عرض مشاركة واحدة
قديم 23 Jan 2010, 08:24 PM   #5
اللهم اشفني
باحث ذهبي


الصورة الرمزية اللهم اشفني
اللهم اشفني غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 7875
 تاريخ التسجيل :  Oct 2009
 أخر زيارة : 25 Jul 2015 (12:54 PM)
 المشاركات : 370 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


تتمة :

والذي يظهر لي -بعد استعراض كلام العلماء- أنه لا بد من التنبيه على أمور مهمة في هذه المسألة، وهي:
أولاً: لا نُسلّم نقل الإجماع على إمكانية رؤية الله تعالى في المنام، وإن حُكي نقله عن بعضهم؛ لأنه لم يرد دليل صحيح صريح في المسألة، ولم يُنقل أن أحداً من أصحاب القرون المفضلة من الصحابة أنهم رأوا الله في المنام، لا عن أبي بكر، ولا عمر، ولا العشرة، ولا غيرهم من الأخيار الأطهار من الصحابة، وهم أولى بهذا -إن كانت الرؤية في المنام جائزة- لقربهم من الله تعالى، وإنما نُقل ذلك عن الإمام أحمد -وهو متأخر كما هو معلوم-، والنقل عنه أيضاً مختلف فيه.

قال الشيخ سفر الحوالي: "ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى ربه - عز وجل- حتى في المنام، ولا شك في ضلال من زعم ذلك، وإنما قد يكون الشيطان لبسَّ عليه فأراه أشياء، أو ظهرت له أنوار أو خيالات، فقال له: إني أنا الله، أو أنا ربك، أو زعم أن هذا هو ربه"[61].

وأيضاً تجويز رؤية الله في المنام لا دليل عليه إلا القياس على حال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رأى ربه في المنام في أحسن صورة -هذا اللفظ الصحيح في جامع الترمذي دون ألفاظ منكرة: كـ(أتاني ربي في صورة شاب أمرد...)- وأحوال النبوة من قبيل الوحي لا يقاس عليها.

وأيضاً قوله في الحديث الصحيح: ((اعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه في الدنيا)) عام لا مخصص له، فيشمل رؤيا المنام.

وما نُقل عن الإمام أحمد -رحمه الله- وغيره من الأئمة يحتاج إلى نقد، وأغلبه لا أسانيد صحيحة له، وقد تتبع بعضهم النقول الواردة في رؤية الله مناماً فوجدها تفوق عشرين نقلاً، لكن تارة وُجد بأن الإمام أحمد رأى ربه مائة مرة، وتارة أبا حنيفة، وتارة أبا يزيد البسطامي، وتارة وتارة وهكذا بهذا الاضطراب، وتارة أن رجلاً رأى ربه في المنام، فقال: يا رب كيف الوصول إليك؟ قال: حُطَّ نفسك، ثم تعال... إلى غير ذلك من الخرافات التي يجدها من يراجع: (الروض الفائق)، و(بدائع الزهور)، و(إيقاظ الهمم)، و(الطبقات الكبرى) للشعراني، و(قوت القلوب)، و(نور الأبصار)، و(جواهر المعاني، وبلوغ الأماني)، و(بغية المستفيد)، وغيرها من كتب الصوفية

ثانياً: على فرض التسليم بجواز رؤية الله في المنام فهي ليست رؤية حقيقية، وإنما هي شيء آخر، ضرْب للأمثال يأذن الله -جل وعلا- بها لحكمة، فما يراه الإنسان في منامه ويظن أنه الله -جل وعلا- فليس هو الله ذاته؛ لأن الله -عز وعلا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) والموت: هو مفارقة الروح البدن مفارقة تامة كاملة، ولا يصدق هذا على النائم؛ لأن النائم ميت من بعض الوجوه فقط، ولا يصدق عليه أنه ميت مطلقاً، فلا يمكن أن نحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)) على حال النوم باعتبار أن النوم موت، لكن الموت الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم -هو الموت الكامل الذي يحصل به تمام مفارقة الروح للبدن، وينقطع به العمل، أما النائم فموته موت نسبي، وليس موتاً تاماً، وهذا يدل على أنه لا يُرى في المنام.

ولهذا يقال: "ما خطر بالبال، أو دار في الخيال فالله بخلافه" فلا نعتقد ما يتخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك، بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره في منامه ويقظته، وإن كان ما رآه مناسبًا ومشابهًا لها، فالله تعالى أجل وأعظم.

وقال أبو البقاء الكفوي في كتاب الكليات: "واستحال الإمام أبو منصور -رحمه الله- رؤية الله تعالى في المنام، واختاره المحققون، وإن جوزه بعض الأئمة بلا مثال ولا كيفية"[62].

