إلى القلب, فإذا فارقت النفس البدن صار الحكم متعلقا بها,



ص -135- فظهرت القلب حينئذ وصارب علانية ظاهرة, وهي المسماة بعذاب القبر, ونسبته إلى البرزخ كنسبة عذاب الأبدان إلى هذه الدار
فصل:
والتي على الأبدان أيضا نوعان: نوع في الدنيا, ونوع في الآخرة, وشدتها ودوامها بحسب مفاسد ما رتبت عليه في الشدة والخفة, فليس في الدنيا والآخرة شر أصلا إلاّ الذنوب وعقوباتها, فالشر إسم لذلك كله, وأصله من شر النفس وسيئات الأعمال, وهما الأصلان اللذان كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منها في خطبته بقوله"ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا"وسيئات الأعمال: من شرور النفس, فعاد كله إلى شر النفس, فإن سيئات الأعمال من فروعه وثمراته.
وقد اختلف في معنى قوله"ومن سيئات أعمالنا"هل معناه السيء من أعمالنا, فيكون من باب إضافة الفرع إلى جنسه؟ أو تكون بمعنى"من"بيانية, وقيل: معناه من عقوباتها التي تسوء, فيكون التقرير: ومن عقوبات أعمالنا التي تسوؤنا, ويرجح هذا القول: أن الاستعاذة تكون قد تضمنت جميع الشر فإن شرور الأنفس تستلزم الأعمال السيئة, وهي تستلزم العقوبات السيئة فنبه بشرور الأنفس على ما تقتضيه من قبح الأعمال, واكتفى بذكرها منه, إذ هو أصله, ثم ذكر غاية الشر ومنتهاه, فهو السيئات التى تسوء العبد عن عمله, من العقوبات والآلام, فتضمنت هذه الأستعاذة أصل الشر وفرعه وغايته ومقتضاه, ومن دعاء الملائكة للمؤمنين قولهم: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} فهذا يتضمن طلب وقايتهم من سيئات الأعمال وعقوباتها التي تسوء صاحبها فإنه سبحانه متى وقاهم عمل السيئ وقاهم جزاء





ص -136- السيئ, وإن كان قوله {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أظهر في عقوبات الأعمال المطلوب وقايتها يومئذ.
فإن قيل: فقد سألوه سبحانه أن يقيهم عذاب الجحيم, وهذا هو وقاية العقوبات السيئة, فدل على أن المراد السيئة التي سألوا وقايتها: الأعمال السيئة, ويكون الذي سأله الملائكة نظير ما ستعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يرد على هذا قوله{يَوْمَئِذٍ} فإن المطلوب وقل شرور سيئات الأعمال ذلك اليوم, وهي سيئات في أنفسها.
قيل: وقاية السيئات نوعان: أحدهما: وقاية فعلها بالتوفيق فلا تصدر منه, والثاني: وقاية جزائها بالمغفرة, فلا يعاقب عليها.فتضمنت الآية سؤال الأمرين, والظرف تقييد للجملة الشرطية لا للجملة الطلبية.
وتأمل ما تضمنه هذا الخبر عن الملائكة من مدحهم بالإيمان, والعمل الصالح, والإحسان إلى المؤمنين بالإستغفار لهم, وقدموا بين استغفارهم توسلهم إلى الله سبحانه بسعة علمه, وسعة رحمته, فسعة علمه تتضمن علمه بذنوبهم وأسبابها وضعفهم عن العصمة, واستيلاء عدوهم وأنفسهم, وهواهم وطباعهم, وما زين لهم من الدنيا وزينتها, وعلمه بهم, إذا أنشأهم من الأرض, وإذا هم أجنة في بطون أمهاتهم, وعلمه السابق بأنهم لا بد أن يعصوه, وأنه يحب العفو والمغفرة, وغير ذلك من سعة علمه الذي لا يحيط به أحد سواه, وسعة رحمته تتضمن أنه لا يهلك عليه أحد من المؤمنين به أهل توحيده ومحبته, فإنه واسع الرحمة لا يخرج عن دائرة رحمته إلاّ الأشقياء, ولا أشقى ممن لم تسعه رحمته التي وسعت كل شيء, ثم سألوه أن يغفر للتائبين الذين اتبعوا سبيله, وهو صراطه الموصل إليه الذي هو معرفته ومحبته وطاعته, فتابوا مما يكره, واتبعوا السبيل الذي يحبها, ثم سألوه أن يقيهم عذاب الجحيم, وأن يدخلهم والمؤمنين من





