وكذلك ما نقل عن بعض التابعين وان لم يذكرأنه أخذه عن اهل الكتاب فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ومانقل فى ذلك عن بعض الصحابة نقلا صحيحا فالنفس اليه أسكن مما نقل عن بعض التابعينلأن احتمال ان يكون سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوىولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين ومع جزم الصاحب فيما يقولهفكيف يقال إنه أخذه عن اهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم والمقصود أن مثل هذاالاختلاف الذى لا يعلم صحيحه ولا تفيد حكاية الأقوال فيه هو كالمعرفة لما يروى منالحديث الذى لا دليل على صحته وأمثال ذلك
وأما القسم الأول الذى يمكن معرفة الصحيحمنه فهذا موجود فيما يحتاج اليه ولله الحمد فكثيرا ما يوجد فى التفسير والحديثوالمغازى أمور منقولة عن نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء صلوات اللهعليهم وسلامه والنقل الصحيح يدفع ذلك بل هذا موجود فيما مستنده النقل وفيما قد يعرفبأمور أخرى غير النقل
فالمقصود أن المنقولات التى يحتاج اليها فىالدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره ومعلوم أن المنقول فىالتفسير أكثره كالمنقول فى المغازى والملاحم ولهذا قال الامام أحمد ثلاثة أمور ليسلها اسناد التفسير والملاحم والمغازى ويروى ليس لها أصل أى اسناد لأن الغالب عليهاالمراسيل مثل ما يذكره عروة بن الزبير والشعبى والزهرى وموسى بن عقبة وابن اسحاقومن بعدهم كيحيى بن سعيد الأموى والوليد بن مسلم والواقدى ونحوهم فى المغازى فانأعلم الناس بالمغازى أهل المدينة ثم أهل الشام ثم أهل العراق فأهل المدينة أعلم بهالأنها كانت عندهم وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسيرما ليس لغيرهم ولهذا عظم الناس كتاب أبى اسحاق الفزارى الذى صنفه فى ذلك وجعلواالاوزاعى أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار
وأما التفسير فان أعلم الناس به أهل مكةلأنهم اصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبى رباح وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم مناصحاب ابن عباس كطاووس وأبى الشعثاء وسعيد بن جبير وأمثالهم وكذلك أهل الكوفة مناصحاب ابن مسعود ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم وعلماء أهل المدينة فى التفسير مثلزيد بن أسلم الذى أخذ عنه مالك التفسير وأخذه عنه أيضا ابنه عبدالرحمن وأخذه عنعبدالرحمن عبد الله بن وهب
و المراسيل اذا تعددت طرقها وخلت عنالمواطأة قصدا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعا فان النقل اما أن يكون صدقامطابقا للخبر واما أن يكون كذبا تعمد صاحبه الكذب أو أخطأ فيه فمتى سلم من الكذبالعمد والخطأ كان صدقا بلا ريب
فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات وقدعلم أن المخبرين لم يتواطئا على اختلاقه وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيهاتفاقا بلا قصد علم أنه صحيح مثل شخص يحدث عن واقعة جرت ويذكر تفاصيل ما فيها منالأقوال والأفعال ويأتى شخص آخر قد علم أنه لم يواطىء الأول فيذكر مثل ما ذكرهالأول من تفاصيل الأقوال والأفعال فيعلم قطعا ان تلك الواقعة حق فى الجملة فانه لوكان كل منهما كذبها عمدا أو خطأ لم يتفق فى العادة أن يأتى كل منهما بتلك التفاصيلالتى تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه فان الرجل قديتفق أن ينظم بيتا وينظم الآخر مثله أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها اما اذا أنشأقصيدة طويلة ذات فنون على قافية وروى فلم تجر العادة بأن غيره ينشىء مثلها لفظاومعنى مع الطول المفرط بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه وكذلك اذا حدث حديثا طويلافيه فنون وحدث آخر بمثله فانه اما أن يكون واطأه عليه أو اخذه منه أو يكون الحديثصدقا وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما نتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه منالمنقولات وان لم يكن أحدها كافيا اما لارساله واما لضعف ناقله لكن مثل هذا لا تضبطبه الألفاظ والدقائق التى لا تعلم بهذه الطريق فلا يحتاج ذلك الى طريق يثبت بها مثلتلك الألفاظ والدقائق ولهذا ثبتت بالتواتر غزوة بدر وأنها قبل أحد بل يعلم قطعا أنحمزة وعليا وعبيدة برزوا الى عتبة وشيبة والوليد وأن عليا قتل الوليد وان حمزة قتلقرنه ثم يشك فى قرنه هل هو عتبة أو شيبة
وهذا الأصل ينبغى أن يعرف فانه أصل نافع فىالجزم بكثير من المنقولات فى الحديث والتفسير والمغازى وما ينقل من اقوال الناسوأفعالهم وغير ذلك
ولهذا اذا روى الحديث الذى يتأتى فيه ذلكعن النبى صلى الله عليه وسلم من وجهين مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر جزمبأنه حق لا سيما اذا علم أن نقلته ليسوا ممن يتعمد الكذب وانما يخاف على أحدهمالنسيان والغلط فان من عرف الصحابة كابن مسعود وأبى بن كعب وابن عمر وجابر وأبىسعيد وأبى هريرة وغيرهم علم يقينا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب علىرسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عمن هو فوقهم كما يعلم الرجل من حال من جربهوخبره خبرة باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق اموال الناس ويقطع الطريق ويشهد بالزورونحو ذلك
وكذلك التابعون بالمدينة ومكة والشاموالبصرة فان من عرف مثل أبى صالح السمان والأعرج وسليمان بن يسار وزيد بن أسلموأمثالهم علم قطعا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب فى الحديث فضلا عمن هو فوقهم مثلمحمد بن سيرين والقاسم بن محمد أو سعيد بن المسيب أو عبيدة السلمانى أو علقمة أوالأسود أو نحوهم وانما يخاف على الواحد من الغلط فان الغلط والنسيان كثيرا ما يعرضللانسان ومن الحفاظ من قد عرف الناس بعده عن ذلك جدا كما عرفوا حال الشعبى والزهرىوعروة وقتادة والثورى وأمثالهم لا سيما الزهرى فى زمانه والثورى فى زمانه فانه قديقول القائل ان ابن شهاب الزهرى لا يعرف له غلط مع كثرة حديثه وسعة حفظه
و المقصود أن الحديث الطويل اذا روى مثلامن وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطا كما امتنع أن يكون كذبافان الغلط لا يكون فى قصة طويلة متنوعة وانما يكون فى بعضها فاذا روى هذا قصة طويلةمتنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط فى جميعها كماامتنع الكذب فى جميعها من غير مواطأة
ولهذا انما يقع فى مثل ذلك غلط فى بعض ماجرى فى القصة مثل حديث اشتراء النبى صلى الله عليه وسلم البعير من جابر فان من تأملطرقه علم قطعا أن الحديث صحيح وان كانوا قد اختلفوا فى مقدار الثمن وقد بين ذلكالبخارى فى صحيحه فان جمهور ما فى البخارى ومسلم مما يقطع بأن النبى صلى الله عليهوسلم قاله لأن غالبه من هذا النحو ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديقوالأمة لا تجتمع على خطأ فلو كان الحديث كذبا فى نفس الأمر والأمة مصدقة له قابلةله لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو فى نفس الأمر كذب وهذا اجماع على الخطأ وذلكممتنع وان كنا نحن بدون الاجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر فهو كتجويزنا قبل أننعلم الاجماع على العلم الذى ثبت بظاهر أو قياس ظنى أن يكون الحق فى الباطن بخلافما اعتقدناه فاذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنا وظاهرا
ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائفعلى أن خبر الواحد اذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا به أنه يوجب العلموهذا هو الذى ذكره المصنفون فى أصول الفقه من اصحاب أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمدالا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا فى ذلك طائفة من اهل الكلام انكروا ذلك ولكنكثيرا من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك وهو قولأكثر الاشعرية كابى اسحق وابن فورك واما ابن الباقلانى فهو الذى أنكر ذلك وتبعه مثلأبى المعالى وأبى حامد وابن عقيل وابن الجوزى وابن الخطيب والآمدى ونحو هؤلاءوالأول هو الذى ذكره الشيخ أبو حامد وابو الطيب وابو اسحق وأمثاله من أئمة الشافعيةوهو الذى ذكره القاضى عبدالوهاب وأمثاله من المالكية وهو الذى ذكره ابو يعلى وابوالخطاب وابو الحسن ابن الزاغونى وأمثالهم من الحنبلية وهو الذى ذكره شمس الدينالسرخسى وأمثاله من الحنفية واذا كان الاجماع على تصديق الخبر موجبا للقطع بهفالاعتبار فى ذلك باجماع اهل العلم بالحديث كما أن الاعتبار فى الإجماع على الأحكامباجماع أهل العلم بالأمر والنهى والاباحة
والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعرأو الإتفاق فى العاده يوجب العلم بمضمون المنقول لكن هذا ينتفع به كثيرا فى علمأحوال الناقلين وفى مثل هذا ينتفع بروايه المجهول والسيىء الحفظ وبالحديث المرسلونحو ذلك ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الاحاديث ويقولون إنه يصلح للشواهدوالاعتبار مالايصلح لغيره قال احمد قد أكتب حديث الرجل لاعتبره ومثل هذا بعبد اللهبن لهيعه قاضى مصر فانه كان من اكثر الناس حديثا ومن خيار الناس لكن بسبب إحتراقكتبه وقع فى حديثه المتاخر غلط فصار يعتبر بذلك ويستشهد به وكثيرا مايقترن هووالليث بن سعد والليث حجه ثبت إمام وكما
أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذى فيه سوءحفظ فانهم أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدق الضابط أشياء تبين لهم أنه غلط فيهابأمور يستدلون بها ويسمون هذا علم علل الحديث وهو من أشرف علومهم بحيث يكون الحديثقد رواه ثقة ضابط وغلط فيه وغلطه فيه عرف اما بسبب ظاهر كما عرفوا أن النبى صلىالله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال وأنه صلى فى البيت ركعتين وجعلوا رواية ابنعباس لتزوجها حراما ولكونه لم يصل مما وقع فيه الغلط وكذلك أنه اعتمر أربع عمروعلموا أن قول ابن عمر أنه اعتمر فى رجب مما وقع فيه الغلط وعلموا أنه تمتع وهو آمنفى حجة الوداع وان قول عثمان لعلى كنا يومئذ خائفين مما وقع فيه الغلط وان ما وقعفى بعض طرق البخارى أن النار لا تمتلىء حتى ينشىء الله لها خلقا آخر مما وقع فيهالغلط وهذا كثير
والناس فى هذا الباب طرفان طرف من أهلالكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشكفى صحة أحاديث أو فى القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به وطرفممن يدعى اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظا فى حديث قد رواه ثقة أو راى حديثاباسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته حتى اذا عارضالصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلا له فى مسائل العلممع أن أهل العلم بالحديث يعرفون ان مثل هذا غلط