#1
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مقتطفات من كتاب العلامة ابن القيم ( اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان )
فصل في كيده للإنسان بالوسوسة ومن كيده الذي بلغ الجهال ما بلغ : الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال ، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره ، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو تنقيصه . ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس : فأهله قد أطاعوا الشيطان ، ولبوا دعوته ، واتبعوا أمره ، ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وطريقته ، حتى أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو اغتسل كاغتساله ، لم يطهر ولم يرتفع حدثه . ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول ، فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد ، وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي ، ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث ، والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه ، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ، ولم يزد على ثلاث ، بل أخبر أن : " من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم " فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به متعد فيه لحدوده ؟ . " وصح عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين " ، ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار، وقال : ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين ؟ كيف والعجين يحلله الماء فيغيره ؟ هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم ، ويفسده عند آخرين ، فلا تصح به الطهارة ، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك مع غير عائشة ، مثل ميمونة وأم سلمة، وهذا كله في الصحيح . وثبت أيضا في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : كان الرجال والنساء على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضئون من إناء واحد والآنية التي كان عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها، كأنبوب الحمام ونحوه ، ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافاتها ، كما يراعيه جهال الناس ممن بلي بالوسواس في جرن الحمام . فهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته ، جواز الاغتسال من الحياض والآنية ، وإن كانت ناقصة غير فائضة، ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده ولم يمكن أحدا أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة . قال شيخنا : ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ، ويعبدوا الله بالبدع بالاتباع . ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان . قال سعيد بن المسيب : إني لأستنجي من كوز الحب وأتوضأ وأفضل منه لأهلي . وقال الإمام أحمد : من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء . وقال المروزي : وضأت أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء لقلة صبه الماء . وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح : " أنه توضأ من إناء فأدخل يده فيه ثم تمضمض واستنشق " وكذلك كان في غسله يدخل يده في الإناء ، يتناول الماء منه، والموسوس لا يجوز ذلك ، ولعله أن يحكم بنجاسة الماء ويسلبه طهوريته بذلك . وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن يأتي بمثل ما أتى بل أبدا، وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفرق قريبا من خمسة أرطال بالدمشقي ، يغمسان أيديهما فيه ، ويفرغان عليهما ؟ فالموسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذكر الله وحده . قال أصحاب الوسواس : إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا ، والعمل بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وقوله : " من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " وقوله : " الإثم ما حاك في الصدر " . وقال بعض السلف : الإثم حور القلوب، وقد وجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تمرة فقال : " لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها " أفلا يرى أنه ترك أكلها احتياطا ؟ . وقد أفتى مالك رحمه الله فيمن طلق امرأته وشك : هل هي واحدة أم ثلاث : بأنها ثلاث ، احتياطا للفروج . وأفتى من حلف بالطلاق : إن في هذه اللوزة حبتين، وهو لا يعلم ذلك ، فبان الأمر كما حلف عليه : أنه حانث ، لأنه حلف على مالا يعلم . وقال فيمن طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها : يطلق عليه جميع نسائه احتياطا ، وقطعا للشك . وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها : أنه يلزمه جميع ما يحلف به عادة ، فيلزمه الطلاق، والعتاق، والصدقة بثلث المال، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين بالله تعالى ، والحج ماشيا ، ويقع الطلاق في جميع نسائه ، ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه . وهذا أحد القولين عندهم . ومذهب مالك أيضا : أنه إذا حلف ليفعلن كذا : أنه على حنث حتى يفعله، فيحال بينه وبين امرأته . ومذهبه أيضا : أنه إذا قال إذا جاء رأس الحول فأنت طالق ثلاثا : أنها تطلق في الحال . وهذا كله احتياط . وقال الفقهاء : من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله . وقالوا : إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجس منها ثياب، وشك فيها ، صلى في ثوب بعد ثوب ، بعدد النجس ، وزاد صلاة لتيقن براءة ذمته . وقالوا : إذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم، وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة ، فلا يدري في أي جهة ، فإنه يصلي أربع صلوات عند بعض الأئمة ، لتبرأ ذمته بيقين . وقالوا : من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلي خمس صلوات . وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام من شك في صلاته أن يبني على اليقين . وحرم أكل الصيد إذا شك صاحبه هل مات بسهمه أو بغيره ، كما إذا وقع في الماء . وحرم أكله إذا خالط كلبه كلبا آخر، للشك في تسمية صاحبه عليه . وهذا باب يطول تتبعه . فالاحتياط والأخذ باليقين غير مستنكر في الشرع ، وإن سميتموه وسواسا . وقد كان عبدالله بن عمر يغسل داخل عينيه في الطهارة، حتى عمي . وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع في العضد ، وإذا غسل رجليه أشرع في الساقين . فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين وتركنا ما يريب إلى مالا بريب ، وتركنا المشكوك فيه للمتيقن المعلوم ، وتجنبنا محل الاشتباه ، لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين ، ولا في البدعة والجين ، وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال ؟ حتى لا يبالي العبد بدينه، ولا يحتاط له ، بل يسهل الأشياء ويمشي حالها ، ولا يبالي كيف توضأ ؟ ولا بأي ماء توضأ ؟ ولا بأي مكان صلى ؟ ولا يبالي ما أصاب ذيله وثوبه ، ولا يسأل عما عهد بل يتغافل ، ويحسن ظنه ، فهو مهمل لدينه لا يبالي ما شك فيه . ويحمل الأمور على الطهارة ، وربما كانت أفحش النجاسة، ويدخل بالشك ويخرج بالشك . فأين هذا ممن استقصى في فعل ما أمر به ، واجتهد فيه ، حتى لا يخل بشيء منه ، وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور ، وأن لا ينقص منه شيئا ؟ . قالوا : وجماع ما ينكرونه علينا احتياط في فعل مأمور، أو احتياط في اجتناب محظور . وذلك خير وأحسن عاقبة من التهاون بهذين، فإنه يفضي غالبا إلى النقص من الواجب، والدخول في المحرم ، وإذا وازنا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخف، هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسا ، وإنما نسميه احتياطا واستظهارا ، فلستم بأسعد منا بالسنة ، ونحن حولها ندندن ، وتكميلها نريد . وقال أهل الاقتصاد والاتباع : قال الله تعالى : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر" ، وقال تعالى : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " ، وقال تعالى : " واتبعوه لعلكم تهتدون " ، وقال تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " . وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو قصد السبيل ، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة ، وإن قاله من قاله ، لكن الجور قد يكون جورا عظيما عن الصراط ، وقد يكون يسيرا ، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله وهذا كالطريق الحسي ، فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جورا فاحشا ، وقد يجور دون ذلك ، فالميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله وأصحابه عليه، والجائر عنه إما مفرط ظالم ، أو مجتهد متأول ، أو مقلد جاهل . فمنهم المستحق للعقوبة، ومنهم المغفور له ، ومنهم المأجور أجرا واحدا ، بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم في طاعة الله تعالى ورسوله ، أو تفريطهم . ونحن نسوق من هدى رسول الله وهدى أصحابه ما يبين أي الفريقين أولى باتباعه ، ثم نجيب عما احتجوا به بعون الله وتوفيقه . ونقدم قبل ذلك ذكر النهي عن الغلو ، وتعدي الحدود، والإسراف وإن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين . قال الله تعالى : " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " وقال تعالى : " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " وقال تعالى : " تلك حدود الله فلا تعتدوها " وقال تعالى : " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " وقال تعالى : " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين " . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم - غداة العقبة وهو على ناقته :- " القط لي حصا . فلقطت له سبع حصيات من حصا الخذف ، فجعل ينفضهن في كفة ويقول : أمثال هؤلاء فارموا ، ثم قال : أيها الناس . إياكم والغلو في الدين . فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين " رواه الإمام أحمد والنسائي . وقال أنس رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " لاتشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم . فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " . فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التشديد في الدين ، وذلك بالزيادة على المشروع وأخبر، أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقدر، وإما بالشرع . فالتشديد بالشرع : كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، وبالقدر كفعل أهل الوسواس . فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم . قال البخاري : وكره أهل العلم الإسراف فيه - يعني الوضوء - وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إسباغ الوضوء : الإتقاء . فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين ، والاعتصام بالسنة . قال أبي بن كعب : عليكم بالسبيل والسنة ، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز وجل فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم . قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه ذم الوسواس : الحمد لله الذي هدانا بنعمته ، وشرفنا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم برسالته ، ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته، ومن علينا باتباعه الذي جعله علما على محبته ومغفرته ، وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته ، فقال سبحانه : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " ، وقال تعالى : " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " ثم قال : "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون " . أما بعد : فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم ، ويأتيه من كل جهة وسبيل ، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال : " لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " ، وحذرنا الله عز وجل من متابعته ، وأمرنا بمعاداته ومخالفته ، فقال سبحانه : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " ، وقال : " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " ، وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته ، وقطعا للعذر في متابعته ، وأمرنا الله سبحانه وتعالى بإتباع صراطه المستقيم ونهانا عن إتباع السبل ، فقال سبحانه : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " ، وسبيل الله وصراطه المستقيم : هو الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته ، بدليل قوله عز وجل : " يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم " ، وقال : " إنك لعلى هدى مستقيم " وقال : " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فمن اتبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم ، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه ، ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع ، متبع لسبيل الشيطان غير داخل فبمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان . فصل في ذم الموسوسين ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان ، حتى اتصفوا بوسوسته ، وقبلوا قوله ، وأطاعوه ، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته ، حق أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام ، أو صلى كصلاته ، فوضوءه باطل ، وصلاته غير صحيحة . ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في مواكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين ، أنه قد صار نجسا ، يجب عليه تسبيع يده وفمه ، كما لو ولغ فيهما كلب أو بال عليهما هر . ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات، والأمور المحسوسات ، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات ، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر، ويقرأ بلسانه ، بحيث تسمعه أذناه ، ويعلمه بقلبه ، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه ، ثم يشك : هل فعل ذلك أم لا ؟ وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعلمها من نفسه يقينا ، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله . ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه مانوى الصلاة ، ولا أرادها ، مكابرة منه لعيانه ، وجحدا ليقين نفسه ، حتى تراه متلددا متحيرا : كأنه يعالج شيئا يجتذبه ، أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه . كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس، وقبول وسوسته ، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته . ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده، تارة بالغوص في الماء البارد ، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك ، وربما فتح عينيه في الماء البارد ، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس ، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزىء به من يراه . قلت : ذكر أبو الفرج ابن الجوزي عن أبي الوفاء ابن عقيل : أن رجلا قال له : أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك : هل صح [لي] الغسل أم لا ، فما ترى في ذلك ؟ فقال له الشيخ : اذهب ، فقد سقطت عنك الصلاة . قال : وكيف ؟ قال : لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة : المجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ ، والصبي حتى يبلغ " ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا ، فهو مجنون . قال : وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت ويشغله بوسوسته في النية حق تفوته التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أوأكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ، ثم يكذب . قلت : وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة ، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة ، فلم يدعه إبليس حتى زاد ، ففرق بينه وبين امرأته ، فأصابه لذلك غم شديد ، وأقاما متفرقين دهرا طويلا ، حتى تزوجت ، تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد ، ثم إنه حنث في يمين حلفها ففرقا بينهما وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها . وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك ، فاشتد به التنطع والتقعر يوما إلى أن قال : أصلي، أصلي ، مرارا ، صلاة كذا وكذا . وأراد أن يقول : أداء ، فأعجم الدال ، وقال : أذاء لله . فقطع الصلاة رجل إلى جانبه ، يقال : ولرسوله وملائكته وجماعه المصلين . قال : ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مرارا . قال : فرأيت منهم من يقول : الله أكككبر . قال : وقال لي إنسان منهم : قد عجزت عن قول : السلام عليكم فقلت له : قل مثل ما قد قلت الآن ، وقد استرحت . وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة ، وأخرجهم عن اتباع الرسول ، وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله وفعله ، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم ، وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته ، ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" وليترك التعرج على كل ما خالف طريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام كائنا ما كان ، فإنه لا يشك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان على الصراط المستقيم ، ومن شك في هذا فليس بمسلم . ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته ؟ وأي شيء يبتغي العبد غير طريفته ؟ ويقول لنفسه : ألست تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هي الصراط المستقيم ؟ فإذا قالت له : بلى ، قال لها : فهل كان يفعل هذا ؟ فستقول : لا ، فقل لها : فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار ؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان ؟ فإن اتبعت سبيله كنت قرينه، وستقولين : " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " . ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فليقتد بهم، وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال : " لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته " . قلت : هو إبراهيم النخعي . وقال زين العابدين يوما لابنه : يا بني ، اتخذ لي ثوبا ألبسه عند قضاء الحاجة ، فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب، ثم انتبه فقال : ما كان للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد ، فتركه . وكان عمر رضي الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له : لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى، حتى أنه قال : لقد هممت أن أنهي عن لبس هذه الثياب ، فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز. فقال له أبي : ما لك أن تنهي ، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد لبسها ولبست في زمانه ، ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم . فقال عمر: صدقت . ثم ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته ، وهم خير الخلق وأفضلهم ، ولو أدرك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الموسوسين لمقتهم ، ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم ، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم ، وها أنا أذكر ما جاء في خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلا . في النية في الطهارة والصلاة النية هي القصد والعزم على فعل الشيء، ومحلها القلب ، لا تعلق لها باللسان أصلا ، ولذلك لم ينقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن أصحابه في النية لفظ بحال ، ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك . وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس ، يحبسهم عندها . ويعذبهم فيها ، ويوقعهم في طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها، وليست من الصلاة في شيء ، وإنما النية قصد فعل الشيء ، فكل عازم على فعل فهو ناويه ، لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها، فلا يمكن عدمها في حال وجودها . ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ، ولا يكاد العاقل يفعل شيئا من العبادات ولا غيرها بغير نية، فالنية لازم لأفعال الإنسان المقصودة ، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل . ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نية لعجز عن ذلك . ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه مالا يطيق، ولا يدخل تحت وسعه . وما كان هكذا فما وجه التعب في تحصيله ؟ وإن شك في حصول نيته فهو نوع جنون . فإنما علم الإنسان بحال نفسه أمر يقيني . فكيف يشك فيه عاقل من نفسه ؟ ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك في ذلك ؟ ولو دعاه داع إلى شغل في تلك الحال لقال : إني مشتغل أريد صلاة الظهر ، ولو قال قائل في وقت خروجه إلى الصلاة : أين تمضي ؟ لقال : أريد صلاة الظهر مع الإمام ، فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا ؟ بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال ، فإنه إذا رأى إنسانا جالسا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة . وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها، علم أنه إنما قام ليصلي . فإن تقدم بين يدي المأمومين علم أنه يريد إمامتهم . فإن رآه في الصف علم أنه يريد الائتمام . قال : فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال ، فكيف يجهلها من نفسه ، مع اطلاعه هو على باطنه ؟ فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له في جحد العيان، وإنكار الحقائق المعلومة يقينا، ومخالفة للشرع، ورغبة عن السنة ، وعن طريق الصحابة . ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها ، والموجودة لا يمكن إيجادها ، لأن من شرط إيجاد الشيء كونه معدوما ، فإن إيجاد الموجود محال ، وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيء ، ولو وقف ألف عام . قال : ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه ، حتى يركع الإمام ، فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا وأدركه . فمن لم يحصل النية في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة ؟ ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلا أو عسيرا ، فإن كان سهلا فكيف يعسره ؟ وإن كان عسيرا فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواء ؟ وكيف خفي ذلك على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته من أولهم إلى آخرهم ، والتابعين ومن بعدهم ؟ وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان ، أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له ؟ أما علم أنه لا يدعو إلى هدى، ولا يهدي إلى خير؟ وكيف يقول في صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس ؟ أهي ناقصة عنده مفضولة، أم هي التامة الفاضلة ، فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم ؟ فإن قال : هذا مرض بليت به . قلنا : نعم سببه قبولك من الشيطان، ولم يعذر الله تعالى أحدا بذلك . ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة ، ونودي عليهما بما سمعت، وهما أقرب إلى العذر، لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به، وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته ، وبين لك عداوته ، وأوضح لك الطريق ، فما لك عذر ولا حجة في ترك السنة والقبول من الشيطان . قلت : قال شيخنا : ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها ، فيقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . نويت أصلي صلاة الظهر فريضه الوقت، أداء الله تعالى ، إماما أو مأموما، أربع ركعات ، مستقبل القبلة ، ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه ، ويصرخ بالتكبير ، كأنه يكبر على العدو . ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش : هل فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك ، لما ظفر به ، إلا أن يجاهر بالكذب البحت . فلو كان في هذا خير لسبقونا إليه ، ولدلونا عليه . فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه ، وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟! قال : ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة ، مثل تكرير بعض الكلمة ، كقوله في التحيات : ات ات ، التحي التحي ، وفي السلام : أس أس . وقوله في التكبير : أكككبر ونحو ذلك ، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماما فأفسد صلاة المأمومين ، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعادا له عن الله من الكبائر ، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهديه، وما كان عليه أصحابه، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه ، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه ، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة ، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها ، وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت ، والاشتغال بما ينقص أجره ، وفوات ما هو أنفع له ، وتعريض نفسه لطعن الناس فيه ، وتغرير الجاهل بالأقتداء به ، فإنه يقول : لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه ، وأساء الظن بما جاءت به السنة ، وأنه لا يكفي وحده ، وانفعال النفس وضعفها للشيطان، حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه بالقدر، عقوبة له ، وإقامته على الجهل ، ورضاه بالخبل في العقل ، كما قال أبو حامد الغزالي وغيره ، الوسوسة سببها إما جهل بالشرع وإما خبل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب . فهذه نحو خمسة عشر مفسدة في الوسواس ، ومفاسده أضعاف ذلك بكثير . وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص قال : قلت : يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيي وبين صلاتي يلبسها علي ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثا ، ففعلت ذلك ، فاذهبه الله تعالى عني " . فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه ، نعوذ بالله عز وجل منه . فصل في الإسراف بماء الوضوء ومن ذلك الإسراف في ماء الوضوء والغسل . وقد روى أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو : " أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ، فقال : لاتسرف ، فقال : يا رسول الله ... أوفي الماء إسراف ؟ قال : نعم ، وإن كنت على نهر جار " . وفي جامع الترمذي من حديث أبي بن كعب : أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء " . وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسأله عن الوضوء ، فأراه ثلاثا ثلاثا، وقال : هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم " . وفي كتاب الشافي لأبي بكر عبد العزيز من حديث أم سعد قالت : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " يجزىء من الوضوء مد، والغسل صاع . وسيأتي قوم يستقلون ذلك، فأولئك خلاف أهل سنتي، والآخذ بسنتي في حظيرة القدس متنزه أهل الجنة " . وفي سنن الأثرم من حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال : يجزىء من الوضوء المد ومن الغسل من الجنابة الصاع، فقال رجل : ما يكفيني ، فغضب جابر حتى تربد وجهه ، ثم قال : قد كفى من هو خير منك وأكثر شعرا . وقد رواه الإمام أحمد في مسنده مرفوعا ، ولفظه عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " يجزىء من الغسل الصاع ومن الوضوء المد " . وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها : أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد ، أو قريبا من ذلك . وفي سنن النسائي عن عبيد بن عمير: أن عائشة رضي الله عنها قالت : لقد رأيتني أغتسل أنا ورسول الله من هذا - فإذا تور موضوع مثل الصاع أو دونه - نشرع فيه جميعا ، فأقيض بيدي على رأسي ثلاث مرات ، وما أنقض لي شعرا . وفي سنن أبي داود والنسائي عن عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : " توضأ ، فأتى بماء في إناء قدر ثلثي المد " . وقال عبد الرحمن بن عطاء : سمعت سعيد بن المسيب يقول : إن لي ركوة أوقدحا ، ما يسع إلا نصف المد أو نحوه ، أبول ثم أتوضا منه ، وأفضل منه فضلا قال عبدالرحمن : فذكرت ذلك لسليمان بن يسار فقال : وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبد الرحمن : فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال : وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رواه الأثرم في سننه . وقال إبراهيم النخعي : كانوا أشد استيفاء للماء منكم ، وكانوا يرون أن ربع المد يجزىء من الوضوء . وهذا مبالغة عظيمة ، فإن ربع المد لا يبلغ أوقية ونصفا بالدمشقي . وفي الصحيحين عن أنس قال : " كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد " . وفي صحيح مسلم عن سفينة قال : " كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يغسله الصاع من الجنابة ، ويوضئه المد " . وتوضأ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقدر نصف المد أو أزيد بقليل . وقال إبراهيم النخعي : إني لأتوضا من كوزالحب مرتين . وقال محمد بن عجلان : الفقه في دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء . وقال الإمام أحمد : كان يقال : من قلة فقه الرجل ولعه بالماء . وقال الميموني : كنت أتوضا بماء كثير، فقال لي أحمد : يا أبا الحسن ، أترضى أن تكون كذا ؟ فتركته . وقال عبد الله بن أحمد : قلت لأبي : إني لاكثر الوضوء، فنهاني عن ذلك ، وقال : يا بني ، يقال : إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان . قال لي ذلك غير مرة ، ينهاني عن كثرة صب الماء ، وقال لي : أقلل من هذا الماء يا بني . وقال إسحاق بن منصور : قلت لأحمد : نزيد على ثلاث في الوضوء ؟ فقال : لا والله إلا رجل مبتلى . وقال أسود بن سالم - الرجل الصالح شيخ الإمام أحمد : كنت مبتلى بالوضوء ، فنزلت دجلة أتوضأ ، فسمعت هاتفا يقول : يا أسود، يحيى عن سعيد الوضوء ثلاث ، ما كان أكثر لم يرفع ، فالتفت فلم أر أحدا . وقد روى أبو داوود في سننه من حديث عبد الله بن مغفل قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : " سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء " . فإذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى " إنه لا يحب المعتدين " وعلمت أن الله يحب عبادته، أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس بعبادة يقبلها الله تعالى ، وإن أسقطت الفرض عنه ، فلا تفتح أبواب الجنة الثمانية لوضوئه يدخل من أيها شاء . ومن مفاسد الوسواس : أنه يشغل ذمته بالزائد على حاجته، إذا كان الماء مملوكا لغيره كماء الحمام ، فيخرج منه وهو مرتهن الذمة بما زاد على حاجته ، ويتطاول عليه الدين حتى يرتهن من ذلك بشيء كثير جدا يتضرر به في البرزخ ويوم القيامة . يتبع .......
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرَّجلُ لأخيهِ بظَهرِ الغيبِ قالَتِ الملائِكةُ آمينَ ولَك بمِثلٍ» الراوي: عويمر بن مالك أبو الدرداء المحدث:الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - خلاصة حكم المحدث: صحيح فلاتحرمونا دعائكم |
23 Mar 2017, 09:54 AM | #2 |
باحث جزاه الله تعالى خيرا
|
رد: مقتطفات من كتاب العلامة ابن القيم ( اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان )
فصل في وسوسة انتقاض الطهارة ومن ذلك الوسواس في انتقاض الطهارة لا يلتفت إليه . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه : أخرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " . وفي الصحيحين عن عبد الله بن زيد قال : " شكي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، قال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " . وفي المسند وسنن أبي داوود عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فيأخذ بشعرة من دبره فيمدها ، فيرى أنه قد أحدث ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " ولفظ أبي داوود : " إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له : إنك قد أحدثت ، فليقل له : كذبت ، إلا ما وجد ريحا بأنفه ، أو سمع صوتا بأذنه " . فأمر عليه الصلاة والسلام بتكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه ، فكيف إذا كان كذبه معلوما متيقنا ، كقوله للموسوس : لم تفعل كذا ، وقد فعله ؟ . قال الشيخ أبو محمد : ويستحب للانسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال ، ليدفع عن نفسه الوسوسة، فمتى وجد بللا قال : هذا من الماء الذي نضحته ، لما روى أبو داوود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفي ، أو الحكم بن سفيان قال : " كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إدا بال توضأ وينتضح " وفي رواية : " رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بال ثم نضح فرجه " وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله . وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء، فأمره أن ينضح فرجه إذا بال ، قال : ولا تجعل ذلك من همتك واله عنه . وسئل الحسن أو غيره عن مثل هذا فقال : أله عنه فأعاد عليه المسألة فقال : أتستدره لا أب لك ، اله عنه . فصل في ما يفعله الموسوسين ومن هذا ما يفعله كثير من الموسوسين بعد البول وهو عشرة أشياء : السلت، والنتر، والنحنحة ، والمشي ، والقفز ، والحبل ، والتفقد ، والوجور ، والحشو ، والعصابة ، والدرجة . أمل السلت فيسلته من أصله إلى رأسه ، على أنه قد روي في ذلك حديث غريب لا يثبت ، ففي المسند وسنن ابن ماجة عن عيسى بن داوود عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " إذا بال أحدكم فليمسح ذكره ثلاث مرات " . وقال جابر بن زيد : إذا بلت فامسح أسفل ذكرك فإنه ينقطع رواه سعيد عنه . قالوا : ولأنه بالسلت والنتر يستخرج ما يخشى عوده بعد الاستنجاء . قالوا : وإن احتاج إلى مشي خطوات لذلك ففعل فقد أحسن، والنحنحة ليستخرج الفضلة . وكذلك القفز يرتفع عن الأرض شيئا ثم يجلس بسرعة . والحبل يتخذ بعضهم حبلا يتعلق به حتى يكاد يرتفع ، ثم ينخرط منه حتى يقعد ، والتفقد يمسك الذكر ثم ينظر في المخرج هل بقي فيه شيء أم لا، والوجور يمسكه ثم يفتح الثقب ويصب فيه الماء ، والحشو يكون معه ميل وقطن يحشوه به كما يحشو الدمل بعد فتحها، والعصابة يعصبه بخرقة، والدرجة يصعد في سلم قليلا ثم ينزل بسرعة ، والمشي يمشي خطوات ثم يعيد الاستجمار . قال شيخنا : وذلك كله وسواس وبدعة ، فراجعته في السلت والنتر فلم يره ، وقال : لم يصح الحديث ، قال : والبول كاللبن في الضرع إن تركته قر وإن حلبته در . قال : ومن اعتاد ذلك ابتلى منه بما عوفي منه من لها عنه . قال : ولو كان هذا سنة لكان أولى الناس به رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه وقد قال اليهودي لسلمان : لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخرأة ، فقال : أجل فأين علمنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك أو شيئا منه ؟ بلى علم المستحاضة أن تتلجم ، وعلى قياسها من به سلس البول أن يتحفظ ، ويشد عليه خرقة . فصل في تسهيل الأشياء ومن ذلك أشياء سهل فيها المبعوث بالحنيفية السمحة فشدد فيها هؤلاء . فمن ذلك المشي حافيا في الطرقات ، ثم يصلي ولا يغسل رجليه ، فقد روى أبو داوود في سننه : عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت : " قلت : يا رسول الله ، إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة ، فكيف نفعل إذا تطهرنا ؟ قال : أو ليس بعدها طريق أطيب منها ؟ قالت : بلى . قال : فهذه بهذه " . وقال عبد الله بن مسعود : كنا لانتوضأ من موطىء . وعن علي رضي الله عنه : أنه خاض في طين المطر، ثم دخل المسجد فصلى ، ولم يغسل رجليه . وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الرجل يطأ العذرة ؟ قال : إن كانت يابسة فليس بشيء ، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه . وقال حفص : أقبلت مع عبد الله بن عمر عامدين إلى المسجد . فلما انتهينا عدلت إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابهما، فقال عبد الله : لا تفعل ، فإنك تطأ الموطىء الرديء ، ثم تطأ بعده الموطىء الطيب - أو قال : النظيف - فيكون ذلك طهورا ، فدخلنا المسجد جميعا فصلينا . وقال أبو الشعثاء : كان ابن عمر يمشي بمنى في الفروث والدماء اليابسة حافيا ، ثم يدخل المسجد فيصلي فيه ، ولا يغسل قدميه . وقال عمران بن حدير: كنت أمشي مع أبي مجلز إلى الجمعة، وفي الطريق عذرات يابسة ، فجعل يتخطاها ويقول : ما هذه إلا سودات ، ثم جاء حافيا إلى المسجد فصلى ، ولم يغسل قدميه . وقال عاصم الأحول : أتينا أبا العالية فدعونا بوضؤ فقال : ما لكم، ألستم متوضئين ؟ قلنا : بلى ، ولكن هذه الأقذار التى مررنا بها ؟ قال : هل وطئتم على شيء رطب تعلق بأرجلكم ؟ قلنا : لا . فقال : فكيف بأشد من هذه الأقذار يجف فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم ؟ فصل في خلع النعال ومن ذلك أن الخف والحذاء إذا أصابت النجاسة أسفله أجزء دلكه بالأرض مطلقا ، وجازت الصلاة فيه بالسنة الثابتة . نص عليه أحمد، وأختاره المحققون من أصحابه . قال أبو البركات : ورواية : إجزاء الدلك مطلقا هي الصحيحة عندي، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : "إذا وطىء أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور" ، وفي لفظ : " إذا وطىء أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب " رواهما أبو داوود . وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم ، فلما انصرف قال : لم خلعتم ؟ قالوا : يا رسول الله ، رأيناك خلعت فخلعنا ، فقال : إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا ، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ، ثم ينظر فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ، ثم ليصل فيها " رواه الإمام أحمد . وتأويل ذلك : على ما يستقذر من مخاط أو نحوه من الطاهرات لا يصح ، لوجوه : أحدها : أن ذلك لا يسمى خبثا . الثاني : أن ذلك لا يؤمر بمسحه عند الصلاة فإنه لا يبطلها . الثالث : أنه لا تخلع النعل لذلك في الصلاة ، فإنه عمل لغير حاجة ، فأقل أحواله الكراهة . الرابع : أن الدارقطني روى في سننه في حديث الخلع من رواية ابن عباس : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " إن جبريل أتاني ، فأخبرني أن فيهما دم حلمة " والحلم كبار القراد . ولأنه محل يتكرر ملاقاته للنجاسة غالبا ، فأجزأ مسحه بالجامد ، كمحل الاستجمار ، بل أولى . فإن محل الاستجمار يلاقي النجاسة في اليوم مرتين أو ثلاثا . فصل في ذيل المرأة وكذلك ذيل المرأة على الصحيح، وقالت امرأة لأم سلمة : إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر. فقالت : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " يطهره ما بعده " رواه أحمد وأبو داوود وقد رخص النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة أن ترخي ذيلها ذراعا، ومعلوم أنه يصيب القذر ولم يأمرها بغسل ذلك ، بل أفتاهن بأنه تطهره الأرض . فصل في ما لا يصيب قلوب الموسوسين ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين : الصلاة في النعال . وهي سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه ، فعلا منه وأمرا . فروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " كان يصلي في نعليه " متفق عليه . وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " خالفوا اليهود ، فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا نعالهم " رواه أبو داوود . وقيل للإمام أحمد : أيصلي الرجل في نعليه ؟ فقال : أي والله . وترى أهل الوسواس - إذا بلي أحدهم بصلاة الجنازة في نعليه - قام على عقيبهما كأنه واقف على الجمر، حتى لا يصلي فيهما . وفي حديث أبي سعيد الخدري : " إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر ، فإن رأى على نعليه قذرا فليمسحه ، وليصل فيهما " . فصل في الصلاة بأي مكان ومن ذلك : أن سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : الصلاة حيث كان ، وفي أي مكان اتفق ، سوى ما نهى عنه من المقبرة ، والحمام وأعطان الإبل ، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فحيثما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فليصل " وكان يصلي في مرابض الغنم ، وأمر بذلك ، ولم يشترط حائلا . قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم ، إلا الشافعي . فإنه قال : أكره ذلك ، إلا إذا كان سليما من أبعارها . وقال أبو هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الابل " رواه الترمنري وقال : حديث حسن صحيح . وروى الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الابل - أو مبارك الإبل " . وفي المسند أيضا ، من حديث عبد الله بن المغفل قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " صلوا في مرابض الغنم ولاتصلوا في أعطان الابل ، فإنها خلقت من الشياطين " . وفي الباب عن جابر بن سمرة، والبراء بن عازب ، وأسيد بن الحضير وذي الغرة ، كلهم رووا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : " صلوا في مرابض الغنم " وفي بعض ألفاظ الحديث : " صلوا في مرابض الغنم ، فإن فيها بركة " . وقال : " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه أهل السنن كلهم ، إلا النسائي . فاين هذا الهدى من فعل من لا يصلي إلا على سجادة تفرش فوق البساط فوق الحصير، ويضع عليها المنديل ، ولا يمشي على الحصير ولا على البساط ، بل يمشي عليها نقرا كالعصفور ؟ فما أحق هؤلاء بقول ابن مسعود: لأنتم أهدى من أصحاب محمد أو أنتم على شعبة ضلالة . وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام على حصير قد أسود من طول ما لبس ، فنضح له بالماء وصلى عليه، ولم يفرش له فوقه سجادة ولا منديل، وكان يسجد على التراب تارة وعلى الحصا تارة، وفي الطين تارة ، حتى يرى أثره على جبهته وأنفه . وقال ابن عمر : كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ، ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك رواه البخاري ، ولم يقل وتبول وهو عند أبي داوود بإسناد صحيح بهذه الزيادة . فصل في وضوء الصحابة والتابعين ومن ذلك : أن الصحابة والتابعين كانوا يتوضئون من الحياض والأواني المكشوفة ، ولا يسألون : هل أصابتها نجاسة، أو وردها كلب أو سبع ؟ ففي الموطأ عن يحيى بن سعيد : إن عمر رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضا ، فقال عمرو : يا صاحب الحوض ، هل ترد حوضك السباع ؟ فقال عمر رضي الله عنه : لا تخبرنا . فإنا نرد على السباع وترد علينا . وفي سنن ابن ماجة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل : " أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال : نعم ، وبما أفضلت السباع " . ومن ذلك : أنه لو سقط عليه شيء من ميزاب ، لا يدري هل هو ماء أو بول . لم يجب عليه أن يسأل عنه . فلو سأل لم يجب على المسؤول أن يجيبه ، ولو علم أنه نجس ، ولا يجب عليه غسل ذلك . ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما ، فسقط عليه شيء من ميزاب ، ومعه صاحب له . فقال : يا صاحب الميزاب ماؤك طاهرأو نجس ؟ فقال عمر رضي الله عنه : يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ، ومضى ذكره أحمد . قال شيخنا : وكذلك إذا أصاب رجله أو ذيله بالليل شيء رطب ولا يعلم ما هو، لم يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو . واحتج بقصة عمر رضي الله عنه في الميزاب . وهذا هو الفقه فإن الأحكام إنما تترتب على المكلف بعد علمه بأسبابها ، وقبل ذلك هي على العفو . فما عفا الله عنه فلا ينبغي البحث عنه . فصل في الصلاة بالدم ومن ذلك : الصلاة مع يسيرالدم ، ولا يعيد . قال البخاري : قال الحسن رحمه الله : ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم . قال : وعصر ابن عمر رضي الله عنه بثرة ، فخرج منها دم فلم يتوضأ . وبصق ابن أبي أوفى دما ومضى في صلاته . وصلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثغب دما . ومن ذلك : أن المراضع ما زلن من عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى الآن يصلين في ثيابهن ، والرضعاء يتقيئون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها ، فلا يغسلن شيئا من ذلك ، لأن ريق الرضيع مطهر لفمه ، لأجل الحاجة ، كما أن ريق الهرة مطهر لفمها . وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات " " وكان يصغي لها الإناء حتى تشرب " وكذلك فعل أبو قتادة . مع العلم اليقيني أنها تأكل الفأر والحشرات ، والعلم القطعي أنه لم يكن بالمدينة حياض فوق القلتين تردها السنانير وكلاهما معلوم قطعا . ومن ذلك : أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يصلون وهم حاملو سيوفهم ، وقد أصابها الدم ، وكانوا يمسحونها ، ويجتزئون بذلك وعلى قياس هذا : مسح المرآة الصقيلة إذا أصابتها النجاسة ، فإنه يطهرها . وقد نص أحمد على طهارة سكين الجزار بمسحها . ومن ذلك : أنه نص على حبل الغسال أنه ينشر عليه الثوب النجس ، ثم تجففه الشمس ، فينشر عليه الثوب الطاهر . فقال : لا بأس به . وهذا كقول أبي حنيفة : إن الأرض النجسة يطهرها الريح والشمس . وهو وجه لأصحاب أحمد ، حتى إنه يجوز التيمم بها . وحديث ابن عمر رضي الله عنهما كالنص في ذلك . وهو قوله : كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك . وهذا لا يتوجه إلا على القول بطهارة الأرض بالريح والشمس . ومن ذلك : أن الذي دلت عليه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وآثار أصحابه : أن الماء لا ينجس إلا بالتغير ، وإن كان يسيرا . وهذا قول أهل المدينة وجمهور السلف ، وأكثر أهل الحديث . وبه أفتى عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن المسيب ، وجابر بن زيد والأوزاعي ، وسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأختاره ابن المنذر . وبه قال أهل الظاهر . ونص عليه أحمد في إحدى روايتيه . واختاره جماعة من أصحابنا ، منهم ابن عقيل في مفرداته ، وشيخنا أبوالعباس ، وشيخه ابن أبي عمر . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " الماء لا ينجسه شيء " رواه الإمام أحمد . وفي المسند والسنن عن أبي سعيد قال : " قيل : يا رسول الله ... أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ - وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن - ففال : الماء طهور، لا ينجسه شيء " قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وقال الإمام أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح . وفي لفظ الإمام أحمد : إنه يستقي لك من بئر بضاعة ، وهي بئر يطرح فيها محايض النساء، ولحم الكلاب ، وعذر الناس ؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " . وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي أمامة مرفوعا : " الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه ، أو طعمه ، أو لونه " . وفيها من حديث أبي سعيد : " أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، تردها السباع والكلاب والحمر ، وعن الطهارة بها ؟ فقال : لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور " . وإن كان في إسناد هذين الحديثين مقال ، فإنا ذكرناهما للاستشهاد لا للاعتماد . وقال البخاري : قال الزهري : لا بأس بالماء ما لم يتغير منه طعم أو ريح أو لون . وقال الزهري أيضا : إذا ولغ الكلب في الإناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به ثم يتيمم . قال سفيان : هذا الفقه بعينه ، يقول الله تعالى : " فلم تجدوا ماء فتيمموا " ، وهذا ماء ، وفي النفس منه شيء يتوضأ به ثم يتيمم . ونص أحمد رحمه الله : في حب زيت ولغ فيه كلب فقال : يؤكل . فصل في الوسوسة من مخارج الحروف ومن ذلك الوسوسة في مخارج الحروف والتنطع فيها . ونحن نذكر ما ذكره العلماء بألفاظهم : قال أبو الفرج بن الجوزي : قد لبس إبليس على بعض المصلين في مخارج الحروف ، فتراه يقول : الحمد ، الحمد . فيخرج بإعادة الكلمة عن قانون أدب الصلاة . وتارة يلبس عليه في تحقيق التشديد في إخراج ضاد المغضوب قال : ولقد رأيت من يخرج بصاقه مع إخراج الضاد لقوة تشديده . والمراد تحقيق الحرف حسب . وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ، ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عن فهم التلاوة . وكل هذه الوساوس من إبليس . وقال محمد بن قتيبة في مشكل القرآن : وقد كان الناس يقرأون القرآن بلغاتهم ، ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة ، ولا علم التكلف ، فهفوا في كثير من الحروف . وذلوا فأخلوا . ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح ، وقربه من القلوب بالدين . فلم أر فيمن تتبعت في وجوه قراءته أكثر تخليطا ولا أشد اضطرابا منه ، لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة ، ويختار في كثير من الحروف مالا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة ، هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز ، بإفراطه في المد والهمز والإشباع ، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام ، وحمله المتعلمين على المذهب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى ، وتضييقه ما فسحه . ومن العجب أن يقرىء الناس بهذه المذاهب ، ويكره الصلاة بها . ففي أي موضع يستعمل هذه القراءة ، إن كانت الصلاة لا تجوز بها ؟ وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه ، أو ائتم بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد ، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين ، منهم بشر بن الحارث ، وللإمام أحمد بن حنبل ، وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم ، وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها ، وطول إختلاف المتعلم إلى المقرىء فيها . فإذا رأره قد إختلف في أم الكتاب عشرا ، وفي مائة آية شهرا ، وفي السبع الطوال حولا . ورأوه عند قراءته مائل الشدقين ، دار الوريدين ، راشح الجبين ، توهموا أن ذلك لفضله في القراءة وحذقه بها، وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ولا خيار السلف ولا التابعين ، ولا القراء العالمين ، بل كانت سهلة رسلة . وقال الخلال في الجامع : عن أبي عبد الله ، أنه قال : لا أحب قراءة فلان يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة ، وكرهها كراهية شديدة ، وجعل يعجب من قراءته ، وقال : لا يعجبنى . فإن كان رجل يقبل منك فانهه . وحكي عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس : أنه نهاه عنها . وقال الفضل بن زياد : أن رجلا قال لأبي عبد الله : فما أترك من قراءته ؟ قال : الإدغام ، والكسر ليس يعرف في لغة من لغات العرب . وسأله عبد الله ابنه عنها فقال : أكره الكسر الشديد والإضجاع . وقال في موضع آخر : إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به . وسأله الحسن بن محمد بن الحارث : أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة ؟ قال : أكرهه أشد كراهة ، إنما هي قراءة محدثة . وكرهها شديدا حتى غضب . وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال : أكرهها أشد الكراهية قيل له : ما تكره منها ؟ قال : هي قراءة محدثة . ما قرأ بها أحد . وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها . وقال : كرهها ابن إدريس وأراه قال : وعبد الرحمن بن مهدي . وقال : ما أدري ، ايش هذه القراءة ؟ ثم قال : وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب . وقال عبد الرحمن بن مهدي : لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة . ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد . وعنه رواية أخرى : أنه لا يعيد . والمقصود : أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحرف . ومن تأمل هدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته . فصل في الجواب عما احتج به أهل الوسواس أما قولهم : إن ما نفعله احتياط لا وسواس . قلنا : سموه ما شئتم . فنحن نسألكم : هل هو موافق لفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأمره ، وما كان عليه أصحايه ، أو مخالف ؟ فإن زعمتم أنه موافق ، فبهت وكذب صريح . فإذن لا بد من الإقرار بعدم موافقته ، وأنه مخالف له ، فلا ينفعكم تسمية ذلك احتياطا . وهذا نظير من ارتكب محظورا وسماه بغير اسمه ، كما يسمى الخمر بغير اسمها ، والربا معاملة ، والتحليل الذي لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاعله : نكاحا ، ونقر الصلاة الذي أخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن فاعله لم يصل ، وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله تعالى منه : تخفيفا . فهكذا تسمية الغلو في الدين والتنطع : احتياطا . وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه : الاحتياط في موافقة السنة ، وترك مخالفتها . فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك ، وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة ، بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك . وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النزاع الذي اختلف فيه الأئمة ، كطلاق المكره ، وطلاق السكران ، والبتة ، وجمع الثلاث ، والطلاق بمجرد النية ، والطلاق المؤجل المعلوم مجيء أجله ، واليمين بالطلاق ، وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتي تقليدا بغير برهان ، وقال : ذلك احتياط للفروج . فقد ترك معنى الاحتياط . فإنه يحرم الفرج على هذا ، ويبيحه لغيره . فأين الاحتياط ههنا ؟ بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له ، أو يأتي برهان من الله ورسوله على ذلك ، لكان قد عمل بالاحتياط . ونص على مثل ذلك الإمام أحمد في طلاق السكران . فقال في رواية أبي طالب : والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة ، والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين : حرمها عليه ، وأحلها لغيره فهذا خير من هذا ، فلا يمكن الاحتياط في وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة ، أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه . قال شيخنا : والاحتياط حسن ، ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة السنة . فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط . وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم : من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه وقوله : دع ما يريبك إلى مالا يريبك وقوله : الإثم ما حاك في الصدر فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس . فإن الشبهات ما يشبه فيه الحق بالباطل ، والحلال بالحرام ، على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين ، أو تتعارض الأمارتان عنده ، فلا تترجح في ظنه إحداهما ، فيشتبه عليه هذا بهذا ، فأرشده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلي . ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه : هل هو طاعة وقربة، أم معصية وبدعة ؟ هذا أحسن أحواله ، والواضح الجلي هو اتباع طريق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وما سنه للأمة قولا وعملا ، فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح . فكيف ، ولا شبهة بحمد الله هناك ؟ إذ قد ثبت يالسنة أنه تنطع وغلو ، فالمصير إليه ترك للسنة ، وأخذ بالبدعة ، وترك لما يحبه الله تعالى ويرضاه ، وأخذ بما يكرهه ويبغضه ، ولا يتقرب به إليه البته ، فإنه لا يتقرب إليه إلا بما شرع ، لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء نفسه . فهذا هو الذي يحيك في الصدر ويتردد في القلب ، وهو حواز القلوب . وأما التمرة التي ترك رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أكلها ، وقال : " أخشى أن تكون من الصدقة " فذلك من باب اتقاء الشبهات ، وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام . فإن التمرة كانت قد وجدها في بيته، وكان يؤتى بتمر الصدقة ، يقسمه على من تحل له الصدقة ، ويدخل بيته تمر يقتتات منه أهله ، فكان في بيته النوعان ، فلما وجد تلك التمرة لم يدر - عليه الصلاة والسلام - من أي النوعين هي ؟ فأمسك عن أكلها . فهذا الحديث أصل في الورع واتقاء الشبهات ، فما لأهل الوسواس وماله ؟ . وأما قولكم : إن مالكا أفتى فيمن طلق ولم يدر: أواحدة طلق أم ثلاثا : إنها ثلاث احتياطا، فنعم ، هذا قول مالك ، فكان ماذا ؟ أفحجة هو على الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وعلى كل من خالفه في هذه المسألة ؟ حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله . وهذا القول مما يحتج له ، لا مما يحتج به ، على أن هذا ليس من باب الوسواس في شيء ، وإنما حجة هذا القول : أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة . والرجعة ترفع ذلك التحريم ، فهو يقول : قد تيقن سبب التحريم ، وهو الطلاق ، وشك في رفعه بالرجعة ، فإنه يحتمل أن يكون رجعيا فترفعه الرجعة ، ويحتمل أن يكون ثلاثا ، فلا ترفعه الرجعة ، فقد تيقن سبب التحريم ، وشك فيما يرفعه . والجمهور يقولون : النكاح متيقن . والقاطع له المزيل لحل الفرج مشكوك فيه ، فإنه يحتمل أن يكون المأتى به رجعيا فلا يزيل النكاح . ويحتمل أن يكون بائنا فيزيله . فقد تيقنا يقين النكاح، وشككنا فيما يزيله. فالأصل بقاء النكاح حتى يتيقن بما يرفعه . فإن قلتم : فقد تيقن التحريم وشك في التحيل ، قلنا : الرجعية ليست بحرام عندكم ، ولهذا تجوزون وطأها ، ويكون رجعة ، إذا نوى به الرجعة . فإن قلتم : بل هي حرام ، والرجعة حصلت بالنية حال الوطء . قلنا : لا ينفعكم ذلك أيضا . فإنه إنما تيقن تحريما يزول بالرجعة، ولم يتيقن تحريما لا تؤثر فيه الرجعة . وليس المقصود تقرير هذه المسألة . والمقصود أنه لا راحة في ذلك لأهل الوسواس . فصل في عدم الاقتداء بالوسواس وأما ما ذكرتموه عن ابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهما فشيء تفردا به ، دون الصحابة ولم يوافق ابن عمر على ذلك أحد منهم ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : إن بي وسواسا فلا تقتدوا بي . وظاهر مذهب الشافعي وأحمد : أن غسل داخل العينين في الوضوء لا يستحب ، وإن أمن الضرر . لأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه فعله قط ، ولا أمر به ، وقد نقل وضوءه جماعة ، كعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن زيد ، والربيع بن معوذ وغيرهم ، فلم يقل أحد منهم : أنه غسل داخل عينيه ، وفي وجوبه في الجنابة روايتان عن أحمد . أصحهما أنه لا يجب . وهو قول الجمهور. وعلى هذا فلا يجب غسلهما من النجاسة ، وأولى . لأن المضرة به أغلب ، لزيادة التكرار والمعالجة . وقالت الشافعية والحنفية : يجب لأن إصابة النجاسة لهما تندر، فلا يشق غسلهما منها . وغلا بعض الفقهاء من أصحاب أحمد ، فأوجب غسلهما في الوضوء . وهو قول لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه . والصحيح أنه لا يجب غسلهما في وضوء ولا جنابة ولا من نجاسة . وأما فعل أبي هريرة رضي الله عنه فهو شيء تأوله ، وخالفه فيه غيره ، وكانوا ينكرونه عليه ، وهذه المسألة تلقب بمسألة إطالة الغرة ، وإن كانت الغرة في الوجه خاصة . وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، وفيها روايتان عن الإمام أحمد . إحداهما : يستحب إطالتها ، وبها قال أبو حنيفة والشافعي ، واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره . والثانية : لا يستحب . وهي مذهب مالك ، وهي اختيار شيخنا أبي العباس . فالمستحبون يحتجون بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من أثر الوضوء ، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله " متفق عليه ، ولأن الحلية تبلغ من المؤمن حيث يبلغ الوضوء . قال النافون للاستحباب : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " إن الله حد حدودا فلا تعتدوها " والله سبحانه قد حد المرفقين والكعبين ، فلا ينبغي تعديهما ، ولأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم ينقل من نقل عنه وضوءه أنه تعداها ، ولأن ذلك أصل الوسواس ومادته ، ولأن فاعله إنما يفعله قربة وعبادة ، والعبادات مبناها على الاتباع ولأن ذلك ذريعة إلى الغسل إلى الفخذ ، وإلى الكتف . وهذا مما يعلم أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه لم يفعلوه ولا مرة واحدة ، ولأن هذا من الغلو ، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : " إياكم والغلو في الدين " ولأنه تعمق ، وهو منهى عنه ، ولأنه عضو من أعضاء الطهارة ، فكره مجاوزته كالوجه . وأما الحديث فراويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نعيم المجمر . وقد قال : لا أدري قوله فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل من قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، أو من قول أبي هريرة رضي الله عنه روى ذلك عنه الإمام أحمد في المسند . وأما حديث الحلية ، فالحلية المزينة ما كان في محله، فإذا جاوزا محله لم يكن زينة . فصل في التفريط والغلو وأما قولكم : أن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال، وتمشية الأمر كيف اتفق - إلى آخره . فلعمر الله ، إنهما لطرفا إفراط وتفريط ، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين في غير موضع . كقوله : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " وقوله : " وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا " وقوله : " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " وقوله : " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " . فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه . وخير الناس النمط الأوسط ، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا ، وهي الخيار العدل ، لتوسطها بين الطرفين المذمومين ، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط . والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف ، والأوساط محمية بأطرافها . فخيار الأمور أوساطها . قال الشاعر : كانت هي الوسط المحمي، فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا . يتبع .... |
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرَّجلُ لأخيهِ بظَهرِ الغيبِ قالَتِ الملائِكةُ آمينَ ولَك بمِثلٍ» الراوي: عويمر بن مالك أبو الدرداء المحدث:الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - خلاصة حكم المحدث: صحيح فلاتحرمونا دعائكم |
23 Mar 2017, 09:57 AM | #3 |
باحث جزاه الله تعالى خيرا
|
رد: مقتطفات من كتاب العلامة ابن القيم ( اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان )
فصل في وحي الشيطان إلى حزبه الفتنة في القبور
ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته : ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور . حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله ، وعبدت قبورهم ، وأتخذت أوثانا ، وبنيت عليها الهياكل ، وصورت صور أربابها فيها ، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل ، ثم جعلت أصناما ، وعبدت مع الله تعالى . وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه ، حيث يقول : " قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا " . قال ابن جرير: وكان من خبرهؤلاء - فيما بلغنا :- ما حدثنا به ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس : أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم . وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم . فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال : إنما كانوا يعبدونهم ، وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم قال سفيان عن أبيه عن عكرمه قال : كان بين أدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون ، كلهم على الإسلام حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال : كانت آلهة يعبدها قوم نوح ، ثم عبدتها العرب بعد ذلك . فكان ود لكلب بدومة الجندل ، وكان سواع لهذيل . وكان يغوث لبني غطيف من مراد . وكان يعوق لهمدان . وكان نسر لذي الكلاع من حمير . وقال الوالبي ، عن ابن عباس : هذه أصنام كانت تعبد في زمان نوح عليه السلام . وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج قال : قال عطاء عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد . أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل . وأما سواع فكانت لهذيل . وأما يغوث فكانت لمراد ، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ . وأما يعوق فكانت لهمدان . وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح . فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلا مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ، ونسي العلم ، عبدت . وقال غير واحد من السلف : كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح عليه السلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم . فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور ، وفتنة التماثيل . وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها : " إن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، يقال لها : مارية . فذكرت له ما رأت فيها من الصور . فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح - أو الرجل الصالح - بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى " . وفي لفظ آخر في الصحيحين : إن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها .. . فجمع في هذا الحديث بين التماثيل والقبور . وهذا كان سبب عبادة اللات . فروى ابن جرير بإسناده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: " أفرأيتم اللات والعزى " قال : كان يلت لهم السويق . فمات ، فعكفوا على قبره ، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان يلت السويق للحاج . فقد رأيت أن سبب عبادة ود ، ويغوث ويعوق ونسرا واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم . ثم اتخذوا لها التماثيل وعبدوها . كما أشار إليه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم . قال شيخنا : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك . فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين ، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب ونحو ذلك . فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر . ولهذا نجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها ، ويخشعون ويخضعون ، ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ، ولا وقت السحر . ومنهم من يسجد لها . وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء مالا يرجونه في المساجد . فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مادتها ، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا ، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته ، كما يقصد بصلاته بركة المساجد ، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها ، لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس . فنهى أمته عن الصلاة حينئذ ، وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون ، سدا للذريعة . قال : وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة . فهذا عين المحادة لله ولرسوله ، والمخالفة لدينه ، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى . فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالأضطرار من دين رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن الصلاة عند القبور منهى عنها ، وأنه لعن من اتخذها مساجد . فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك : الصلاة عندها ، واتخاذها مساجد ، وبناء المساجد عليها ، وقد تواترت النصوص عن النبي عليه الصلاة والسلام بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه . فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحه . وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك . وطائفة أطلقت الكراهة . والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم ، إحسانا للظن بالعلماء ، وأن لا يظن أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن فاعله ، والنهي عنه . ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : " إني أبرأ إلى الله أن يكون لى منكم خليل . فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا ، كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك " . وعن عائشة وعبد الله بن عباس قالا : " لما نزل برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه . فإذا اغتم كشفها فقال ، وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا " متفق عليه . وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : " قاتل الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . وفي رواية مسلم : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب ، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك . قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في مرضه الذي لم يقم منه : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ولولا ذلك لأبرز قبره ، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " متفق عليه . وقولها : خشي هو بضم الخاء تعليلا لمنع إبراز قبره . وروى الأمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد " . وعن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " رواه الأمام أحمد . وعن ابن عباس قال : " لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " رواه الأمام أحمد وأهل السنن . وفي صحيح البخاري : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال : القبر، القبر وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ما نهاهم عنه نبيهم من الصلاة عند القبور . وفعل أنس رضي الله عنه لا يدل على اعتقاده جوازه . فإنه لعله لم يره ، أو لم يعلم أنه قبر، أو ذهل عنه . فلما نبهه عمر رضي الله تعالى عنه تنبه . وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه الأمام أحمد وأهل السنن الأربعة ، وصححه أبو حاتم بن حبان . وأبلغ من هذا : أنه نهى عن الصلاة إلى القبر ، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة . فروى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي رحمه الله أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها " . وفي هذا إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة ، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم . وهو باطل من عدة أوجه : منها : أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة ، كما يقوله المعللون بالنجاسة . ومنها : أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد . ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة . فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء ، ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع ، وليس للنجاسة عليها طريق البتة ، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم ، فهم في قبورهم طريون . ومنها : أنه نهى عن الصلاة إليها . ومنها : أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد ، إلا المقبرة والحمام . ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور . ومنها : أن موضع مسجده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان مقبرة للمشركين ، فنبش قبورهم وسواها وأتخذه مسجدا . ولم ينقل ذلك التراب ، بل سوى الأرض ومهدها ، وصلى فيه ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال : " لما قدم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المدينة ، فنزل بأعلى المدينة في حي يقال لهم : بنو عمرو بن عوف ، فأقام النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيهم أربع عشرة ليلة ، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار ، فجاءوا متقلدي السيوف ، وكأني أنظر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على راحلته ، وأبو بكر ردفه ، وملأ بني النجار حوله ، حتى ألقي بفناء أبي أيوب . وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ، ويصلي في مرابض الغنم ، وأنه أمر ببناء المسجد ، فأرسل إلى ملأ بني النجار ، فقال : ا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا . قالوا : لا والله ، ما نطلب ثمنه إلا إلى الله . فكان فيه ما أقول لكم : قبور المشركين . وفيه خرب . وفيه نخل . فأمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقبور المشركين فنبشت ، ثم بالخرب فسويت . وبالنخل فقطع . فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة . وجعلوا ينقلون الصخر . وهم يرتجزون وذكر الحديث " . ومنها : أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر. فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلي ، فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى ، واستغاثتهم ، وطلب الحوائج منهم ، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد . وغير ذلك ، مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله . فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة ؟ . ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم . ومنها : أنه لعن المتخذين عليها المساجد . ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المسجد مع تطيينها بطين طاهر . فتزول اللعنة . وهو باطل قطعا . ومنها : أنه قرن في اللعن بين متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها . فهما في اللعنة قرينان . وفي ارتكاب الكبيرة صنوان . فإن كل ما لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو من الكبائر ، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها ، وجعلها نصبا يوفض إليه المشركون ، كما هو الواقع ، فهكذا اتخاذ المساجد عليها . ولهذا قرن بينهما . فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها ، وتعريض للفتنة بها . ولهذا حكى الله سبحانه وتعالى عن المتغلبين على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا : " لنتخذن عليهم مسجدا " . ومنها : أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد . اشتد غضب الله على قوم أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فذكره ذلك عقيب قوله : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " تنبيه منه على سبب لحوق اللعن لهم . وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد . وبالجملة : فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مقاصده ، جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغته : صيغة لا تفعلوا وصيغة إني أنهاكم ليس لأجل النجاسة ، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه ، وارتكب ما عنه نها . واتبع هواه ، ولم يخش ربه ومولاه ، وقل نصيبه أو عدم في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله . فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه ، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه . فأبى المشركون إلا معصية لأمره وإرتكابا لنهيه ، وغرهم الشيطان . فقال : بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين . وكلما كنتم أشد لها تعظيما ، وأشد فيهم غلوا ، كنتم بقربهم أسعد ، ومن أعدائهم أبعد . ولعمر الله ، من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة . فجميع المشركون بين الغلو فيهم . والطعن في طريقهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها : من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم . وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم . فأما المشركون فعصوا أمرهم ، وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم . قال الشافعي : أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا ، مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس . وممن علل بالشرك ومشابهة اليهود والنصارى : الأثرم في كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه ، فقال- بعد أن ذكر حديث أبي سعيد : " أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : جعلت لي الأرض مسجدا إلا المقبرة والحمام " وحديث زيد بن جبير عن داوود ابن الحصين عن نافع عن أبن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " نهى عن الصلاة في سبع مواطن - وذكر المقبرة " - قال الأثرم : إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب، لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . فصل في اتخاذ القبور أعياداً ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك . * ولكن ما لجرح بميت إيلام * فمن مفاسد اتخاذها أعيادا : الصلاة إليها ، والطواف بها ، وتقبيلها واستلامها ، وتعفير الخدود على ترابها ، وعبادة أصحابها ، والاستغاثة بهم ، وسؤالهم النصر والرزق والعافية ، وقضاء الديون ، وتفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، وغير ذلك من أنواع الطلبات ، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم . فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا ، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد ، فوضعوا لها الجباه ، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس ، وارتفعت أصواتهم بالضجيج ، وتباكوا حتى تسمع لهم النثسيج ، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدى ولا يعيد ، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دبوا منها صلوا عند القبر ركعتين ، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين ، فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا ، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسرانا ، فلغير الله ، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ، ويرتفع من الأصوات ، ويطلب من الميت من الحاجات ويسئل من تفريج الكربات ، وإغناء ذوي الفاقات ، ومعافاة أولى العاهات والبليات ، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين ، تشبيها له بالبيت الحرام ، الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين ، ثم أخذوا في التقببل والاستلام ، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود ، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه السجود . ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذا لم يكن لهم عند الله من خلاق ، وفربوا لذلك الوثن القرابين . وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنيء بعضهم بعضا ويقول : أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا ، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام ، فيقول : لا ، ولو بحجك كل عام . هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم : إذ هي فوق ما يخطر بالبال ، أو يدور في الخيال . وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح ، كما تقدم . وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور ، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه لما يؤول إليه ، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه . وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته ، والشر والضلال في معصيته ومخالفته . ورأيت لأبي الوفاء بن عقيل في ذلك فصلا حسنا ، فذكرته بلفظه ، قال : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام ، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم ، فسهلت عليهم ، إذا لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم . قال : وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع : من إيقاد النيران . وتقبيلها وتخليقها ، وخطاب الموتى بالحوائج ، وكتب الرقاع فيها : يا مولاي أفعل بنا كذا وكذا . وأخذ تربتها تبركا ، وإضافة الطيب على القبور . وشد الرحال إليها ، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى ، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء . ولم يقل الحمالون على جنازته : الصديق أبو بكر، أو محمد وعلي ، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجصر والآجر ، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل ، ولم يرق ماء الورد على القبر انتهى . ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه ، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر ، مناقضا له ، بحيث لا يجتمعان أبدا . فنهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها . ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى . ونهى عن ايقاد السرج عليها ، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها . ونهى أن تتخذ عيدا ، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر . وأمر بتسويتها ، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدى قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " ، وفي صحيحه أيضا عن ثمامة ابن شفى قال : " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس . فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوى، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها " ، وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين . ويرفعونها عن الأرض كالبيت ، ويعقدون عليها القباب . ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه ، كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال : " نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه بناء " . ونهى عن الكتابة عليها ، كما روى أبو داوود والترمذي في سننهما عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم " نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها " قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ، ويكتبون عليها القرآن وغيره . ونهى أن يزاد عليها غير ترابها ، كما روى أبو داوود من حديث جابر أيضا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم " نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه ، أو يزاد عليه " وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص . ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبني القبر بآجر ، وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره . وأوصى الأسود بن يزيد أن لا تجعلوا على قبري آجرا . وقال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون الآجر على قبورهم . وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة : أن لا تضربوا على فسطاطا . وكره الأمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاط . والمقصود : أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعيادا ، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب . مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، محادون لما جاء به . وأعظم ذلك اتخاذها مساجد ، وإيقاد السرج عليها . وهو من الكبائر . وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه . قال أبو محمد المقدسي : ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن النبي صلى الله تعالى عليه من فعله . ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة ، وإفراطا في تعظيم القبور ، أشبه تعظيم الأصنام . قال : ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر. ولأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا " متفق عليه . وقالت عائشة : إنما لم يبرز قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لئلا يتخذ مسجدا لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها شبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها . وقد روينا أن إبتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ، والتمسح بها ، والصلاة عندها . انتهى . وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ، ووضعوا له مناسك ، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام . ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ، ودخول في دين عباد الأصنام . فأنظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقصده . ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره . فمنها : تعظيمها الموقع في الافتتان بها . ومنها : اتخاذها عيدا . ومنها : السفر إليها . ومنها : مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها : من العكوف عليها ، والمجاورة عندها . وتعليق الستور عليها وسدانتها ، وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها . ومنها : النذر لها ولسدنتها . ومنها : اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء ، وينصر على الأعداء . ويستنزل غيث السماء . وتفرج الكروب ، وتقض الحوائج . وينصر المظلوم . ويجار الخائف . إلى غير ذلك . ومنها : الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها ، وإيقاد السرج عليها . ومنها : الشرك الأكبر الذي يفعل عندها . ومنها : إيذاء أصحايها بما يفعله المشركون بقبورهم ، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم . ويكرهونه غاية الكراهة . كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى عند قبره . وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم . ويوم القيامة يتبرأون منهم كما قال تعالى : " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل * قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " قال الله للمشركين : " فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا " الآية ، وقال تعالى : " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " الآية ، وقال تعالى : " ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " . ومنها : مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها ، ومنها : محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها . ومنها : التعب العظيم مع الوزر الكثير، والأثم العظيم . ومنها : إماتة السنن وإحياء البدع . ومنها : تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله . فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة على الموتى مالا يفعلونه في المساجد . ولا يحصل لهم نظيره ولا قريب منه . ومنها : أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد ، وأخربوا المساجد . ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك . ولهذا لما كانا الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين ، عمروا المشاهد وأخربوا المساجد . ومنها : أن الذي شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عند زيارة القبور : إنما هو تذكر الآخرة ، والإحسان إلا المزور بالدعاء له ، والترحم عليه ، والاستغفار له ، وسؤال العافية له . فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلا الميت ، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ، ودعاءه والدعاء به ، وسؤاله حوائجهم ، وإستنزال البركات منه ، ونصره لهم على الأعداء . ونحو ذلك . فصاروا مسيئين إلا نفوسهم وإلا الميت ولو لم يكن إلا بحرماته بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له . فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الأشراك ، التي شرعها لهم الشيطان ، وأختر لنفسك . قالت عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله صلي الله تعالى عليه وآله وسلم كلما كان ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع ، فيقول : السلام عليم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد " رواه مسلم . وفي صحيحه عنها أيضا : " أن جبريل أتاه ، فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع تستغفر لهم . قالت : قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله ؟ قال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون " . وفي صحيحه أيضا عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : " كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا : السلام على أهل الديار - وفي لفظ - السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . نسأل الله لنا ولكم العافية " . وعن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فمن أراد أن يزور فليزر ، ولا تقولوا هجرا " رواه أحمد والنسائي . وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور ، سدا للذريعة ، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ، ونهاهم أن يقولوا هجرا ، فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها، ومن أعظم الهجر : الشرك عندها قولا وفعلا . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " زوروا القبور ، فإنها تذكر الموت " . وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : " إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة " رواه الأمام أحمد . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : " مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقبور المدينة ، فأقبل عليهم بوجهه ، فقال : السلام عليكم يا أهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم ، ونحن بالأثر " رواه أحمد ، والترمذي وحسنه . وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر بالآخرة " رواه أبن ماجه . وروى الأمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزورها فإن فيها عبرة " . فهذه الزيازة التي شرعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأمته، وعلمهم إياها ، هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرع والبدع ؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه ؟ . وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ، ونقص إيمانهم ، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك . ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه ، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ثم أراد الدعاء أستقبل القبلة ، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا . فقال سلمة بن وردان : رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ثم يسند ظهره إلى جدارالقبر ، ثم يدعو . ونص على ذلك الأئمة الأربعة : أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء ، حتى لا يدعو عند القبر ، فإن الدعاء عبادة ، وفي الترمذي وغيره مرفوعا : " الدعاء هو العبادة " . فجرد السلف العبادة لله ، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : من السلام على أصحابها والاستغفار لهم ، والترحم عليهم . وبالجملة : فالميت قد أنقطع عمله ، فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له . ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له ، وجوبا وإستحبابا ، مالم يشرع مثله في الدعاء للحي . قال عوف بن مالك : صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على جنازة ، فحفظت من دعائه وهو يقول : " اللهم اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وزوجا خيرا من زوجه . وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب القبر - أو من عذاب النار- " حتى تمنيت أن أكون أنا الميت ، لدعاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ذلك الميت رواه مسلم . وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول في صلاته على الجنازة : " اللهم أنت ربها . وأنت خلقتها ، وأنت هديتها للإسلام ، وأنت قبضت روحها ، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها ، جئنا شفعاء فاغفر له " رواه الأمام أحمد . وفي سنن أبي داوود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " . وقالت عائشة ، وأنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له ، إلا شفعوا فيه " رواه مسلم . وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : " مامن رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا ، لا يشركون بالله شيئا ، إلا شفعهم الله فيه " رواه مسلم . فهذا مقصود الصلاة على الميت ، وهو الدعاء له والاستغفار ، والشفاعة فيه . ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة منه على نعشه . فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره . وقد كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول : " سلوا له التثبيت ، فإنه الآن يسئل " . فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن ، فإذا كنا على جنازته ندعو له ، لا ندعو به ، ونشفع له لا نشفع به . فبعد الدفن أولى وأحرى . فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم : بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه ، والشفاعة له بالاستشفاع به . وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إحسانا إلى الميت وإحسانا إلى الزائر ، وتذكيرا بالآخرة : سؤال الميت ، والإقسام به على الله ، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها ، وخشوعه أعظم منه في المساجد ، وأوقات الأسحار . ومن المحال أن يكون دعاء الموتى ، أو الدعاء بهم ، أو الدعاء عندهم ، مشروعا وعملا صالحا ، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون مالا يفعلون ، ويفعلون مالا يؤمرون . فهذه سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في أهل القبور بضعا وعشرين سنة ، حتى توفاه الله تعالى ، وهذه سنة خلفائه الراشدين ، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، هل يمكن بشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح ، أو حسن أو ضعيف ، أو منقطع : أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها ، وتمسحوا بها ، فضلا أن يصلوا عندها ، أو يسألوا الله بأصحابها ، أو يسألوهم حوائجهم . فليوقفونا على أثر واحد ، أو حرف واحد في ذلك ، بلى ، يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك ، وكلما تأخر الزمان وطال العهد ، كان ذلك أكثر ، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ولا عن خلفائه الراشدين ، ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك ، بلى ، فيها من خلاف ذلك كثير . كما قدمناه من الأحاديث المرفوعة . وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها . وقد ذكرنا إنكار عمر رضي الله عنه على أنس رضي الله عنه صلاته عند القبر . وقوله له : القبر . القبر . وقد ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال : حدثنا أبو العالية قال : لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له ، فأخذنا المصحف ، فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فدعا له كعبا ، فنسخه بالعربية . فأنا أول رجل من العرب قرأه ، قرأته مثل ما أقرأ القرآن . فقلت لأبي العالية : ما كان فيه ؟ قال : سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم ، وما هو كائن بعد . قلت : فما صنعتم بالرجل ؟ قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة ، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها ، لنعميه على الناس لا ينبشونه ، فقلت : وما يرجون منه ؟ قال : كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون . فقلت : من كنتم تظنون الرجل ؟ قال : رجل يقال له دانيال ، فقلت : مذ كم وجدتموه مات ؟ قال : مذ ثلاثمئة سنة ، قلت : ما كان تغير منه شيء ؟ قال : لا إلا شعيرات من قفاه ، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ، ولا تأكلها السباع ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس ، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ، ولو ظفر به المستأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ، ولعبدوه من دون الله ، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانى هذا ولا يقاربه وأقاموا لها سدنة ، وجعلوها معابد أعظم من المساجد . فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنه أو مباحا ، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك ، ودعوا عنده ، وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم ، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل ، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالأمصار عدد كثير ، وهم متوافرون . فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ، ولا دعاه ، ولا دعا به ، ولا دعا عنده ، ولا استشفى به ، ولا أستسقى به ، ولا أستنصر به ، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، بل على نقل ما هو دونه . وحينئذ ، فلا يخلو، إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة ، أو لا يكون ، فإن كان أفضل ، فكيف خفى علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم ؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم ، وتظفر به الخلوف علما وعملا ؟ ولا يجوز أن يعملوه ويزهدوا فيه ، مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء ، فإن المضطر يتشبث بكل سبب ، وإن كان فيه كراهة ما ، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ، ثم لا يقصدونه ؟ هذا محال طبعا وشرعا . فتعين القسم الآخر: وهو أنه لا فضل للدعاء عندها ، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص ، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد . ومثال هذا مما لا يشرعه الله ورسوله البتة ، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله . ولم ينزل بها سلطانا . وقد أنكر الصحابة ما هو دون، هذا بكثير . فروى غير واحد عن المعرور بن سويد قال : " صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح ، فقرأ فيها : " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " و " لإيلاف قريش " ثم رأى الناس يذهبون مذاهب ، فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ فقيل : يا أميرالمؤمنين ، مسجد صلى فيه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فهم يصلون فيه ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا . كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ، ويتخذونها كنائس وبيعا . فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ، ومن لا فلميض ، ولا يتعمدها " وكذلك أرسل عمر رضي الله تعالى عنه أيضا فقطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم . بل قد أنكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الصحابة لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ومتاعهم بخصوصها . فروى البخاري في صحيحه عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبل حنين ، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة، يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها : ذات أنواط . فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله ، أجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : الله أكبر ، هذا ما قالت بنو إسرائيل : " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " " لتركبن سنن من كان قبلكم " . فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى ، مع أنهم لا يعبدونها ، ولا يسألونها . فما الظن بالعكوف حول القبر ، والدعاء به ودعائه ، والدعاء عنده ؟ فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر ؟ لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون . قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك : فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ، ويعظمونها ، ويرجون البرء والشفاء من قبلها ، ويضربون بها المسامير والخرق ، فهي ذات أنواط ، فاقطعوها . ومن له خبرة بما بعث الله تعالى به رسوله ، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره ، علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل : سارت مشرقة وسرت مغربا .... شتان بين مشرق ومغرب والأمر والله أعظم مما ذكرنا . وقد ذكر البخاري في الصحيح عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت : " دخل علي يعبد الدرداء مغضبا ، فقلت له : مالك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، إلا أنهم يصلون جميعا " . وروى مالك في الموطأ عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال : " ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة " يعني الصحابة رضي الله عنهم . وقال الزهري : دخلت على أنس بن مالك بدمشق ، وهو يبكي . فقلت له : ما يبكيك ؟ فقال : ما أعرف شيئا مما أدركته إلا هذه الصلاة . وهذه الصلاة قد ضيعت ذكره البخاري . وفي لفظ آخر: ما كنت أعرف شيئا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلا قد أنكرته اليوم . وقال الحسن البصري : سأل رجل أبا الدرداء رضي الله عنه فقال : رحمك الله ، لو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين أظهرنا ، هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه ؟ فغضب ، وأشتد غضبه ، وقال : وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه ؟ . وقال المبارك بن فضالة : صلى الحسن الجمعة وجلس ، فبكى ، فقيل له : ما يبكيك ، يا أبا سعيد ؟ فقال : تلومونني على البكاء ، ولو أن رجلا من المهاجرين أطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه . وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود رضي الته عنه : كيف أنتم إذا لبستم فتنة يهرم فيها الكبير ، وينشأ فيها الصغير ، تجري على الناس ، يتخذونها سنة إذا غيرت قيل : غيرت السنة ، أو هذا منكر . وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به ، ولا إلتفات إليه . فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبي الدرداء وأنس ، كما تقدم . وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى قال : حدثني حمد بن عبيد بن ميمون ، حدثني عبد الله بن إسحاق الجعفري قال : كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة ، قال : فتذاكروا يوما السنن ، فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا ، فقال عبد الله : أرأيت إن كثر الجهال ، حتى يكونوا هم الحكام ، فهم الحجة على السنة ؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء . يتبع ..... |
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرَّجلُ لأخيهِ بظَهرِ الغيبِ قالَتِ الملائِكةُ آمينَ ولَك بمِثلٍ» الراوي: عويمر بن مالك أبو الدرداء المحدث:الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - خلاصة حكم المحدث: صحيح فلاتحرمونا دعائكم |
23 Mar 2017, 10:01 AM | #4 |
باحث جزاه الله تعالى خيرا
|
رد: مقتطفات من كتاب العلامة ابن القيم ( اغاثة اللهفان من مصائد الشيطان )
فصل في الافتتان بالقبور فإن قيل : فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها ، مع العلم بأن ساكنيها أموات ، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا ؟ . قيل : أوقعهم في ذلك أمور : منها : الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله ، بل جميع الرسل : من تحقيق التوحيد ، وقطع أسباب الشرك ، فقل نصيبهم جدا من ذلك . ودعاهم الشيطان إلى الفتنة ، ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته ، فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل ، وعصموا بقدر ما معهم من العلم . ومنها : أحاديث مكذوبة مختلقة، وضعها أشباه عباد الأصنام : من المقابرية ، على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث : إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور . وحديث : لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه ، وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام . وضعها المشركون ، وراجت على أشباههم من الجهال الضلال . والله بعث رسوله بقتل من حسن ظنه بالأحجار ، وجنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق ، كما تقدم . ومنها : حكايات حكيت لهم عن تلك القبور: إن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها . وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة، فقضيت له . وفلانا نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر ، فكشف ضره . وعند السدنة والمقابرة من ذلك شيء كثير يطول في ذكره . وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات . والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، وإزالة ضرورتها ويسمع بأن قبر فلان ترياق مجرب . والشيطان له تلطف في الدعوة ، فيدعوهم أولا إلى الدعاء عنده ، فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة ، فيحجب الله دعوته لما قام بقلبه ، لا لأجل القبر . فإنه لو دعاه كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه ، فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرا في إجابة تلك الدعوة . والله سبحانه وتعالى يجيب دعوة المضطر، ولو كان كافرا . وقد قال تعالى :" كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " وقد قال الخليل : " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " فقال الله سبحانه وتعالى : " ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " . فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه، ولا محبا له، ولا راضيا بفعله، فإنه يجيب البر والفاجر ، والمؤمن والكافر وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدى فيه ، أو يشترط في دعاله ، أو يكون مما لا يجوز أن يسأل، فيحصل له ذلك أو بعضه . فيظن أن عمله صالح مرضي لله ، ويكون بمنزلة من أملي له وأمد بالمال والبنين ، وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات . وقد قال تعالى : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء " . فالدعاء قد يكون عبادة، فيثاب عليه الداعي ، وقد يكون مسألة تقضي به حاجته ، ويكون مضرة عليه ، إما أن يعاقب بما يحصل له ، أو تنقص به درجته ، فيقضي حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده . والمقصود : أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده ، وأوقات الأسحار ، فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى ، من الدعاء عنده إلى الدعاء به ، والإقسام على الله به ، وهذا أعظم من الذي قبله ، فإن شاء الله أعظم من أن يقسم عليه ، أو يسأل بأحد من خلقه ، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك . فقال أبو الحسين القدوري في شرح كتاب الكرخي : قال بشر بن الوليد : سمعت أبا يوسف يقول : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به . قال : وأكره أن يقول : أسألك بمعقد العز من عرشك . وأكره أن يقول : بحق فلان ، وبحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام . قال أبو الحسين : أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم ، لأنه لا حق لغير الله عليه ، وإنما الحق لله على خلقه ، وأما قوله : بمعقد العز من عرشك فكرهه أبو حنيفة ، ورخص فيه أبو يوسف . وقال : وروى أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دعا بذلك ، قال : ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش ، مع عظمته . فكأنه سأله بأوصافه . وقال ابن بلدجي في شرح المختار : ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به ، فلا يقول : أسألك بفلان ، أو بملائكتك ، أو بأنبيائك ونحو ذلك . لأنه لا حق للمخلوق على خالقه ، أو يقول في دعائه : أسالك بمعقد العز من عرشك . وعن أبي يوسف جوازه . وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه : أكره كذا هو عند محمد حرام . وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب ، وجانب التحريم عليه أغلب . وفي فتاوى أبي محمد بن عبد السلام : أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته ، لا الأنبياء ، ولا غيرهم ، وتوقف في نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، ولأعتقاده أن ذلك جاء في حديث ، وأنه لم يعرف صحة الحديث . فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به ، والدعاء به أبلغ في تعظيمه وأحترامه ، وأنجع في قضاء حاجته ، نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله . ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا ، يعكف عليه ، ويوقد عليه القنديل ، ويعلق عليه الستور ، ويبني عليه المسجد ، ويعبده بالسجود له ، والطواف به وتقبيله ، وإستلامه ، والحج إليه ، والذبح عنده ، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته ، وإتخاذه عيدا ومنسكا وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم . قال شيخنا، قدس الله روحه : وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب ، أبعدها عن الشرع : أن يسأل الميت حاجته ، ويستغيث به فيها ، كما يفعله كثير من الناس . قال : وهؤلاء من جنس عباد الأصنام ، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت ، أو الغائب . كما يتمثل لعباد الأصنام . وهذا يحصل للكفار من المشركين ، وأهل الكتاب ، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانا . وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة . وكذلك السجود للقبر، والتمسح به وتقبيله . المرتبة الثانية : أن يسأل الله عزوجل به . وهذا يفعله كثير من المتأخرين ، وهو بدعه باتفاق المسلمين . الثالثة : أن يسأله نفسه . الرابعة : أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد . فيقصد زيارته، والصلاة عنده . لأجل طلب حوائجه . فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين . وهي محرمة . وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين . وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك . ويقول بعضهم : قبر فلان ترياق مجرب . والحكاية المنقولة عن الشافعي : أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر . فصل في الفرق بين الموحدين والمشركين في زيارة القبور في الفرق بين زيارة الموحدين للقبور ، وزيارة المشركين أما زيارة الموحدين : فمقصودها ثلاثة أشياء : أحدها : تذكر الآخرة ، والاعتبار ، والاتعاظ . وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى ذلك بقوله : " زوروا القبور ، فإنها تذكركم الآخرة " . الثاني : الإحسان إلى الميت ، وأن لا يطول عهده به ، فيهجره ، ويتناساه ، كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك ، فالميت أولى . لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم ، فإذا زاره وأهدى إليه هدية : من دعاء، أو صدقة، أو أهدى قربة . ازداد بذلك سروه وفرحه ، كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له . ولهذا شرع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة ، وسؤال العافية فقط ، ولم يشرع أن يدعوهم ، ولا أن يدعوا بهم ، ولا يصلى عندهم . الثالث : إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة ، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور . وأما الزيارة الشركية : فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام . قالوا : الميت المعظم ، الذي لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى ، لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى ، وتفيض على روحه الخيرات . فإذا علق الزائر روحه به ، وأدناها منه ، فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها . كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له . قالوا : فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ، ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه ، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره . وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظهم ، كان أقرب إلى انتفاعه به . وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرما . وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها . وقالوا : إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية . فاض عليها منها النور . وبهذا السر عبدت الكواكب ، واتخذت لها الهياكل ، وصنفت لها الدعوات ، واتخذت الأصنام المجسدة لها . وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا ، وتعليق الستور عليها ، وإيقاد السرج عليها ، وبناء المساجد عليها . وهو الذي قصد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطاله ومحوه بالكلية ، وسد الذرائع المفضية إليه . فوقف المشركون في طريقه ، وناقضوه في قصده . وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في شق ، وهؤلاء في شق . وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور : هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها ، وتشفع لهم عند الله تعالى . قالوا : فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله ، وتوجه بهمته إليه ، وعكف بقلبه عليه . صار بينه وبينه اتصال . يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله . وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان . فهو شديد التعلق به . فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به . فهذا سر عبادة الأصنام . وهو الذي بعث الله رسله ، وأنزل كتبه بإبطاله ، وتكفير أصحابه ، ولعنهم . وأباح دماءم وأموالهم ، وسبى ذراريهم . وأوجب لهم النار . والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله ، وإبطال مذهبهم . قال تعالى: " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض " . فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده . فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه، ليرحم عبده . فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه . فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له ، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره ، بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده . وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم ، وهي التي أبطلها الله سبحانه في كتابه ، بقوله : " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة " وقوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " وقال تعالى " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون " وقال : " الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع " . فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه ، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه . كما قال تعالى : " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " وقال : " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ، ولا الشافع شفيع من دونه ، بل شفيع بإذنه . والفرق بين الشفيعين ، كالفرق بين الشريك والعبد المأمور . فالشفاعة التي أبطلها الله : شفاعة الشريك فإنه لا شريك له ، والتي أثبتها : شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له . ويقول : أشفع في فلان . ولهذا كان أسعد الناس شفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد ، الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه ، وهم الذين ارتضى الله سبحانه . قال تعالى : " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " وقال : " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " . فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له ، وإذنه للشافع فيه . فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله . فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بامرين : رضاه عن المشفوع له ، وإذنه للشافع . فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة . وسر ذلك : أن الأمر كله لله وحده ، فليس لأحد معه من الأمر شيء ، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده : هم الرسل والملائكة المقربون . وهم عبيد محض ، لا يسبقونه بالقول ، ولا يتقدمون بين يديه ، ولا يفعلون شيئا إلا بعد إذنه لهم ، وأمرهم . ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئا . فهم مملوكون مربوبون ، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه . فإذا أشرك بهم المشرك ، واتخذهم شفعاء من دونه ، ظنا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله ، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له . ويمتنع عليه . فإن هذا محال ممتنع ، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء ، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج . وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام ، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي . والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق . والرب والمربوب ، والسيد والعبد . والمالك والمملوك . والغني والفقير . والذي لا حاجة به إلا أحد قط . والمحتاج من كل وجه إلى غيره . فالشفعاء عند المخلوقين : هم شركاؤهم . فإن قيل مصالحهم بهم . وهم أعوانهم وأنصارهم ، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم . ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس ، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلا قبول شفاعتهم . وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع . لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم . فتنتقض شفاعتهم لهم ، ويذهبون إلى غيرهم . فلا يجدون بدا من قبول شفاعتهم على الكره والرضا . فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته . وكل من في السموات والأرض عبيد له، مقهورون بقهره ، مصرفون بمشيئته . لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة . قال تعالى : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير" وقال سبحانه في سيدة آي القرآن ، آية الكرسي : " له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وقال : " قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض " . فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض . بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض . فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس ، ويفعلها بعضهم مع بعض . ولهذا يطلق نفيها تارة ، بناء على أنها هي المعروفة المشاهدة عند الناس ، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه ، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه ، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع ، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله . فمتخذ الشفيع مشرك ، لاتنفعه شفاعته . ولايشفع فيه ، ومتخذ الرب وحده الهه ومعبوده ومحبوبه ، ومرجوه ، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده ، ويطلب رضاه ، ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه . قال تعالى : " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا " وقال تعالى : " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون " . فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم . وإنما تحصل بإذنه للشافع ، ورضاه عن المشفوع له . وسر الفرق بين الشفاعتين : أن الشفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده ، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقا، ولا أمرا، ولا إذنا، بل هو سبب محرك له من خارج . كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب . وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه ، كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه ، وقد يكون عنده ما يخالفه ، كمن يشفع إليه في أمر يكرهه ، ثم قد يكون سؤاله ، وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع . وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع ، فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران ، فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول ، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله : هي سعي في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به، ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان، وإما بما يرغبه، فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته . وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه ، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد. والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لديه ، وإنما يشفع عنده مجرد إمتثال لأمره وطاعة له . فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر . فإن أحدا من الأنبياء والملائكة، وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى، وخلقه . فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل . والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره . وهو في الحقيقة شريكه . ولو كان مملوكه وعبده . فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة . وغير ذلك . كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة . وغير ذلك . كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه من رزق أو نصر ، أو غيره ، فكل منهما محتاج إلى الآخر . ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته ، تبين له حقيقة التوحيد والشرك ، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله ، ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور . فصل في مكيدة اصطياد قلوب الجاهلين والمبطلين ومن مكايد عدو الله ومصايده ، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين : سماع المكاء ، والتصدية ، والغناء بالالات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن ، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان . فهو قرآن الشيطان . والحجاب الكثيف عن الرحمن . وهو رقية اللواط والزنا . وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى . كاد به الشيطان النفوس المبطلة . وحسنه لها مكرا منه وغرورا . وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورا . فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات ، وهدأت منهم الحركات . وعكفت قلوبهم بكليتها عليه . وأنصبت أنصبابة واحدة إليه . فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان ، وتكسروا في حركاتها ورقصهم ، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان ؟ ويحق لهم ذلك ، وقد خالط خماره النفوس ، ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس . فلغير الله ، بل للشيطان ، قلوب هناك تمزق . وأثواب تشقق . وأموال في غير طاعة الله تنفق . حتى إذا عمل السكر فيهم عمله . وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله . واستفزهم بصوته وحيله . وأجلب عليهم برجله وخيله . وخز في صدورهم وخزا. وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا . فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار . وتارة كالدباب ترقص وسيط الديار . فيارحتما للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام . ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام . ويا شماتة أعداء الإسلام . بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام . قضوا حياتهم لذة وطربا . واتخذوا دينهم لهوا ولعبا . مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن . لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك ساكنا . ولا أزعج له قاطنا . ولا أثار فيه وجدا . ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندا ، حتى إذا تلى عليه قرآن الشيطان . وولج مزموره سمعه ، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت ، وعلى أقدامه فرقصت ، وعلى يديه فصفقت ، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت ، وعلى أنفاسه فتصاعدت ، وعلى زفراته فتزايدت ، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت . فيا أيها الفاتن المفتون ، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون ، هلا كانت هذه الأشجان ، عند سماع القرآن ؟ وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد ؟ وهذه الأحوال السنيات ، عند تلاوة السور الآيات ؟ ولكن كل امرىء يصبو إلى ما يناسبه ، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدرا وشرعا ، والمشاكلة سبب الميل عقلا وطبعا ، فمن أين هذا الإخاء والنسب ؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب . ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا ؟ " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا " . وقد أحسن القائل : تلي الكتاب، فأطرقوا، لا خيفة = لكنه إطراق ســـاه لا هي وأتي الغناء، فكالحمير تناهقوا = والله ما رقصوا لأجـل الله دف ومزمار، ونغمــة شــادن = فمتى رأيت عبادة بملاهي؟ ثقل الكتاب عليهــم لمــا رأوا = تقييـــده بـــأوامر ونواهــي سمعوا له رعدا وبرقا،إذ حوى = زجرا وتخويفا بفعل مناهي ورأوه أعظم قاطع للنفس عن = شهواتها، يا ذبحها المتناهي وأتى السماع موافقا أغراضها = فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه أين المساعد للهوى من قاطع = أسبابه، عند الجهول الساهي؟ إن لم يكن خمرالجسوم ، فإنه = خمرالعقول مماثل ومضاهي فانظر إلى النشوان عند شرابه = وانظر إلى النسوان عند ملاهي وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه = من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم = والتــــــــأثيم عنــــد اللـــــه ؟ وقال آخر : برئنا إلى الله من معشر = بهم مرض من سماع الغنا وكم قلت: ياقوم، أنتم على = شفا جرف ما به من بنا شفا جرف تحته هوة = إلى درك، كم به من عنا ؟ وتكرار ذا النصح منا لهم = لنعذر فيهم إلى ربنا فلما إستهانوا بتنبيهنا = رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى = وماتوا على تنتنا تنتنا ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض ، وتحذر من سلوك سبيلهم ، واقتفاء آثارهم ، من جميع طوائف الملة . قال الإمام أبو بكر الطرطوشي في خطبة كتابه ، في تحريم السماع : الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ونسأله أن يرينا الحق حقا فنتبعه ، والباطل باطلا فنجتنبه . وقد كان الناس فيما مضى يستر أحدهم بالمعصية إذا واقعها ، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها ، ثم كثر الجهل ، وقل العلم ، وتناقص الأمر ، حتى صار أحدهم يأتي المعصيه جهارا ، ثم ازداد الأمر إدبارا ، حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين - وفقنا الله وإياهم - استنزلهم الشيطان ، واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو ، وسماع الطقطقة والنقير ، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله . وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين ، وخالفت الفقهاء والعلماء وحملة الدين ، " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " فرأيت أن أوضح الحق . وأكشف عن شبه أهل الباطل ، بالحجج التي تضمنها كتاب الله ، وسنة رسوله ، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصي الأرض ودانيها ، حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها . والله ولي التوفيق . ثم قال : أما مالك فإنه نهى عن الغناء ، وعن استماعه ، وقال : إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب . وسئل مالك رحمه الله ، عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء ؟ فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . قال : وأما أبو حنيفة ، فإنه يكره الغناء ، ويجعله من الذنوب . وكذلك مذهب أهل الكوفة : سفيان ، وحماد ، وإيراهيم ، والشعبي ، وغيرهم . لا اختلاف بينهم في ذلك ، ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه . قلت : مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب ، وقوله فيه أغلظ الأقوال . وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها ، كالمزمار ، والدف ، حق الضرب بالقضيب ، وصرحوا بأنه معصية ، يوجب الفسق ، وترد به الشهادة ، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا : إن السماع فسق ، والتلذذ به كفر . هذا لفطهم ، ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه . قالوا : ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به ، أو كان في جواره . وقال أبو يوسف ، في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي : ادخل عليهم بغير إذنهم ، لأن النهي عن المنكر فرض ، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض . قالوا : ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره ، فإن أصر حبسه أو ضربه سياطا ، وإن شاء أزعجه عن داره . وأما الشافعي : فقال في كتاب أدب القضاء : إن الغناء لهو مكروه ، يشبه الباطل والمحال . ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته . وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه . وأنكروا على من نسب إليه حله ، كالقاضي أبي الطيب الطبري ، والشيخ أبي إسحق ، وابن الصباغ . قال الشيخ أبو إسحق في التنبيه : ولا تصح - يعني الإجارة - على منفعة محرمة ، كالغناء والزمر، وحمل الخمر . ولم يذكر فيه خلافا . وقال في المهذب : ولايجوز على المنافع المحرمة، لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم . فقد تضمن كلام الشيخ أمورا . أحدها : أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة . الثاني : أن الاستئجار عليها باطل . الثالث : أن أكل المال به أكل مال بالباطل ، بمنزلة أكله عوضا عن الميتة والدم . الرابع : أنه لا يجوز للرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك . فإنه بذل ماله في مقابلة محرم ، وأن بذله كبذله في مقابلة الدم والميتة . الخامس : أن الزمر حرام . وإذا كان الزمر- الذي هو أخف آلات اللهو- حراما، فكيف بما هو أشد منه ؟ كالعود . والطنبور ، واليراع . ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك . فأقل ما فيه : أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور . وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته : القسم الثاني : أن يغني ببعض آلات الغناء، بما هو من شعار شاربي الخمر، وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج ، وسائر المعازف ، والأوتار . يحرم استعماله ، واستماعه . قال : وفي اليراع وجهان ، وصحح البغوي التحريم . ثم ذكر عن الغزالي الجواز . قال : والصحيح تحريم اليراع ، وهو الشبابة . وقد صنف أبو القاسم الدؤلعي كتابا في تحريم اليراع . وقد حكى أبو عرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع، الذي جمع الدف والشبابة . والغناء ، فقال في فتاويه : وأما إباحة هذا السماع وتحليله ، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت ، فاستماع ذلك حرام ، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين . ولم يثبت عن أحد - ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف - أنه أباح هذا السماع ، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة، والدف منفردا، فمن لا يحصل ، أو لا يتأمل ، ربما اعتقد خلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي ، وذلك وهم بين من الصائر إليه ، تنادى عليه أدلة الشرع والعقل ، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ، ويعتمد عليه ، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء ، وأخذ بالرخص من أقاويلهم ، تزندق أو كاد . قال : وقولهم في السماع المذكور : إنه من القربات والطاعات ، قول مخالف لإجماع المسلمين ، ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " . وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء الإسلام منهم : المحللون لما حرم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه . والشافعي وقدماء أصحابه ، والعارفون بمذهبه : من أغلظ الناس قولا في ذلك . وقد تواتر عن الشافعي أنه قال : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة ، يسمونه التعبير . يصدون به الناس عن القرآن . فإذا كان هذا قوله في التغبير، وتعليله : أنه بصد عن القرآن ، وهو شعر يزهد في الدنيا ، يغني به مغن ، فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه - فليت شعري ما يقول في سماع التغبير عنده كتفلة في بحر. قد أشتمل على كل مفسدة، وجمع كل محرم ، فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون ، وعابد جاهل . قال سفيان بن عيينة : كان يقال : احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل ، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون . ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين . نقلاً عن لقط المرجان في علاج العين والسحر والجان |
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرَّجلُ لأخيهِ بظَهرِ الغيبِ قالَتِ الملائِكةُ آمينَ ولَك بمِثلٍ» الراوي: عويمر بن مالك أبو الدرداء المحدث:الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - خلاصة حكم المحدث: صحيح فلاتحرمونا دعائكم |
مواقع النشر (المفضلة) |
|
|