اعلانات
اعلانات     اعلانات
 


بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ : عَنْ أَبِي رُقَيَّةَ تَمِيمِ بْنِ أَوْسٍ الدّارِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ لِلَّهِ، وَلِكِتابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعامَّتِهِمْ». رَواهُ مُسْلِمٌ.

يُروى أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه كتَبَ إلى ابنِه مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ: (لا يكُنْ أخوك على قَطيعَتِك أقوى مِنك على صِلتِه، وعلى الإساءةِ أقوى مِنك على الإحسانِ) .


           :: وادي الجن شمال المدينة والبئر . (آخر رد :ابن الورد)       :: زعماعندو قدرة خارقة "بوهالي" خارج يداوي الناس من أمراض فالشارع العام فيها حارالأطباء (آخر رد :ابن الورد)       :: الشريف بهلول كيداوي وكيدير عمليات مستعصية وكيتحدى أطباء جميع دول العالم (آخر رد :ابن الورد)       :: 5:04 / 9:22 خطير ..عبد السلام دخانة يشرب ويستحم بالاسيد / الماء القاطع . (آخر رد :ابن الورد)       :: هَدْيِه النبي صلى الله فِي الْعِلَاجِ بِشُرْبِ الْعَسَلِ، وَالْحِجَامَةِ، وَالْكَيِّ. (آخر رد :ابن الورد)       :: استكشاف قرية الجن الفروثي وتجربة جهاز كاشف الجن والأشباح بالموجات الكهرومغناطيسية . (آخر رد :ابن الورد)       :: محمود صلاح بتصريح صادم: الجن يتعامل معنا والمنظومة التي تدير العالم تستجلب الشياطين ! (آخر رد :ابن الورد)       :: محمود صلاح يتحدث عن أسرار عبدة الشيطان :" التاروت هو أمر شيطاني "! (آخر رد :ابن الورد)       :: محمود صلاح يتحدى المنجمين : 2024 فيها لقاء مع الفضائيين وظهور وباء الزومبي ! (آخر رد :ابن الورد)       :: ماهي حقيقة مثلث برمودا ؟ ولماذا تختفي الطائرات والسفن به ؟ (آخر رد :ابن الورد)      

 تغيير اللغة     Change language
Google
الزوار من 2005:
Free Website Hit Counter

المكتــــــبة العــــــــــــــامة ( Public Library ) للكتب والأبحاث العلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 15 Mar 2010, 05:18 AM   #51
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


* * *


بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم (1)..........................................
فصل

مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة
واتصافهم بالوسطية
(1) يعني: الأمم السابقة، وذلك من عدة أوجه:
- ففي حق الله تعالى: كانت اليهود تصف الله تعالى بالنقائص، فتلحقه بالمخلوق. وكانت النصارى تلحق المخلوق الناقص بالرب الكامل. أما هذه الأمة؛ فلم تصف الرب بالنقائص ولم تلحق المخلوق به.
- وفي حق الأنبياء ؛ كذبت اليهود عيسى بن مريم ، وكفرت به . وغلت النصارى فيه، حتى جعلته إلهاً. أما هذه الأمة؛ فأمنت به بدون غلو، وقالت: هو عبد الله ورسوله.
- وفي العبادات ؛ النصارى يدينون لله عز وجل بعدم الطهارة؛ بمعنى انهم لا يتطهرون من الخبث؛ يبول الواحد منهم، ويصيب البول ثيابه، ويقوم، ويصلي في الكنيسة!! واليهود بالعكس؛ إذا أصابتهم النجاسة؛ فإنهم يقرضونها من الثوب؛ فلا يطهرها الماء عندهم؛ حتى إنهم يبتعدون عن الحائض لا يؤاكلونها ولا يجتمعون بها. أما هذه الأمة؛ فهم وسط فيقولون: لا هذا ولا هذا؛ لا يُشق الثوب ، ولا يُصلى بالنجاسة، بل يغسل غسلاً حتى تزول النجاسة منه، ويصلى به، ولا يبتعدون عن الحائض؛ بل يؤاكلونها ويباشرها زوجها في غير الجماع.
- وكذلك أيضاً في باب المحرمات من المآكل والمشارب؛ النصارى استحلوا الخبائث وجميع المحرمات، واليهود حرم عليهم كل ذي ظفر؛ كما قال تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام:146) ، أما هذه الأمة ؛ فهم وسط؛ أحلت لهم الطيبات؛ وحرمت عليهم الخبائث.
- وفي القاص ؛ فرض على اليهود ، والتسامح عن القصاص فرض على النصارى، أما هذه الأمة؛ فهم وسط؛ أحلت لهم الطيبات؛ وحرمت عليهم الخبائث.
- و في القصاص؛ القصاص فرض على اليهود ، والتسامح عن القصاص فرض على النصارى، أما هذه الأمة؛ فهي مخيرة بين القصاص والدية والعفو مجاناً.
فكانت الأمة الإسلامية وسطاً بين الأمم بين الغلو والتقصير.
فأهل السنة والجماعة بين فرق الأمة كالأمة بين الديانات الأخرى؛ يعني : أنهم وسط.
ثم ذكر المؤلف – رحمه الله- اصولاً خمسة كان أهل السنة والجماعة فيها وسطاً بين فرق الأمة:
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة (1) .............