ص -137- أصولهم وفروعهم وأزواجهم - جنات عدن التي وعدهم بها, وهو سبحانه وإن كان لا يخلف الميعاد, فإنه وعدهم بها بأسباب, من جملتها: دعاء الملائكة لهم أن يدخلهم إياها برحمته التي منها أن وفقهم لأعمالها, وأقام ملائكته يدعون لهم بها.
ثم أخبر سبحانه عن ملائكته أنهم قالوا عقيب هذه الدعوة: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي مصدر ذلك وسببه وغايته صادر عن كمال قدرتك وكمال علمك, فإن العزة كمال القدرة, والحكمة كمال العلم, وبهاتين الصفتين يقضي سبحانه وتعالى ما يشاء ويأمر وينهى, ويثيب ويعاقب, فهاتان الصفتان مصدر الخلق والأمر.
والمقصود: أن عقوبات السيئات تتنوع إلى عقوبات شرعية, وعقوبات قدرية, وهي إمّا في القلب, وإما في البدن, وإما فيهما, وعقوبات في دار البرزخ بعد الموت, وعقوبات يوم حشر الأجساد, في الدار الآخرة فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة, ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة, لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم, فإذا استيقظ وصحي أحسن بالألم, فترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار, والكسر على الانكسار, والإغتراق على الماء, وفساد البدن على السموم, والأمراض على الأسباب الجالبة لها, وقد تقارن المضرة الذنب, وقد تتأخر عنه, إما يسير وإما مدة كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه, وكثيرا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام ويذنب الذنب فلا يري أثره عقيبه, ولا يدري أنه يعمل وعمله على التدريج شيئا فشيئا, كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القذة بالقذة فإن تدارك العبد بالأدوية والاستفراغ والحمية, وإلاّ فهو صائر إلى الهلاك, هذا





ص -138- إذا كان ذنبا واحدا لم يتداركه بما يزيل أثره, فكيف بالذنب على الذنب كل يوم وكل ساعة؟ والله المستعان.
فصل:
فاستحضر بعض العقوبات التي رتبها الله سبحانه وتعالى على الذنوب, وجوز وصول بعضها إليك, واجعل ذلك داعيا للنفس إلى هجرانها, وأنا أسوق لك منها طرفا يكفي العاقل مع التصديق ببعضه.
فمنها: الختم على القلوب والإسماع, والغشاوة على الإبصار, والإقفال على القلوب, وجعل الأكنة عليها والرين عليها والطبع, وتقليب الأفئدة والإبصار, والحيلولة بين المرأء وقلبه وإغفال القلب عن ذكر الرب, وإنساء الإنسان نفسه وترك إرادة الله تطهير القلب, وجعل الصدر ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء, وصرف القلوب عن الحق, وزيادتها مرضا على مرضها, وإركاسها وإنكاسها, بحيث تبقى منكوسة كما ذكر الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال:"القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر, فذلك قلب المؤمن, وقلب أغلف, فذلك قلب الكافر, وقلب منكوس, فذلك قلب المنافق, وقلب تمده مادتان: مادة إيمان, ومادة نفاق, وهو لما غلب عليه منهما"
ومنها التثبط عن الطاعة, والإقعاد عنها.
ومنها: جعل القلب أصم لا يسمع الحق, أبكم لا ينطق به, أعمى لا يراه, فتصير النسبة بين القلب وبين الحق الذي لا ينفعه غيره, كالنسبة بين أذن.





ص -139- الأصم والأصوات, وعين الأعمى والألوان, ولسان الأخرس والكلام, وبهذا يعلم أن العمى والصمم والبكم للقلب بالذات والحقيقة, وللجوارح بالعرض والتبعية {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وليس المراد نفي العمى الحسي عن البصر, كيف وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ}. وقال {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}. وإنما المراد أن العمى التام في الحقيقة عمى القلب, حتى أن عمي البصر بالنسبة إليه كالأعمى, حتى إنه يصح نفيه بالنسبة إلى كماله وقوته كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم"ليس الشديد بالصرعة, ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب". وقوله صلى الله عليه وسلم"ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس, ولا يفطن له فيتصدق عليه"ونظائره كثيرة.
والمقصود: أن من عقوبات المعاصي جعل القلب أعمى أصم أبكم.
ومنها: الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه: فيخسف به إلى أسفل سافلين, وصاحبه لا يشعر, وعلامة الخسف به: أنه لا يزال جوالا حول السفليات والقاذورات والراذائل, كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالا حول العرش.
ومنها: البر والخير ومعالي الأعمال والأقوال والأخلاق.
قال بعض السلف: "إن هذه القلوب جوالة, فمنها ما يجول حول العرش, ومنها ما يجول حول العش"
ومنها: مسخ القلب, فيمسخ كما تمسخ الصورة, فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته, فمن القلوب ما يمسخ على





ص -140- قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به, ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك, وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال: منهم من يكون على أخلاق السباع العادية, ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنازير وأخلاق الحمير, ومنهم من يتطوس في ثيابه كما يتطوس الطاوس, في ريشه ومنهم من يكون بليدا كالحمار, ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك, ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام, ومنهم الحقود كالجمل, ومنهم الذي هو خير كله كالغنم, ومنهم أشباه الذئاب ومنهم أشباه الثعالب التى تروغ كروغانها, وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحمر تارة, وبالكلب تارة, وبالانعام تارة, وتقوى هذه المشبهة باطنا حتي تظهر في الصورة الظاهرة ظهورا خفيا, يراه المتفرسون, وتظهر في الأعمال ظهورا يراه كل أحد, ولا يزال يقوي حتي تستشنع الصورة, فنقلب له الصورة بإذن الله, وهو المسخ التام, فيقلب الله سبحانه وتعالى الصورة الظاهرة على صورة ذلك الحيوان, كما فعل باليهود وأشباههم ويفعل بقوم من هذه الأمة يمسخهم قردة وخنازير.



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس