الأول : أن الجن يفتعل هذا السكون لإيهام القارىء بانتهاء التلبس ، لكنَّ هذا السكون المفتعل لايلبث كثيرا .
الثاني : وصول العارض إلى درجة شديده من الضعف اللذي لايقدر بعده على شيء ، وقد يستطيع الراقي تمييز الحالة حسب خبرته في هذا الجانب .
الثالث : خروج الجن من الجسد ، هربا من أثر القراءة عليه .
الرابع : هلاك الجن ، وهذا الهلاك ليس بالضرورة أن يكون حرقا ، فقد يكون هلك إما بموته أو قتله أو حرقه ، أو بالكيفية التي يعلمها الله سبحانه وتعالى .
بقي أن نشير إلى أمر هام وهو :
أن الآيات التي أنزلها الله سبحانه وتعالى والتي ورد فيها ذكر النار بتعدد أسمائها ، و الآيات التي تصف مشاهد يوم القيامة ، وسائر الآيات القرآنية التي تبعث على الخوف من مقام الجبار عز وجل ، كلُّ هذه الآيات لم ينزلها الله سبحانه وتعالى لحرق إنس أو جن ، وإنما أنزلت للوقوف عند حدود الله والخوف من مقامه سبحانه وتعالى والإستعداد ليوم يجعل الولدان شيبا ، وإذا سمع الإنس أو الجن تلك الآيات حصل عنده من الخوف والرهبة على قدر مقام الله عز وجل في قلبه ، وهذه الآيات وقعها يتفاوت على الجن فمنهم من يتعظ ومنهم من يصر ويستكبر ومنهم من يطرد أو يهلك والله تعالى أعلم وأحكم .
وقد لاحظت تشدد بعض الرقاة والمرضى بالنهي عن قراءة الآيات التي تحمل معنى الترهيب ( الحرق أو القتل أو العذاب أو الصعق ) ، وكأن قارئها قد قال زوراً أو غَشى فجوراً ، وأقول أن هذه الآيات هي من كلام الله سبحانه وتعالى نزل بها الروح الأمين على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم الذي أُرسل إلى الجن والإنس كافة ، فإن شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل في تلك الآيات كفاية لأذى الجان بهلاكه أو خروجه فالله سبحانه وتعالى يحكم لامعقب لحكمه وهو سريع الحساب ، وعلى الراقي التدرج مع العارض بترغيبه أولا ثم ترهيبه ثانيا بعد إقامة الحجة عليه ، وهذا الفعل له عواقبه المحموده التي يقر بها كل من وفقه الله إلى سبحانه وتعالى إلى هذا المنهج المعتدل .
إستدلالات في غير موضعها :
يستدل البعض من الرقاة أو المهتمين بعلم الرقية الشرعية ببعض الآيات التي ورد فيها حرق الجن ، لكنهم يضعونها في غير ماأنزلت له ، ويدَّعي بعضهم أن هذه الآيات تثبت أن حرق الجن المتلبس بالبدن يقين وليس بظن ، ومن هذه الآيات :
أولا : من سورة الصافات :
[ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) ] .
وهذه الآيات وردت في الشيطان الذي إذا أراد أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ، ولاتحمل أي دلالة على حرق الجن المتلبس بالبدن .
ثانيا : من سورة الجن
[ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ( 8 ) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ( 9 ) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ( 10 ) ] .
وهذه الآيات وردت أيضا في الجن الذين يسترقون السمع فمن يسترق السمع يجد له شهابا مرصدا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه ، وليس في الآيات دلاله على حرق الجن المتلبس بالبدن .
ثالثا : من سورة الرحمن
[سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) ]
والآيات آنفة الذكر جاءت لتصف مشهدا من مشاهد يوم القيامة ، وهذا نص ماذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ( صفحة 830 ) :
[ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ (33) ] .
أي: إذا جمعهم الله في موقف القيامة، أخبرهم بعجزهم وضعفهم، وكمال سلطانه، ونفوذ مشيئته وقدرته، فقال معجزا لهم: [ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ] أي: تجدون منفذا مسلكا تخرجون به عن ملك الله وسلطانه، ( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) أي: لا تخرجون عنه إلا بقوة وتسلط منكم، وكمال قدرة، وأنى لهم ذلك، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؟! ففي ذلك الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا تسمع إلا همسا، وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك، والرؤساء والمرءوسون، والأغنياء والفقراء.
[ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) ].
ثم ذكر ما أعد لهم في ذلك الموقف العظيم فقال: [ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شواظ من نار [ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما تكذبان] أي: يرسل عليكما لهب صاف من النار.
( ونحاس) وهو اللهب، الذي قد خالطه الدخان، والمعنى أن هذين الأمرين الفظيعين يرسلان عليكما يا معشر الجن والإنس، ويحيطان بكما فلا تنتصران، لا بناصر من أنفسكم، ولا بأحد ينصركم من دون الله .... انتهى كلام ابن سعدي رحمه الله .
وخلاصة ماأريد قوله في مسألة حرق الجن :
إن آيات الله سبحانه وتعالى إذا قُرأت على الجن المتلبس بالبدن أثرت فيه وفيما جعله من أذى في البدن ، وهذا الأثر قد يؤدي إلى طرد الجن من البدن أو إضعافه ضعفا شديدا لايقدر بعده على شيء ، وقد يأذن الله تعالى بهلاكه ، ولانعلم كبشر كيفية هلاك هذا العارض قتلاً أو موتاً أو حرقاً ، فهذا من الغيب الذي لايعلمه إلا الله تعالى .