الأصل الأول: باب الأسماء والصفات

(1) هذان طرفان متطرفان: أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة.
- فالجهمية: ينكرون صفات الله عز وجل، بل غلاتهم ينكرون الأسماء ويقولون: لا يجوز أن نثبت لله اسماً ولا صفة؛ لأنك إذا أثبت له اسماً ؛ شبهته بالمسميات، أو صفة؛ شبهته بالموصوفات!! إذاً ؛ لا نثبت أسماً ولا صفة!! وما أضاف الله إلى نفسه من الأسماء؛ فهو من باب المجاز، وليس من باب التسمي بهذه الأسماء!!
- والمعتزلة ينكرون الصفات ويثبتون الأسماء.
- والأشعرية يثبتون الأسماء وسبعاً من الصفات.
(1) كل هؤلاء يشملهم اسم التعطيل ، لكن بعضهم معطل تعطيلاً كاملاً ؛ كالجهمية، وبعضهم ، وبعضهم تعطيلاً نسبياً ؛ مثل المعتزلة والأشاعرة.
(2) وأما أهل التمثيل المشبهة؛ فيثبتون لله الصفات، ويقولون: يجب أن نثبت لله الصفات؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن يقولون: إنها مثل صفات المخلوقين.
فهؤلاء غلو في الإثبات، وأهل التعطيل غلو في التنزيه.
فهؤلاء قالوا: يجب عليك أن تثبت لله وجهاً، وهذا الوجه مثل وجه أحسن واحد من بني آدم قالوا: لأن الله خاطبنا بما نعقل ونفهم؛ قال : (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن:27)، ولا نعقل ونفهم من الوجه إلا ما نشاهد، وأحسن ما نشاهد الإنسان.
فهو على زعمهم – والعياذ باله – على أحسن واحد من الشباب الإنساني، ويدعون أن هذا هو المعقول معقول!!
وأما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنأخذ بالحق في باب التنزيه؛ فلا نمثل، ونأخذ بالحق في جانب الإثبات؛ فلا نعطل؛ بل إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل؛ نحن نثبت ولكن بدون تمثيل، فنأخذ بالأدلة من هنا ومن هنا.
والخلاصة: هم وسط في باب الصفات بين طائفتين متطرفتين: طائفة غلت في التنزيه والنفي، وهم أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم وطائفة غلت في الإثبات، وهم المثلة.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لا تغلو في الإثبات ولا في النفي، ونثبت بدون تمثيل ؛ لقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11)
الأصل الثاني: أفعال العباد
وهم وسط في باب أفعال اله تعالى بين القدرية والجبرية (1)...........................................
(1) في باب القدر أنقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: آمنوا بقدر الله عز وجل وغلوا في إثباته، حنة سلبوا الإنسان قدرته واختياره، وقالوا: إن الله فاعل كل شيء، وليس للعبد اختيار ولا قدرة، وإنما يفعل الفعل مجبراً عليه، بل إن بعضهم ادعى أن فعل العبد هو فعل الله ، ولهذا دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول، وهؤلاء هم الجبرية.
القسم الثاني قالوا: إن العبد مستقل بفعله ، وليس لله فيه مشيئة ولا تقدير، حتى غلا بعضهم ، فقال إن الله لا يعلم فعل العبد إلا إذا فعله، أما قبل؛ فلا يعلم عنه شيئاً ، وهؤلاء هم القدرية، مجوس هذه الأمة.
فالأولون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا: إن الله عز وجل يجبر الإنسان على فعله، وليس للإنسان اختيار.
والآخرون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا: إن الله عز وجل يجبر الإنسان على فعله، وليس للإنسان اختيار.
والآخرون غلوا في إثبات قدرة العبد، وقالوا: إن القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية لا علاقة لها في فعل العبد؛ فهو الفاعل المطلق الاختيار.
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة؛ قالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنقول: إن فعل العبد واقع بمشيئة الله وخلق الله ، ولا يمكن أن يكون في ملك الله ما لا يشاءوا أبداً ، والإنسان له اختيار وإرادة، ويفرق بين الفعل الذي يضطر إليه والفعل الذي يختاره؛ فأفعال العباد باختيارهم وإرادتهم ، ومع ذلك ؛ فهي واقعة بمشيئة الله وخلقه.
لكن سيبقى عندنا إشكال: كيف تكون خلقاً لله وهي فعل الإنسان؟!
الجواب: أن أفعال العبد صدرت بإرادة وقدرة، والذي خلق فيه الإرادة والقدرة هو الله عز وجل، لو شاء الله تعالى ؛ لسلبك القدرة؛ فلم تستطع، ولو أن أحداً قادراً لم يرد فعلاً ؛ فإنه بإرادته، اللهم إلا من أكره.
الأصل الثالث : الوعيد
وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم (1).....................................
(1) المرجئة: أسم فاعل من أرجَأ ؛ بمعنى: أخر، ومنه قوله تعالى (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهَُ) (لأعراف:111)، وفي قراءة: (أرجئه) ؛ أي: آخره وأخر أمره، وسموا مرجئه: إما من الرجاء؛ لتغليبهم أدلة الرجاء على أدلة الوعيد، وإما من الإرجاء؛ بمعنى التأخير ؛ لتأخيرهم الأعمال عن مسمى الإيمان.
ولهذا يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، والإيمان هو الاعتراف بالقلب فقط.
ولهذا يقولون: إن فاعل الكبيرة كالزاني والسارق وشارب الخمر وقاطع الطريق لا يستحق دخول النار لا دخولاً مؤبداً ولا مؤقتاً؛ فلا يضر مع الإيمان معصية؛ مهما كانت صغيرة أم كبيرة؛ إذا لم تصل إلى حد الكفر.
وأما الوعيدية؛ فقابلوهم، وغلبوا جانب الوعيد، وقالوا: أي كبيرة يفعلها الإنسان ولم يتب منها، فإنه مخلد في النار بها : إن سرق؛ فهو من أهل النار خالداً مخلداً، وإن شرب الخمر؛ فهو في النار خالداً مخلداً… وهكذا.
والوعيدية يشمل طائفتين: المعتزلة، والخوارج. ولهذا قال المؤلف: " من القدرية وغيرهم" ؛ فيشمل المعتزلة- والمعتزلة قدرية؛ يرون أن الإنسان مستقل بعلمه، وهم وعيدية- ويشمل الخوارج.
فاتفقت الطائفتان على أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، لا يخرج منها أبداً، وأن من شرب الخمر مرة؛ كمن عبد الصنم ألف سنة؛ كلهم مخلدون في النار؛ لكن يختلفون في الأسم؛ مما سيأتي إن شاء الله في الباب الثاني.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فيقولون: لا نغلب جانب الوعيد كما فعل المعتزلة والخوارج، ولا جانب الوعد كما فعل المرجئة، ونقول: فاعل الكبيرة مستحق للعذاب ، وإن عذب؛ لا يخلد في النار.
وسبب الخلاف بين الوعيدية وبين المرجئة: أن كل واحد منهما نظر إلى النصوص بعين عوراء؛ ينظر من جانب واحد.
هؤلاء نظروا نصوص الوعد، فأدخلوا الإنسان في الرجاء ، وقالوا نأخذ بها ، وندع ما سواها ،وحملوا نصوص الوعيد على الكفار.
- والوعيدية بالعكس؛ نظروا إلى نصوص الوعيد، فأخذوا بها ، وغفلوا عن نصوص الوعد.
فلهذا اختل توازنهم لما نظروا من جانب واحد.
(3) وأهل السنة والجماعة أخذوا بهذا وهذا، وقالوا: نصوص الوعيد محكمة ؛ فنأخذ بها ، ونصوص الوعد محكمة؛ فنأخذ هبا ، فأخذوا من نصوص الوعد ما ردوا به على الوعيدية، ومن نصوص الوعيد ما ردوا به على المرجئة، وقالوا: فاعل الكبيرة مستحق لدخول النار؛ لئلا نهدر نصوص الوعيد؛ غير مخلد فيها لئلا نهدر نصوص الوعد.
فأخذوا بالدليلين ونظروا بالعينين.
الأصل الرابع: أسماء الإيمان والدين
وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية (1)
(1) هذا في باب الأسماء والدين، وهو غير باب الأحكام الذي هو الوعد والوعيد؛ ففاعل الكبيرة ماذا نسميه؟! مؤمن أم كافر؟!
(4) وأهل السنة وسط فيه بين طائفتين: الحرورية والمعتزلة من وجه، والمرجئة الجهمية من وجه:
- فالحرورية والمعتزلة أخرجوه من الإيمان، لكن الحرورية قالوا: إنه كافر يحل دمه وماله، ولهذ1 خرجوا على الأئمة، وكفروا بالناس.
- وأما المرجئة الجهمية، فخالفوا هؤلاء، وقالوا: هو مؤمن كامل الإيمان!! يسرق ويزني ويشرب الخمر ويقتل النفس ويقطع الطريق ؛ ونقول له : أنت مؤمن كامل الإيمان!! كرجل فعل الواجبات والمستحبات وتجنب المحرمات!! أنت وهو في الإيمان واحد!!
فهؤلاء وأولئك على الضد في الاسم وفي الحكم.
وأما المعتزلة؛ فقالوا: فاعل الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر؛ فهو في منزلة بين منزلتين؛ لا نتجاسر أن نقول: إنه كافر! وليس لنا أن نقول: إنه مؤمن؛ وهو يفعل الكبيرة؛ يزني ويسرق ويشرب الخمر! وقالوا: نحن أسعد الناس بالحق!
حقيقة أنهم إذا قالوا: إن هذا لا يتساوى مع مؤمن عابد؛ فقد صدقوا.
لكن كونهم يخرجونه من الإيمان ثم يحدثون منزلة بين منزلتين: بدعة ما جاءت لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، كل النصوص تدل على أنه لا يوجد منزلة بين منزلتين: كقوله تعالى( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(سـبأ: من الآية24).
وقوله: ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ )(يونس: من الآية32). وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (التغابن:2) وفي الحديث : "القرآن حدة لك أو عليك".
فأين المنزلة بين المنزلتين؟!
هم يقولون: في منزلة بين منزلتين!! وفي باب الوعيد ينفذون عليه الوعيد، فيوافقون الخوارج في أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، أما في الدنيا؛ فقالوا: تجرى عليه أحكام الإسلام؛ لأنه هو الأصل ؛ فهو عندهم في الدنيا بمنزلة الفاسق العاصي.
فيا سبحان الله ! كيف نصلي عليه ، ونقول : اللهم افر له وهو مخلّد في النار؟!
فيجب عليهم أن يقولوا في أحكام الدنيا: إنه يتوقف فيه! لا نقول: مسلم ، ولا: كافر، ولا نعطيه أحكام الإسلام، ولا أحكام الكفر!! إذا مات ؛ لا نصلي عليه ، ولا نكفنه، ولا نغسله، ولا يدفن مع المسلمين، ولا ندفنه مع الكفار ؛ إذاً ؛ نبحث له عن مقبرة بين مقبرتين !!
- وأما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطاً بين هذه الطوائف ؛ فقالوا: نسمي المؤمن الذي يفعل الكبيرة مؤمناً ناقص الإيمان، أو نقول : مؤمن بإيمانه ، فاسق بكبيرته، وهذا هو العدل ؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم.
ويترتَّب على هذا : أن الفاسق لا يجوز لنا أن نكرهه كرهاً مطلقاً، ولا أن نحبه حباً مطلقاً ، بل نحبه على ما معه من الإيمان، ونكرهه على ما معه من المعصية.

الأصل الخامس : في الصحابة رضي الله عنهم
‍وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج (1)..............................
(1)* "أصحاب" ": جمع صاحب، والصحب اسم جمع صاحب والصاحب : الملازم للشيء.
والصحابي : هو الذي اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك
وهذا خاص في الصحابة، وهو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن الإنسان يكون من أصحابه، وإن لم يجتمع به إلا لحظة واحدة؛ لكن بشرط أن يكون مؤمناً به.
(5) وأهل السنة والجماعة وسط فيهم بين الرافضة والخوارج.
فالرافضة: هم الذين يسمون اليوم : شيعة، وسموا رافضة؛ لأنهم رفضوا زيد بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي ينتسب إليه الآن الزيدية؛ ورفضوه لأنهم سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ يريدون منه أن يسبهما ويطعن فيهما! ولكنه رضي الله عنه قال لهم : نعم الوزيران وزيرا جدي. يريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأثنى عليهما، فرفضوه، وغضبوا عليه ، وتركوه! فسموا رافضة.
هؤلاء الروافض- والعياذ بالله- لهم أصول معروفة عندهم، ومن أقبح أصولهم: الإمامة التي تتضمن عصمة الإمام، وأنه لا يقول خطأ، وأن مقام الإمامة أرفع من مقام النبوة؛ لأن الإمام يتلقى عن الله مباشرة، والنبي بواسطة الرسول ، وهو جبريل، ولا يخطئ الإمام عندهم أبداً، بل غلاتهم يدعون أن الإمام يخلق؛ يقول للشيء : كن فيكون!!
وهم يقولون: إن الصحابة كفار، وكلهم ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين وماتا على النفاق والعياذ بالله ، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت ، ونفراً قليلاً ممن قالوا: إنهم أولياء آل البيت.
وقد قال صحاب كتاب"الفصل": " إن غلاتهم كفروا على بن أبي طالب؛ قالوا: لأن عليّاً أقر الظلم والباطل حين بايع أبا بكر وعمر، وكان الواجب عليه أن ينكر بيعتهما، فلما لم يأخذ بالحق والعدل، ووافق على الظلم ؛ صار ظالماً كافراً".
- أما الخوارج ؛ فهم على العكس من الرافضة؛ حيث أنهم كفروا علي بن أبي طالب، وكفروا معاوية بن أبي سفيان، وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم، واستحلوا دماء المسلمين، فكانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام:" يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمِية"[193] ، وإيمانهم لا يتجاوز حناجرهم.
فالشيعة غلوا في آل البيت وأشياعهم، وبالغوا في ذلك ، حتى إن منهم من أدعىّ ألوهية علي، ومنهم من ادعى انه أحق بالنبوة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخوارج بالعكس.
أما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطاً بين الطائفتين؛ قالوا: نحن ننزل آل البيت منزلتهم، ونرى أن لهم حقين علينا: حق الإسلام والإيمان، وحق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالوا : قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها الحق علينا، لكن من حقها علينا أن ننزلها منزلتها، وأن لا نغلو فيها . ويقولون في بقية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: لهم الحق علينا بالتوقير والإجلال والترضي، وأن نكون كما قال الله تعالى: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(الحشر: من الآية10)، ولا نعادي أحداً منهم أبداً؛ لا آل البيت، ولا غيرهم؛ فكل منهم نعطيه حقه؛ فصاروا وسطاً بين جفاة وغلاة.