وقال التقي الغزي في الطبقات السنية في تراجم الحنفية: "قال في الجواهر: قال في الفتاوى رؤية الله تعالى في المنام تكلم فيه المشايخ، فقال أكثر مشايخ سمرقند: لا تجوز، حتى قيل لأحمد بن مضر: إن الرجل يقول: رأيت الله في المنام، فقال أحمد: إن مثل الإله الذي رآه في المنام كثير ما يراه الناس في السوق كل يوم" وقال أبو منصور الماتريدي: هو شرٌ من عبادة الوثن، واستحسن جواب أحمد، والسكوت في هذا الباب أحسن، انتهى"[63].

إذاً رؤية الله في المنام -على فرض التسليم بجوازها- هي ليست رؤية حقيقية، والدليل على ذلك لو سألنا من زعم أنه رأى الله في المنام: هل تستطيع أن تصف ما رأيته؟ لكان الجواب: لا، وإنما هي رؤية قلبية نابعة من القلب، والقلب يرى ويبصر، والله أعلم.

ثالثاً: أن يُعلم أن هذه الرؤية على حسب اعتقاد الرائي، فإن كان اعتقاده صحيحًا رأى ربه في حالة حسنة وصورة حسنة، وإن كان اعتقاده فيه خلل رأى ربه في صورة مناسبة لاعتقاده، فالرؤية مرتبطة بحال العبد ومدى قوة إيمانه وضعفه، وقد مر من أقوال العلماء ما يدل على ذلك.

رابعاً: ينبغي عدم التوسع في هذا الباب؛ لأنه يخشى إن فتح الباب أن تدخل علينا شيوخ الصوفية وغيرهم فيقول أحدهم: رأيت ربي البارحة، وجلست معه، وتكلمنا وتناقشنا، ثم تُذكر من هذه الخزعبلات التي لا أصل لها، فسد هذا الباب هو الأولى، وقد يؤدي إلى أن الناس يمثلون الله، وقد يُلبس عليهم في عقائدهم.

خامساً: أن من العلماء من جعل ذلك من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال علي بن برهان الدين الحلبي (975هـ - 1044هـ) في السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون: "وأما رؤية الله -عز وجل- في النوم ففي الخصائص الصغرى: ومن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه يجوز له رؤية الله -عز وجل- في المنام، ولا يجوز ذلك لغيره - صلى الله عليه وسلم - في أحد القولين، وهو اختياري، وعليه أبو منصور الماتريدى"[64].

سادساً: أما قول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة: "لكن يُرى في المنام ويحصل للقلوب من المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها، ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط، ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية"[65].

فلنا عليه ملاحظات، هي:
- على الرغم من أن شيخ الإسلام -رحمه الله- حارب التصوف والمتصوفة، ورد عليهم كثيراً، إلا أنه هنا بالغ في هذه المسألة، واستخدم مصطلحات أهل التصوف، فذكر المكاشفات، ومشاهدات القلوب، والصور المثالية، وهذه كلها إنما هي من مصطلحات الصوفية، ولم يُعرَف مثلها عن السلف الصالح في العصور المشهود لها بالخير، وكان ينبغي له-رحمه الله- تجنب استخدام مثل هذه المصطلحات البدعية؛ فإنه يجب الالتزام بالألفاظ الشرعية في العقيدة وتجنب الألفاظ البدعية التي أحدثها الناس.

- لم يذكر -رحمه الله- جميع أقوال العلماء ومذاهبهم في هذه المسألة -وهو معروف بإنصافه-، ولم يشر إلى مذهب الحنفية، وهو يعلم أن الحنفية ينكرونها أشد الإنكار، بل يحكمون بردة من يزعمها، كما نظمه صاحب (الشيبانية)، وهي منظومة طبعت ضمن مجموع الكبير بمصر من دواوينهم الفقهية .

سابعاً: ثم إن المشكل معرفة المرئي من هو؟ وما هو؟ وما صفتُه؟ فإن الزاعمين للرؤية لا يجرؤون على البيان، بل توالت عباراتهم على أن المرئي مثالٌ أو رمزٌ ولا يمكن أن يوصَف أو يكيف، وإنما هو خطابٌ أو إشارة يقع في روع النائم أنه الله وما يدريه أنه هو؟! وقد استغلَّ هذه المسألة بعض المتصوفة المعروفين بشطحاتهم الصوفية، فزعم بعضهم أن أحد أنعامه رأى الله تعالى في صورته هو، وذكروا من هذه الشطحات ما لا يدل عليه لا عقل ولا نقل، فالأولى سد هذا الباب، والله أعلم

وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


يتبع ...



 

رد مع اقتباس