 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 15 Mar 2010, 05:19 AM   #52
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


فصل
وقد دخل ذكرناه من الإيمان بالله :الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه علىّ على خلقه(1)...................
فصل
في المعية وبيان الجمع بينهما
وبين علو الله واستوائه على عرشه
(1) سبق أن مما يدخل في الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته ومن ذلك الإيمان بعلو الله واستوائه على عرشه، والإيمان بمعيته، وفي هذا الفصل بين المؤلف رحمه الله الجمع بين العلو والمعية ؛ فقال :" وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه عليّ على خلقه".
هذه ثلاثة أدلة على علو الله تعالى : الكتاب، السنة؟، والإجماع.
ومر علينا دليل رابع وخامس، وهما : العقل ، والفطرة.
(6) "من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه عليّ على خلقه" تقدم لنا أن علو الله عز وجل نوعان: علو صفة، وعلو ذات، وأن علو الذات دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، والعقل والفطرة وكذلك علو الصفة.
(7) فالكتاب مملوء من ذلك : تارة بالتصريح بالفوقية، وتارة بالتصريح بالعلو ، وتارة بالتصريح بأنه في السماء، وتارة بنزول الأشياء من عنده، وتارة بصعودها إليه، ونحو ذلك.
(8) والسنة جاءت بالقول والفعل والإقرار، وسبق ذكر ذلك.
(9) أما الإجماع ؛ فقد أجمع السف على ذلك، وطريق العلم بإجماعهم عدم نقل ضد ما جاء في الكتاب والسنة؛ فإنهم كانوا يقرؤون القرآن وينقلون الأخبار ويعلمون معانيها، ولما لم ينقل عنهم ما يخالف ظاهرها؛ علم أنهم لا يعتقدون سواه، وأنهم مجمعون على ذلك. وهذا طريق حسن لإثبات إجماعهم، فاستمسك به ينفعك في مواطن كثيرة.
(10) وأما العقل؛ فمن وجهين:
الوجه الأول: أن العلو صفى كمال ، والله تعالى قد ثبت له كل صفات الكمال، فوجب إثبات العلو له سبحانه.
الوجه الثاني: إذا لم يكن عالياً؛ فإما أن يكون تحت أو مساوياً، وهذا صفة نقص؛ لأنه يستلزم أن تكون الأشياء فوقه أو مثله؛ فلزم ثبوت العلو له.
أما الفطرة؛ فلا أحد ينكرها؛ إلا من انحرفت فطرته؛ فكل إنسان يقول: يا الله ! يتجه قلبه إلى السماء، لا ينصرف عنه يمنة ولا يسرة، لأن الله تعالى في السماء.
* * *

وهو سبحانه معهم إينما كانوا؛ يعملُ ما هم عامِلونَ (1)............................................... ..
(1)هذا من الإيمان بالله، وهو الإيمان بمعيته لخلقه.
*وقد سبق أن معية الله تنقسم إلى عامة وخاصة، وخاصة الخاصة.
- فالعامة: التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر، وبر وفاجر، ومثالها قوله تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(الحديد: من الآية4).
- والخاصة: مثل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:128).
- والتي أخص بها : مثل قوله تعالى لموسى وهارون: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طـه:46)، وقوله عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)(التوبة: من الآية40).
وسبق أن هذه المعية حقيقية، وأن من مقتضى المعية العامة العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وغير ذلك، ومن مقتضى الخاصة النصر والتأييد.
كما جمع بين ذلك (1) في قوله: ( هو الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في ................................
(1) قوله :"بين ذلك"؛ أي : بين العلو والمعية، ففي قوله:( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) إثبات العلو، وفي قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)إثبات المعية، فجمع بينهما في آية واحدة، ولا منافاة بينهما كما سبق ويأتي.
ووجه الجمع من وجوه ثلاثة:
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وليس معنى قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ) أنه مختلط بالخلق (1) فإن هذا لا توجبه اللغة (1) وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق (3)
الأول: أنه ذكر استواءه على العرش، ثم قال: ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ، وإذا جمع الله لنفسه بين وصفين؛ فإننا نعلم علم اليقين أنهما لا يتناقضان؛ لأنهما لو تناقضا؛ لاستحال اجتماعهما؛ إذ المتناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ فلا بد من وجود أحدهما وانتفاء الثاني، ولو كان هناك تناقض؛ لزم أن يكون أول الآية مكذباً لأخرها أو بالعكس.
الثاني: نه قد يجتمع العلو والمعية في المخلوقات ؛ كما سيذكره المؤلف في قول الناس: ما زلنا نسير والقمر معنا.
الثالث: لو فرض تعارضهما بالنسبة للمخلوق؛ لم يلزم ذلك بالنسبة للخالق؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
(1) * قوله " ليس معنى قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ ) ؛ أنه مُختلط بالخلق: لأن هذا المعنى نقص، وقد سبق أنه لو كان هذا هو المعنى؛ لزم أحد أمرين: إما تعدد الخالق، أو تجزؤه؛ مع ما في ذلك أيضاً من كون الأشياء تحيط به، وهو سبحانه محيط بالأشياء.
(2) * قوله :" فإن هذا لا توجبه اللغة"؛ يعني: وإذا كان اللغة لا توجبه؛ لم يتعين، وهذا أحد الوجوه الدالة على بطلان مذهب الحلولية من الجهمية وغيرهم؛ القائلين بأن الله مع خلقه مختلطاً بهم.
ولم يقل : لا تقتضيه اللغة؛ لأن اللغة قد تقتضيه ، وفرق بين كون اللغة تقتضي ذلك وبين كونها توجب ذلك.
فالمعية في اللغة قد تقتضي الاختلاط؛ مثل الماء واللبن؛ تقول: ماء مع لبن مخلوطاً.
(3)* قوله "وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق" وذلك لأن الإنسان مفطور على أن الخالق بائن من المخلوق ، ليس أحد إذا قال: يا الله! إلا ويعتقد أن الله تعالى بائن من خلقه، لا يعتقد أنه حالٌ في خلقه؛ فدعوى أنه مختلط بالخلق مخالف للشرع ومخالف للعقل ومخالف للفطرة.
بل (1) القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان (2)
(1)* "بل" للإضراب الانتقالي.
(2)* هذا مثل ضربه المؤلف رحمه اله تقريباً للمعنى وتحقيقاً لصحة كون الشيء مع الإنسان حقيقة مع تباعد ما بينهما، وذلك أن القمر من أصغر المخلوقات، وهو في السماء، ومع المسافر وغيره أينما كان.
فإذا كان هذا المخلوق، وهو من أصغر المخلوقات؛ نقول: إنه معنا، وهو فيا لسماء. ولا يعد ذلك تناقضاً، ولا يقتضي اختلاطاً ؛ فلماذا لا يصح أن نجري آيات المعية على ظاهرها، ونقول: هو معنا حقيقة ، وإن كان هو في السماء فوق كل شيء؟!
وكما قلنا سابقاً: لو فرض أن هذا ممتنع في الخلق؛ لكان في الخالق غير ممتنع، فالرب عز وجل هو في السماء حقيقة، وهو معنا حقيقة، ولا تناقض في ذلك، حتى وإن كامن بعيداً عز وجل في علوه؛ فإنه قريب في علوه.
وهذا الذي حققه شيخ الإسلام في كتبه، وقال: إنه لا حاجة إلى أن نؤول الآية على ظاهرها، لكن مع اعتقادنا بأن الله تعالى في المساء على عرشه؛ فهو معنا حقاً، وهو على عرشه حقاً؛ كما نقول: إنه ينزل إلى السماء الدنيا حقاً، وهو في العلو، ولا أحد من أهل السنة ينكر هذا أبداً ؛ كل أهل السنة يقولون: هو ينزل حقاً، متفقون على أنه في العلو؛ لأن صفات الخالق ليست مثل صفات المخلوق.
وقد عثرت على تقرير للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يبين هذا المعنى تماماً؛ إي أن المعية حق على حقيقتها، ولا تستلزم أن يكون مختلطاً بالخلق ، أو أنه في الأرض؛ قال جواباً على قول بعض السلف :" معهم بعلمه".
" إذا جاءت هذه الكلمة؛ فهي تفسير للمعية بالمقتضى، ليس تفسيراً لحقيقة الكلمة، والذي يحمل ويحدو على التفسير بهذا أن المنازع في هذا المبتدعة الذين يقولون: إنه مختلط بهم، فيأتي البعض من السلف بالمراد بالسياق، وهو أنه بكمال علمه، ولكن لا يريدون أن كلمة (مع) مدلولها بكل شيء عليم، بل اجتمعت معها في العلم ، وزادت المعية في المعنى، وهو كونه معهم؛ فتفسيرها بالمقتضى لا يدل على أن معناها باطل ، فالكل حق...".
إلى أن قال:" ولهذا ؛ شيخ الإسلام في عقيدته الأخرى المباركة المختصرة؛ بين أن قوله معهم حق على حقيقته؛
؛ فمن فسرها من السلف بالمقتضى؛ فلحاجة دعت إلى ذلك، وهو الرد على أهل الحلول بالجهمية الذين ينكرون العلو كما تقدم، والقرآن يفسر بالمطابقة وبالمفهوم وبالاستلزام والمقتضى وغير ذلك من الدلالات، وهؤلاء العلماء الذين روى عنهم التفسير بالمقتضى لا ينكرون المعية، بل هي عندهم كالشمس " أ هـ " من الفتاوى" ؛ تقريراً على الحموية. ( مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 1/212).
(11) سؤال: هل يصح أن نقول : هو معنا بذاته؟
الجواب: هذا اللفظ يجب أن يبعد عنه؛ لأنه يوهم معنى فاسداً يحتج به من يقول بالحلول، ولا حاجة إليه، لأن الأصل أن كل شيء أضافه الله إلى نسفه؛ فهو له نفسه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَجَاءَ رَبُّكَ ) هل يحتاج أن نقول: جاء بذاته؟! وإلى قوله صلى الله عليه وسلم :" ينزل إلى السماء الدنيا" [194]، وهل يحتاج أن نقول: ينزل بذاته؟ّ إننا لا نحتاج إلى ذلك؛ اللهم إلا في مجادلة من يدعى أنه جاء أمره أو ينزل أمره؛ لرد تحريفه.
وهو سبحانه فوق العرش (1) رقيب على خلقه (2)* مهيمن عليهم (3) مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته (4).
وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا: حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف" ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله : "في السماء" أن السماء تقله أو تظله وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان (5)............................................... ...............................
(1) يقول رحمه الله :" وهو سبحانه فوق عرشه": مع أنه مع الخلق، لكنه فوق عرشه.
(2) يعني: مراقباً حافظاً لأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم.
(3) أي: حاكم مسيطر على عباده؛ فله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن! فيكون.
(4) يعني بذلك ما تضمنه معنى الربوبية من ملك وسلطان وتدبير وغير ذلك؛ فإن معاني الربوبية كثيرة؛ لأن الرب هو الخالق المالك المدبر ، وهذه تحمل معاني كثيرة جداً.
(5) هذه الجملة تأكيد لما سبق، وإنما كرر معنى ما سبق لأهمية الموضوع؛ فبين رحمه الله أن ما ذكره الله من كونه فوق العرش حق على حقيقته، وكذلك ما ذكره من كونه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف ، يني: لا يحتاج أن نصرف معنى الفوقية إلى فوقية القدر كما ادعاه أه التحريف والتعطيل، بل هي فوقية ذات وقدر، كما لا يحتاج أن نصرف معنى المعية عن ظاهرها ، بل نقول: هي حق على ظاهرها، ومن فسرها بغير حقيقتها ؛ فهو محرف ؛ لكن ما ورد من تفسيرها بلازمها ومقتضاها، وارد عن السلف لحاجة دعت إلى ذلك، وهو لا ينافي الحقيقة؛ لأن اللازم الحق حق.
(12) ثم استدرك المؤلف رحمه الله، فقال:" ولكن يصان عن الظنون الكاذبة" مثل أن يظن أن ظاهر قوله: ( فِي السَّمَاءِ )(الملك:17) أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان".
(13) الظنون الكاذبة هي الأوهام التي ليس لها أساس من الصحة؛ فيجب أن يصان عنها كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
(14) مثال ذلك أن يظن أن ظاهر قوله: (فِي السَّمَاء)ِ ؛ أن السماء تُقله؛ أي: تحمله كما يحمل سقف البيت من كان على ظهره" أو تظله"؛ يعني : تكون فوقه؛ كالسقف على الإنسان.
(15) إذا ظن الإنسان هذا؛ فهو كاذب، يجب صون الأدلة الدالة على أن الله في السماء عن ذلك.
(16) قال المؤلف :" وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان".
تنبيه:
قد يقول قائل: كان على المؤلف أن يقول: ومثل أن يظن أن ظاهر قوله: ( وَهُوَ مَعَكُم) أنه مختلط بالخلق؛ لأن هذا الظن كاذب أيضاً.
وجوابه أن نقول : إن المؤلف رحمه الله ذكر ذلك سابقاً في قوله: وليس معنى قوله ( وَهُوَ مَعَكُم )؛ "أنه مختلط بالخلق".
(1) "الكرسي": كما يروى عن ابن عباس : موضع القدمين[195]
وسع كرسيه السماوات والأرض؛ يعني : أحاط بالسماوات والأرض؛ السماوات السبع والأرضين السبع.
فكيف يظنُ ظانُ أن السماء تظل الله أو تقله؟!
فإذا كان قد وسع كرسيه السماوات والأرض؛ فلا يظن أحد أبداً هذا الظن الكاذب، وهو أن السماء تقله أو تظلُه.
(2) * يمسكها أن تزولا عن أماكنهما، ولولا إمساك الله لهما؛ لاضطربتا ومادتا وزالتا، ولكن الله عز وجل بقدرته وقوته يمسك السماوات والأرض أن تزولا، بل قال تعالى: ( وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِه)(فاطر: من الآية41)، ما أمسكهما أحد من بعد الله أبداً.
لو تزول نجمة من النجوم؛ لا يستطيع أحد أن يمسكها؛ فكيف لو زالت السماوات والأرض؟! ما يمسكهما إلا الله الذي خلقهما، الذي يقول للشيء: كن! فيكون. سبحانه وتعالى ، بيده ملكوت السماوات والأرض.
قوله: ( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه" السماء فوق الأرض ، ووالله؛ لولا إمساك الله لها؛ لوقعت على الأرض؛ لأنها أجرام عظيمة؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (الأنبياء:32)، وقال: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذريات:47)؛ فلولا أن الله يمسكها؛ لوقعت على الأرض، وإذا وقعت على الأرض؛ أتلفتها.
فالذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه؛ هل يتصور متصور أن السماء تقلُّه أو تظلُّه؟!
لا أحد يتصور ذلك.
ومن آيَاتِه)(2) أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ )(2).............................................. ........
(1) يعني: من العلامات الدالة على كماله عز وجل من كل وجه.
(2) )ِ( أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ )(الروم: من الآية25): الكوني والشرعي؛ لأن أمره مبنى على الحكمة والرحمة والعدل والإحسان؛(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ)(المؤمنون: من الآية71) والأهواء فساد للسماوات والأرض، وهي مخالفة للأمر الشرعي.
إذاً فالسماوات والأرض تقوم بأمر الله الكوني والشرعي، ولو أن الحق اتبع أهواء الخلق؛ لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، ولهذا قال العلماء في قوله تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)(لأعراف: من الآية56) ، أي: " لا تفسدوا فيها بالمعاصي".



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 15 Mar 2010, 05:20 AM   #53
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


فصل
في قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلك
لا ينافي علوه وفوقيته
فصل
وقد دخل في ذلك(2) الإيمان بالله بأنه قريب من خلقه مجيب (2)..................................
(1) يعني: فيما وصف به نفسه.
(2) الإيمان بأنه قريب في نفسه، ومجيب؛ يعني : لعباده.
ودليل ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )(البقرة: من الآية186)
في هذه الآية ستة ضمائر تعود على الله ، وعلى هذا ؛ فيكون القرب قربه عز وجل، ولكن نقول في (قَرِيبٌ) كما قلنا في المعية؛ أنه لا يستلزم أن يكون في المكان الذي فيه الإنسان.
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول:" إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" [196]ولا يلزم أن يكون الله عز وجل نفسه في الأرض بينه وبين عنق راحلته.
وإذا كان قول الرسول عليه الصلاة والسلام:" فإن الله قبل وجه المصلي"[197] : لا ستلزم أن يكون الله بينه وبين الجدار ، إن كان يصلي إلى الجدار، ولا بينه وبي الأرض إن كان ينظر إلى الأرض.
فكذلك لا يلزم من قربه أن يكون في الأرض؛ لأن الله ليس كمثله شيء في جمع صفاته، وهو محيط بكل شيء.
واعلم أن من العلماء من قسم قرب الله تعالى إلى قسمين؛ كالمعية، وقال: القرب الذي مقتضاه الإحاطة قرب عام، والقرب الذي مقتضاه الإجابة والإثابة قرب خاص.
ومنهم يقول: إن القرب خاص فقط؛ مقتض لإجابة الداعي وإثابة العابد، ولا ينقسم.
- ويستدل هؤلاء بقوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )(البقرة: من الآية186)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم :" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" [198]وأنه لا يمكن أن يكون الله تعالى قريباً من الفجرة الكفرة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
- ولكن أورد على هذا القول قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (قّ:16) ؛ فالمراد ب (الْأِنْسَانَ): كل إنسان ، ولهذا قال في آخر الآية: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (قّ:22)....) إلى أن قال (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (قّ:24) (ق: 22-24)؛ فهو شامل.
- وأورد عليه أيضاً قوله تعالى (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (83)(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (84)(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (الواقعة:83-85) ثم قسم هؤلاء الذين بلغت أرواحهم الحلقوم إلى ثلاثة أقسام، ومنهم الكافر.
- وأجيب عن ذلك بأن قوله : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(قّ: من الآية16) ؛ يعني بملائكتنا، واستدل لذلك بقوله: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ)(قّ:17)
- فإن ( إِذْ ) ظرف متعلق ب(أَقْرَبُ )؛ يعني: ونحن أقرب إليه حين يتلقى المتلقيان، وهذا يدل على أن المراد بقربه تعالى قرب ملائكته.
وكذلك قوله في المحتضر: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) المراد: قرب الملائكة، ولهذا قال (وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ)(الواقعة 85)، وهذا يدل على أن هذا القريب موجود عندنا، لكن لا نبصره، وهذا يمتنع غاية الامتناع أن يكون المراد به الله عز وجل؛ لأن الله في السماء.
- وما ذهب إليه شيخ الإسلام ؛ فهو عندي أٌقرب، ولكنه ليس في القرب بذاك.
* * *
كما جمع بين ذلك(1) في قوله (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالذكر:" أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"[199].
وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقبته؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علِي في ذُنُوِه، قريب في عُلُوِه (2).
(1) قوله:" كما جمع بين ذلك": المشار غليه القرب الإجابة.
(2) "نعوته" ؛ يعني: صفاته. وهو على مع أنه داني، قريب مع أنه عال، ولا تناقض في ذلك، وقد سبق بيان ذلك قريباً في الكلام على المعية.

فصل
في الإيمان بأن القرآن
كلام الله حقيقة
فصل
من الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن(1) كلام الله(2) منزل(3) غير مخلوق(4).........................
(1) وجه كون الإيمان بالقرآن على هذا الوجه من الإيمان بالله أن القرآن من كلام الله ، كلام الله صفة من صفاته، وأيضاً ؛ فإن الله وصف القران بأنه كلامه، وأنه منزل؛ فتصديق ذلك من الإيمان بالله.
(2) والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ )(التوبة: من الآية6).
(3) قول المؤلف :"منزل" أي من عند الله تعالى:
لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)
وقوله(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1)
(4) أي : ليس من مخلوقات الله التي خلقها .
والدليل على ذلك قوله تعالى : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)(لأعراف: من الآية54) . والقرآن من الأمر؛ لقوله تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا )(الشورى: من الآية52) ولأن الكلام صفة المتكلم، والمخلوق مفعول للخالق، بائن منه؛ كالمصنوع ؛ بائن من الصانع.
منه بدا (1) وإليه يعود (2) وأن الله تعالى تكلم به حقيقة (3)
(1) يعني : أن ابتداء تنزيله من الله ، لا من جبريل ولا غيره؛ فجبريل نازل به من عند الله تعالى (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (192)( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء:193)وقال (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ )(النحل: من الآية102)، وقال تعالى (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الزمر:1) .
(2) سبق الكلام عن معناها والدليل عليها في شرح الآيات عند البحث عن كلام الله.
(3) قوله : " وأن الله تكلم به حقيقة": بناء على الأصل؛ أن جميع الصفات حقيقية، وإذا كان كلام الله حقيقة؛ فلا يمكن أن يكون مخلوقاً؛ لأنه صفته، وصفة الخالق غير مخلوقة؛ كما أن صفة المخلوق مخلوقة.
وقد قال الإمام أحمد :" من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال : غير مخلوق؛ فهو مبتدع".
فنقول : اللفظ يطلق على معنيين : على المصدر الذي هو فعل الفاعل، وعلى الملفوظ به:
اما على المعنى الأول الذي هو المصدر؛ فلا شك أن ألفاظنا بالقرآن وغير القرآن مخلوقة.
لأننا إذا قلنا: إن اللفظ هو التلفظ؛ فهذا الصوت الخارج من حركة الفم واللسان والشفتين مخلوق.
فإذا أريد باللفظ التلفظ؛ فهو مخلوق ، سواء كان الملفوظ به قرآناً أو حديثاً أو كلاماً أحدثته من عندك.
- أما إذا قصد باللفظ الملفوظ به ؛ فهذا منه مخلوق، ومنه غير مخلوق. وعليه ؛ إذا قصد باللفظ الملفوظ به؛ فهذا منه مخلوق، منه غير مخلوق، وعليه؛ إذا كان الملفوظ به هو القرآن؛ فليس بمخلوق.
هذا تفصيل القول في هذا المسألة.
- لكن الإمام أحمد رحمه الله قال:" من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي" قال ذلك لأحد احتمالين:
- إما أن هذا القول من شعار الجحهمية؛ كان الإمام أحمد يقول: إذا سمعت الرجل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فاعمل أنه جهمي.
- وإما أن يكون ذلك حين يريد القائل باللفظ الملفوظ به، وهذا أقرب؛ لأن الإمام أحمد فسه فسره؛ قال:" من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ يريد بالقرآن ؛ فهو جهمي".
- وحينئذ يتضح معنى قوله:" من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي" لأنه أرد الملفوظ به، ولا شك أن الذي يريد باللفظ هنا الملفوظ به جهمي.
- أما من قال : غير مخلوق؛ فالإمام أحمد يقول : مبتدع؛ لأن هذا ما عهد عن السلف، وما كانوا يقولون مثل هذا القول؛ يقولون: القرآن كلام الله ؛ فقط.
وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة (1)......................
(1) كرر المؤلف هذا ؛ لأن المقام مقام عظيم؛ فإن هذه المسألة حصل فيها على علماء المسلمين من المحن ما هو معلوم، وهلك فيها أمم كثيرة، ولكن حمى الله بالحق بالإمام أحمد وأشباهه، الذين أبوا أن يقولوا إلا أن القرآن غير مخلوق.
لا كلام غيره (1) ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه (2)....................
(1) قوله :" لا كلام غيره" : خلافاً لمن قال: إن القرآن من كلام جبريل؛ ألهمه الله إياه، أو من محمد ... أو ما أشبه ذلك .
فإن قلت: قول المؤلف هنا :" لا كلام غيره" معارض بقول الله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (40)( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ) (الحاقة:40-41) (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (19) (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير:19-20) ، والأول محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني جبريل؟!
فالجواب عن ذلك نقول: لا يمكن أن نحمل الآيتين على أن الرسولين تكلما به حقيقة، وأنه صدر منهما؛ لأن كلاماً واحداً لا يمكن أن يصدر من متكلمين.
(2) قال :" لا يجوز إطلاق القول": ولم يقول : لا يجوز القول! يعني: لا يجوز ا، نقول: هذا القرآن عبارة عن كلام الله؛ إطلاقاً، ولا يجوز أن نقول أنه حكاية: هم الكلابية والذين قالوا: إنه عبارة: هم الأشعرية.
والكل اتفقوا على أن هذا القرآن الذي في المصحف ليس كلام الله ، بل هو إما حكاية أو عبارة، والفرق بينهما:
أن الحكاية المماثلة؛ تعني : كأن هذا المعنى الذي هو الكلام عندهم حُكي بمرآة؛ كما يحكي الصدى كلام المتكلم.
أما العبارة؛ فيعني بها أن المتكلم عبر عن كلامه النفسي بحروف وأصوات خلقت.
فلا يجوز أن نطلق أنه حكاية أو عبارة، لكن عند التفصيل ؛ قد يجوز أن نقول: إن القارئ الآن يعبر عن كلام الله أو يحكي كلام الله؛ لأن لفظه بالقرآن ليس هو كلام الله.
وهذا القول على هذا التقييد لا بأس به، لكن إطلاق أن القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله لا يجوز.
وكان المؤلف رحمه الله دقيقاً في العبارة حيث قال:" لا يجوز إطلاق القول" ، بل لابد من التقييد والتعيين.
بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف؛ لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة ، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قالهُ مبتدئاً لا إلى من قالهُ مبلغاً مؤدياً (1)........................................
(1) يعني: مهما كتبه الناس في المصاحف أو حفظوه في صدورهم أو قرؤوه بألسنتهم؛ فإنه لا يخرج عن كونه كلام الله، ثم علل ذلك ، فقال: " فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً".
وهذا تعليل واضح؛ فالكلام يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، أما إضافته إلى من قاله مبلغاً مؤدياً؛ فعلى سبيل التوسع؛ فلو قرأنا الآن مثلاً:
حُكم المحبةِ ثابتُ الأركــان ما للصدودِ بفسخِ ذاك يدانِ
فإن هذا البيت ينسب حقيقة إلى ابن القيم.
ولو قلت:
كلامُنـا لفظٌ مفيدٌ كاستـقـِم وأسمٌ وفعلٌ ثم حفٌ الكلم
فهذا ينسب حقيقة إلى ابن مالك.
إذاً ؛ الكلام يضاف حقيقة إلى القائل الأول.
فالقرآن كلام من تكلم به أولاً، وهو الله تعالى ، لا كلام من بلغه إلى غيره.
وهو كلام الله حروفه ومعانيه(1) ليس كلام الله الحروف دون المعاني(2) ولا المعاني دون الحروف (3).....


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 15 Mar 2010, 05:22 AM   #54
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


(1) قوله:" وهو كلامُ الله ؛ حُروفهُ ومعانيهِ".
هذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ قالوا: إن الله تعالى تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه.
(2)قوله :" ليس كلامُ الله الحروفَ دونَ المعاني".
وهذا مذهب المعتزلة والجهمية؛ لأنهم يقولون: إن الكلام ليس معنىَ يقول بذات الله ، بل هو شيء من مخلوقاته؛ كالسماء والأرض والناقة والبيت وما أشبه ذلك ! فليس معنى قاماً في نفسه؛ فكلام الله حروف خلقها الله عز وجل، وسماها كلاماً له؛ كما خلق الناقة وسماها نقاة الله، وكما خلق البيت وسماها بيت الله.
ولهذا كان الكلام عند الجهمية والمعتزلة هو الحروف؛ لأن كلام الله عندهم عبارة عن حروف وأصوات خلقها الله عز وجل ونسبها إليه تشريفاً وتعظيماً.
(3) قوله:" ولا المعاني دُونَ الحُروفِ":
وهذا مذهب الكلابية والأشعرية؛ فكلام الله عندهم معنى في نفسه، ثم خلق أصواتاً وحروفاً تدل على هذا المعنى؛ إما عبارة أو حكاية.
واعلم أن ابن القيم رحمه الله ذكر أننا إذا أنكرنا أن الله يتكلم ؛ فقد أبطلنا الشرع والقدر:
- أما الشرع؛ فلأن الرسالات إنما جاءت بالوحي ، والوحي كلام مبلغ إلى المرسل إليه، فإذا نفينا الكلام؛ انتفى الوحي، وإذا انتفى الوحي؛ انتفى الشرع.
- أما القدر ؛ فلأن الخلق يقع بأمره؛ بقوله : كن! فيكون؛ كما قال تعالى : )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82).
* * *



فصل
في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة
ومواضع الرؤية
فصل
وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبرسله: الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة(1)عياناً (2) بأبصارهم، كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب(3)..........................................
(1) * وجه كون الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة من الإيمان بالله ظاهر؛ لأن هذا مما أخبر الله به؛ فإذا آمنا به؛ فهو من الإيمان بالله.
ووجه كونه من الإيمان بالكتب؛ لأن الكتب أخبرت بأن الله يُرى؛ فالتصديق بذلك تصديق بالكتب.
ووجه كونه من الإيمان بالملائكة؛ لأن نقل الوحي بواسطة الملائكة؛ فإن جبريل ينزل بالوحي من الله تعالى؛ فكان الإيمان بأن الله يُرى من الإيمان بالملائكة.[200]
وكذلك نقول: من الإيمان بالرسل ؛ لأن الرسل هم الذين بلغوا ذلك للخلق؛ فكان الإيمان بذلك من الإيمان بالرسل.
(2) بمعنى: معاينة. والمعانية هى: الرؤية بالعين.
(3)دليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:" ترونه كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب".
والمراد بالرؤية : بالعين ؛ كما يدل عليه تشبيه الرؤية برؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب.
وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته (1) يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة (2)......
(1) سبق الكلام في ذلك [201]
(2) "عرصات" : جمع عرصة، وهو المكان الواسع الفسيح ، الذي ليس فيه بناء؛ لأن الأرض تُمد مدَّ الأديم؛ كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام [202]؛ يعني: مد الجلد.
· فالمؤمنون يرون الله في عرصات يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة؛ كما قال الله تعالى عن المكذبين بيوم الدين: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين:15) (يَوْمَئِذٍَ) ، يعني يوم الدين؛ (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين:6) ، ويرونه كذلك بعد دخول الجنة.
، يعني يوم الدين؛ ، ويرونه كذلك بعد دخول الجنة.
· أما في عرصات القيامة؛ فالناس في العرصات ثلاثة أجناس:
1. مؤمنون خُلص ظاهراً وباطناً.
2. وكافرون خُلص ظاهراً وباطناً.
3. ومؤمنون ظاهراً كافرون باطناً، وهم المنافقون.
- فأما المؤمنون؛ فيرون الله تعالى في عرصات القيامة وبعد دخول الجنة.
- أما الكافرون ؛ فلا يرون ربهم مطلقاً، وقيل : يرونه؛ لكن رؤية غضب وعقوبة، ولكن ظاهر الأدلة يدل على أنهم لا يرون الله ؛ كما قال الله تعالى(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(المطففين:15) .
أما المنافقون؛ فإنهم يرون الله عز وجل في عرصات القيامة، ثم يحتجب عنهم ولا يرونه بعد ذلك.
ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى (1)..............................................
(1) يعني: يرون الله كما يشاء سبحانه وتعالى في كيفية رؤيتهم إياه، وكما يشاء الله في زمن رؤيتهم إياه ، وفي جميع الأحوال؛ يعني : على الوجه الذي يشاءه الله عز وجل في هذه الرؤية.
وحينئذ؛ فإن هذه الرؤية لا نعلم كيفيتها؛ بمعنى أن الإنسان لا يعلم كيف يرى ربه، ولكن معنى الرؤية معلوم أنهم يرون الله كما يرون القمر؛ لكن على أي كيفية؟ هذه لا نعلمها ، بل كما يشاء الله ، وقد سبق التفصيل في الرؤية.
* * *

فصل
في الإيمان باليوم الآخر
فصل
ومن الإيمان باليوم الآخر بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت (1).............
(1) شرع المؤلف رحمه الله تعالى في الكلام عن اليوم الآخر وعقيدة أهل السنة والجماعة فيه، فقال
· فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت":
· حكم الإيمان باليوم الآخر فريضة واجب، ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة.
وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين الإيمان به تعالى والإيمان باليوم الآخر؛ الإيمان بالمبدأ والإيمان بالمعاد؛ لأن من لم يؤمن باليوم الآخر ؛ لا يمكن أن يؤمن بالله؛ إذ إن الذي لا يؤمن باليوم الآخر؛ لن يعمل؛ لأنه لا يعمل إلا لما يرجوه من الكرامة في اليوم الآخر، وما يخافه من العذاب والعقوبة؛ فإذا كان لا يؤمن به؛ صار كمن حكى الله عنهم : (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)(الجاثـية: من الآية24).
*وسمى اليوم الآخر باليوم الآخر ؛ لأنه يوم لا يوم بعده؛ فهو آخر المراحل.
*والإنسان له خمس مراحل: مرحلة العدم ؟ ثم الحمل، ثم الدنيا، ثم البرزخ، ثم الآخرة.
- فأما مرحلة العدم فقد دلّ عليها قوله تعالى : (هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (الانسان:1) ، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5) .
- وأما مرحة الحمل؛ فقال الله عنها: ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ )(الزمر: من الآية6) .
- وأما مرحلة الدنيا؛ فقال الله عنها: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:78).
- وهذه المراحل هي التي عليها مدار السعادة والشقاء وهي دار الامتحان والابتلاء؛ كما قال تعالى(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:2).
- وأما مرحة البرزخ ؛ فقال الله عنها:(وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون: من الآية100) .
- وأما مرحلة الآخرة؛ فهي غاية المراحل، ونهاية الراحل؛ قال الله تعالى بعد ذكر المراحل: )ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ) (15) )ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)(16) (المؤمنون:15-16) .
- وقوله رحمه الله : "الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسمل مما يكون بعد الموت": كل هذا داخل في الإيمان باليوم الآخر".
-وذلك لأن الإنسان إذا مات ؛ دخل في اليوم الآخر، ولهذا يقال من مات؛ قامت قيامته؛ فكل ما يكون بعد الموت؛ فإنه من اليوم الآخر.
- إذاً ؛ ما أقرب اليوم الآخر لنا؛ ليس بيننا وبينه إلا أن يموت الإنسان، ثم يدخل في اليوم الآخر الذي ليس فيه إلا الجزاء على العمل.
- ولهذا يجب علينا أن ننتبه لهذه النقطة.
- فكر أيها الإنسان؛ تجد أنك على خطر؛ لأن الموت ليس له أجل معلوم عندنا؛ قد يخرج الإنسان من بيته ولا يرجع إليه، وقد يكون الإنسان على كرسي مكتبه ولا يقوم منه وقد ينام الإنسان على فراشه ولكنه يحمل من فراشه إلى سرير غسله، وهذا أمر يستوجب منا أن ننتهز فرصة العمر بالتوبة إلى الله عز وجل، وأن يكون الإنسان دائماً يستشعر بأنه تاب إلى الله وراجع ومنيب حتى يأتيه الأجل وهو على خير ما يرام.
- فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، وبنعيمه (1)............................................... ........
- (1) الفتنة هنا: الاختبار، والمراد بفتنة القبر: سؤال الميت إذا دفن عن ربه ودينه ونبيه.
- والضمير في " يؤمنون" يعود على أهل السنة؛ أي أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بفتنة القبر، وذلك لدلالة الكتاب والسنة عليها.
- أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ُ)(ابراهيم:27)
-؛ فإن هذا في فتنة القبر؛ كما ثبت في " الصحيحين "[203]وغيرهما من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم .
- وأما السنة؛ فقد تظافرت بأن الإنسان يفتن في قبره، وهي فتنة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم :" إنه قد أوحي إلي أنم تفتنون في قبوركم مثل ( أو : قريباً من ) فتنة الدجال[204].
وفتنة الدجال أعظم فتنة منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة؛ كما في " صحيح مسلم" عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال"[205].
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه، بل قال لأمته:" إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجة دونكم؛ وإن يخرج ولست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفيه، والله خليفتي على كل مسلم"[206].
ومع ذلك ؛ فإن نبينا محمدً صلى الله عليه وسلم أعلمنا كيف نحاجه، وأعلمنا بأوصافه وميزاته حتى كأنا نشاهده رأي عين، وبهذه الأوصاف والميزات نستطيع أن نحاجه.
ولهذا نقول: إن فتنة الدجال أعظم فتنة، والرسول عليه الصلاة والسلام
قال: " أنكم تفتنون في قبوركم مثل- أو قريباً من – فتنة الدجال[207]
ما أعظمها من فتنة! لأن الإنسان يتلقى فيها السؤال الذي لا يمكن الجواب عليه ؛ إلا على أساس متين من العقيدة والعمل الصالح.
هذا شروع في بيان كيفية فتنة الميت في قبره.
وكلمة " الناس" عامة، وظاهر كلام المؤلف أن كل أحد؛ حتى الأنبياء والصديقون والشهداء والمرابطون وغير المكلفين من الصغار والمجانين، وفي هذا تفصيل؛ فنقول:
أولاً: أما الأنبياء ؛ فلا تشملهم الفتنة، ولا يسألون، وذلك لوجهين:
الأول: أن الأنبياء أفضل من الشهداء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشهيد يوقي فتنة القبر، وقال:" كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة"؛ أخرجه النسائي[208].
الثاني: أن الأنبياء يسأل عنهم ؛ فيقال للميت: من نبيك؟ فهم مسؤول عنهم، وليسوا مسؤولين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم"[209] ، والخطاب للأمة المرسل إليهم ؛ فلا يكون الرسول داخلاً فيهم.
ثانياً: وأما الصديقون؛ فلا يسألون؛ لأن مرتبة الصديقين أعلى من مرتبة الشهداء؛ فإذا كان الشهداء لا يسألون؛ فالصديقون من باب أولى ولأن الصديق على وصفه مصدق وصادق؛ فهو قد علم صدقه؛ فلا حاجة إلى اختباره، لأن الاختبار لمن يشك فيه؛ هل هو صادق أو كاذب، أما إذا كان صادقاً؛ فلا حاجة تدعو لسؤاله، وذله بعض العلماء إلى أنهم يسألون؛ لعموم الأدلة، والله أعلم.
ثالثاً: وأما الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ؛ فإنهم لا يسألون؛ لظهور صدق إيمانهم بجهادهم:
قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ..........) (التوبة:111)
وقال: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة"[210]
وإذا كان المرابط ؛ إذا مات ؛ أمن الفتان؛ لظهور صدقه؛ فهذا الذي قتل في المعركة مثله أو أولى منه؛ لأنه بذل وعرض رقبته لعدو الله؛ إعلاءً لكلمة الله، وانتصاراً لدينه، وهذا من أكبر الأدلة على صدق إيمانه.
رابعاً: وأما المرابطون؛ فإنهم لا يفتنون؛ ففي " صحيح مسلم"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامة، وإن مات؛ جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان" [211]
خامساً: الصغار والمجانين؛ هل يفتنون أو لا يفتنون؟
قال بعض العلماء إنهم يفتنون ؛ لدخولهم ف بالعموم، ولأنهم إذا سقط التكليف عنهم في حال الحياة؛ فإن حال الممات تخالف حال الحياة.
وقال بعض العلماء: إن المجانين والصغار لا يسألون؛ لأنهم غير مكلفين، وإذا كانوا غير مكلفين؛ فإنه لا حساب عليهم؛ إذ لا حساب إلا على من كان مكلفاً يعاقب على المعاصي، وهؤلاء لا يعاقبون، وليس لهم إلا الثواب؛ إن عملوا عملاً صالحاً يثابون عليه.
إذاً ؛ خرج من قول المؤلف:" فإن الناس" خمسة أصناف: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والمرابطون، ومن لا عقل له؛ كالمجانين والصبيان.
تنبيه:
الناس ثلاثة أقسام: مؤمنون خلص، ومنافقون ، وهذان القسمان يفتنون، والثالث كفار خلص؛ ففي فتنتهم خلاف، وقد رجح ابن القيم في كتاب " الروح" أنهم يفتنون.
وهل تسأل الأمم السابقة؟
ذهب بعض العلماء – وهو الصحيح- إلى أنهم يسألون؛ لأنه إذا كانت هذه الأمة – وهي أشرف الأمم – تسأل ؛ فمن دونها من باب أولى.
(1)* قوله: "في قبورهم" جمع قبر، وهي مدفن الأموات، والمراد ما هو أعم؛ فيشمل البرزخ؛ فيشمل البرزخ ، وهو ما بين موت الإنسان وقيام الساعة، سواء دفن الميت أو أكلته السباع في البر أو الحيتان في البحر أو اتلفته الرياح.
والظاهر أن الفتنة لا تكون إلا إذا انتهت الأحوال الدنيوية، وسلم إلى عالم الآخرة فإذا تأخر دفنه يوماً أو أكثر ؛ لم يكن السؤال حتى يدفن.
فيقال للرجل (1)............................................... .....................................
قوله:" فيقال للرجل" القائل ملكان يأتيان إلى الإنسان في قبره، ويجلسانه، ويسألانه، حتى إنه ليسمع قرع نعال المنصرفين عنه، وهما يسألانه، ولهذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه إذا دفن الميت؛ وقف عليه ، وقال:" استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الأن يسأل.[212]
· وورد في بعض الآثار أن اسمهما : منكر ونكير[213]
وأنكر بعض العلماء هذين الأسمين ؛ قال : كيف يسمى الملائكة وهم الذين وصفهم الله تعالى بأوصاف الثناء بهذين الأسمين المنكرين، وضعف الحديث الوارد في ذلك.
وذهب آخرون إلى أن الحديث حجة، وأن هذه التسمية ليس لأنهما منكران من حيث ذواتهما، ولكنهما منكران من حيث إن المست لا يعرفهما، وليس له بهما علم سابق، وقد قال إبراهيم لأضيافه الملائكة (ٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)(الذريات: من الآية25) أنه لا يعرفهم؛ فهذان منكر ونكير؛ لأنهما غير معروفين للميت.
ثم هذان الملكان هل هما ملكان جديدان، موكلان بأصحاب القبور أو هما الملكان الكاتبان عن اليمين وعن الشمال قعيد؟
- منهم من قال : إنهما الملكان اللذان يصحبان المرء؛ فإن لكل إنسان ملكين في الدنيا يكتبان أعماله، وفي القبر يسألانه هذه الأسئلة الثلاثة.
- ومنهم من قال : بل هما ملكان آخران، والله عز وجل يقول: ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )(المدثر: من الآية31)، والملائكة خلق كثير ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم " أطت السماء ، وحق لها أن تئط ( والأطيط: صرير الرحل) ما من موضع شبر ( أو قال: أربع أصابع) ؛ إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد"[214]، والسماء واسعة الأرجاء، كما قال الله تعالى (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذريات:47) .
- فالمهم أنه لا غرابة أن ينشيء الله عز وجل لكل مدفون ملكين يرسلهما إليه والله على كل شيء قدير.
من ربك (1) ؟ وما دينك(2)؟ ومن نبيك (3)؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة (4)............................................... ............................
1. يعني: من ربك الذي خلقك وتعبده وتخصه بالعبادة ؟ لأجل أن تنتظم هذه الكلمة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.
2. يعني : ما عملك الذي تدين به لله عز وجل، وتتقرب به إليه؟
3. يعني: من النبي الذي تؤمن به وتتبعه؟
4. أي: يجعلهم ثابتين لا يترددون ولا يتلعثمون في الجواب.
- والقول الثابت: هو التوحيد؛ كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:24)
-وقوله: (َ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ) يحتمل أنها متعلقة ب (يثبت)؛ يعني : أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة. أنها متعلقة بالثابت؛ فتكون وصفاً للقول؛ يعني أن هذا القول ثابت في الدنيا وفي الآخرة.
- ولكن المعنى الأول أحسن وأقرب؛ لأن الله تعالى يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا)(لأنفال: من الآية45)، وقال الله عز وجل( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا)(لأنفال: من الآية12) ، فهم يثبتون في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالقول الثابت.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 15 Mar 2010, 05:23 AM   #55
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


- فيقول المؤمن ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبي(1) وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته (2)............................................... .......................
1- فيقول المؤمن : ربي الله عندما يقال له : من ربك ؟ ويقول إذا قيل له ما دينك؟ فيقول الإسلام ديني. ويقول كذلك : محمد صلى الله عليه وسلم نبيي. إذا قيل له : من نبيك.
وحينئذ يكون الجواب صواباً، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، والبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً على الجنة.
قوله " وأما المرتاب فيقول هاه هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته":
المرتاب : الشاك والمنافق وشبههما، فيقول: هاه ! هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ يعني: لم يلج الإيمان قلبه؛ وإنما كان يقول كما يقول الناس من غير أن يصل الإيمان إلى قلبه.
وتأمل قوله: هاه! هاه! كان شيئاً غاب عنه؛ يريد أن يتذكره، وهذا أشد في التحسر؛ أن يتخيل أنه يعرف هذا الجواب، ولكن يحال بينه وبينه ، ويقول هاه! هاه! ثم يقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته
ولا يقول : ربي الله ! ولا : دينى الإسلام! ولا : نبيي محمد! لأنه في الدنيا مرتاب شاك!
هذا إذا سئل في قبله وصار أحوج ما يكون إلى الجواب الصواب؛ يعجز ويقول : لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
إذاً ؛ إيمانه قول فقط!!
فيضرب (1) بمرزبة من حديد (2) فيصيح صيحة يسمعها كل شي (3) إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق(4)........................................... .................................................. ..
(1) يعني: الذي لم بجب ؛ سواء كان الكافر أو المنافق والضارب له الملكان اللذان يسألانه.
(2) المرزبة : هي مطرقة من حديد وقد ورد في بعض الروايات أنه لو اجتمع عليها أه منى؛ ما أقلوها.
(3) أي : صياحاً مسموعاً؛ يسمعه كل شيء، يكون حوله مما يسمع صوته، وليس كل شيء في أقطار الدنيا يسمعه، وأحياناً يتأثر به ما يسمعه؛ كما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأقبر للمشركين على بغلته ؛ فحادت به؛ حتى كادت تلقيه؛ لأنها سمعت أصواتهم يعذبون[215].

(4) قوله : " إلا الإنسان " يعني : أنه لا يسمع هذا الصياح، وذلك لحكم عظيمة ؛ منها:
أولاً ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:" لولا أ لا تدافنوا؛ لدعوت الله ان يسمعكم من عذاب القبر"[216]
ثانياً أن في إخفاء ذلك ستراً للميت.
ثالثاً: أن فيه عدم إزعاج لأهله، لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذب ويصيح؛ لم يستقر لهم قرار.
رابعاً: عدم تخجيل أهله؛ لأن الناس يقولون: هذا ولدكم! هذا أبوكم! هذا أخوكم! وما أشبه ذلك.
خامساً: أننا قد نهلك ؛ لأنها صيحة ليت هينة، بل صيحة قد توجب أن تسقط القلوب من معاليقها، فيموت الإنسان أو يغشى عليه.
سادساً: لو سمع الناس صراخ هؤلاء المعذبين؛ لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة، لا من باب الإيمان بالغيب ، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان؛ لأن الناس سوف يؤمنون بما شاهدون قطعاً؛ لكن إذا كان غائباً عنهم، ولم يعلموا به إلا عن طريق الخبر؛ صار من باب الإيمان بالغيب .
تنبيه:
قول المؤلف رحمه الله :" فيصيح صيحة يسمعهما كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان ؛ لصعق"؛ إنما ورد قوله :" يسمعها كل شيء إلا الإنسان..." إلخ... في قول الجنازة إذا احتملها الرجال على أعناقهم ؛ كما قا النبي صلى الله عليه وسلم :" فإن كانت صالحة ؛ قالت: قدموني! وإن كانت غير صالحة؛ قالت يا ويلها ! أين يذهبون بها ؟! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمعه ؛ لصعق[217]أما الصيحة في القبر؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين". أخرجه البخاري بهذا اللفظ [218]، والمراد بالثقلين : الإنس والجن.
ثم بعد هذه الفتة إما نعيم وإما عذاب(1)........................................... .................
(1) "ثم" هذه لمطلق الترتيب، وليست للتراخي؛ لأن الإنسان يعذب أو ينعم فوراً ؛ كما سبق أنه إذا قال : لا أدري! يضرب بمرزبة، وأن ذاك الذي أجاب بالصواب؛ يفتح له باب إلى الجنة، ويوسع له في قبره.
* وهذا النعيم أو العذاب؛ وهل هو على البدن أو على الروح أو يكون على البدن والروح جميعاً؟
نقول: المعروف عند أهل السنة والجماعة أنه في الأصل على الروح، والبدن تابع لها ؛ كما أن العذاب في الدنيا على البدن، والروح تابعة له، وكما أن الأحكام الشرعية في الدنيا على الظاهر، وفي الآخرة بالعكس؛ ففي القبر يكون العذاب أو النعيم على الروح، لكن الجسم يتأثر بهذا تبعاً، وليس على سبيل الاستقلال، وربما يكون العذاب على البدن والروح تتبعه، والنعيم للروح والبدن تبع. لكن هذا لا يقع إلا نادراً؛ إنما الأصل أن العذاب على الروح والبدن تبع.
وقوله:" إما نعيم وإما عذاب" فيه إثبات النعيم والعذاب في القبر ، وقد دلّ على ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل لنا أن نقول: وإجماع المسلمين.
أما من كتاب الله ؛ فالثلاثة أصناف التى في آخر الواقعة ظاهرة في ثبوت عذاب القبر ونعيمه.
قال الله تعالى : (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (83)(وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (84)(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (85)(فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) (86)( تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (87)( فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (88)(فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) (89)(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) (90)( فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) (91)(وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) (92)(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) (93)(وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (94)(الواقعة: 83-94).
وهذا أمر مشاهد يسمع المحتضر يرحب القادمين عليه من الملائكة، ويقول : مرحباً! وأحياناً يقول: مرحباً؛ أجلس هنا! كما ذكره ابن القيم في كتاب " الروح" وأحياناً يحس بأن هذا الرجل أصيب بشيء مخيف، فيتغير وجهه عند الموت إذا نزلت عليه ملائكة العذاب والعياذ بالله.
ومن أدلة القرآن قوله تعالى في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً )، وهذا قبل قيام الساعة؛ بدليل قوله ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)(غافر : 46).
ومن أدلة القرآن أيضاً قوله تعالى: ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم)، وهم شاحون بأنفسهم ، لا يريدونها أ نتخرج؛ لأنهم قد بشروا بالعذاب والعقوبة؛ فتجد الروح تأبى الخروج، ولهذا قال : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ )(الأنعام: من الآية93)" اليوم" "ال" للعهد الحضوري؛ كقوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(المائدة: من الآية3) ؛ يعني : اليوم الحاضر وكذلك (اليوم تجزون): (ال) للعهد الحضوري، والمراد به: يوم حضور الملائكة لقبض أرواحهم، وهذا يقتضي أنه يعذبون من حي أن تخرج أرواحهم ، وهذا يقتضي أنهم يعذبون من حين أن تخرج أرواحهم، وهذا هو عذاب القبر.
ومن أدلة القرآن أيضاً قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ )(النحل: من الآية32)، وذلك في حال الوفاة.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح : " يقال لنفس المؤمن : أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى مغفرة من الله ورضوان"[219]فتفرح بهذه البشرى، وتخرج منقادة شهلة، وإن كان البدن قد يتألم، لكن الروح منقادة مستبشرة.
وأما السنة في عذاب القبر ونعيمه؛ فمتواترة، ومنها ما ثبت في " الصحيحين" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين؛ فقال:" إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير..." [220]الحديث.
وأما الإجماع ؛ فكل المسلمين يقولون في صلاتهم : أعوذ بالله من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ... ولو أن عذاب القبر غير ثابت؛ ما صح أن يتعوذوا بالله منه؛ إذ لا تعوذ من أمر ليس موجوداً، وهذا يدل على أنهم يؤمنون به.
فإن قال قائل: هل العذاب أو النعيم في القبر دائم أو ينقطع؟
فالجواب أن يقال:
- أما العذاب للكفار؛ فإنه دائم، ولا يمكن أن يزول العذاب عنهم؛ لأنهم مستحقون لذلك ، ولأنه لو زال العذاب عنهم ؛ لكان هذا راحة لهم ، وهم ليسوا أهلاً لذلك ؛ فهم باستمرار في عذاب إلى يوم القيامة، ولو طالت المدة؛ فقوم نوح الذين أغرقوا ما زالوا يعذبون في هذه النار التي أدخلوا فيها ، ويستمر عذابهم إلى يوم القيامة، وكذلك آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشيأً.
- وذكر بعض العلماء ا،ه يخفف عن الكفار ما بين النفختين، واستدلوا بقوله تعالى (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا )، ولكن هذا ليس بلازم؛ لأن قبورهم مرقد لهم ، وإن عذبوا فيها .
- أما عصاة المؤمنين الذين يقضي الله تعالى عليه بالعذاب؛ فهؤلاء قد يدوم عذابهم وقد لا يدوم ، وقد يطول وقد لا يطول؛ حسب الذنوب، وحسب عفو الله عز وجل.
والعذاب في القبر أهون من عذاب يوم القيامة؛ لأن العذاب في القبر ليس فيه نخزى وعار، لكن في الآخرة فيه الخزي والعار؛ لأن الأشهاد موجودون: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)
فإن قال قائل: لو أن هذا الرجل تمزق أوصالاً ، وأكلته السباع، وذرته الرياح؛ فيكفي يكون عذابه؛ وكيف يكون سؤاله؟!
فالجواب: أن الله عز وجل على كل شيء قدير، وهذا أم غيبي؛ فالله عز وجل قادر على أن يجمع هذه الأشياء في عالم الغيب، وإن كنا نشاهدها في الدنيا متمزقة متباعدة لكن في عالم الغيب ربما يجمعها الله.
فانظر إلى الملائكة تنزل لقبض روح الإنسان في المكان نفسه؛ كما قال تعالى : )وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (الواقعة:85) ومع ذلك لا نبصرهم.
وملك الموت يكلم الروح، ونحن لا نسمع.
وجبريل يتمثل أحياناً للرسول عليه الصلاة والسلام، ويكلمه بالوحي في نفس المكان،ن والناس لا ينظرون ولا يسمعون.
فعالم الغيب لا يمكن ابداً ان يقاس بعالم الشهادة، وهذه من حكمة الله عز وجل؛ فنفسك التب في جوفك ما تدري كيف تتعلق ببدنك؟! كيف هي موزعة على البدن؟! وكيف تخرج منك عند النوم؟! هل تحس بها عند استيقاظك بأنها ترجع؟! ومن أين تدخل لجسمك؟!
فعالم الغيب ليس فيه إلا التسليم ، ولا يمكن فيه القياس إطلاقاً ؛ فالله عز وجل قادر على ان يجمع هذه المتفرقات من البدن المتمزق الذي ذرته الرياح، ثم يحصل عليه المساءلة والعذاب أو النعيم؛ لأن الله سبحانه على كل شيء قدير.
فإن قال قائل: الميت يدفن في قبر ضيق؛ فكي يوسع له مد البصر؟!
فالجواب: أن عالم الغيب لا يقاس بعالم الشهادة، بل إننا لو فرض أن أحداً حفر حفرة مد البصر، ودفن فيه الميت، وأطبق عليه التراب؛ فالذي لا يعلم بهذه الحفرة؛ هل يراها أو لا يراها؟! لا شك انه لا يراها ؛ مع ان هذا في عالم الحس، ومع ذلك لا يرى هذه السعة، ولا يعلم بها ؛ إلا من شاهدها.
فإذا قال قائل: نحن نري الميت الكافر إذا حفرنا قبره بعد يوم أو يومين؛ نرى أضلاعه لم تختلف وتتداخل من الضيق؟!
فالجواب كما سبق: أن هذا من عالم الغيب، ومن الجائز ان تكون مختلفة؛ فإذا كشف عنها ؛ أعادها الله، ورد كل شيء إلى مكانه؛ امتحاناً للعباد؛ لأنها لو بقيت مختلفة ونحن قد دفناه وأضلاعه مستقيمة؛ صار الإيمان بذلك إيمان شهادة.
فإن قال قائل كما قال الفلاسفة: نحن نضع الزئبق على الميت، وهو أسرع الأشياء تحركاً ومروقاً، وإذا جئنا بعد الغد؛ وحدنا الزئبق على ما هو عليه ، وأنتم تقولون: إن الملائكة يأتون ويجلسون هذا الرجل، والذي يجلس ؛ كيف يبقى عليه الزئبق؟!
فنقول أيضاً كما قلنا سابقاً: هذه من عالم الغيب ، وعلينا الإيمان والتصديق ، ومن الجائز أيضاً أن الله عز وجل يرد هذا الزئبق إلى مكانه بعد أن تحول بالجلوس.
ونقول إيضاً : انظروا إلى الرجل في المنام؛ يرى أشياء لو كان على حسب رؤيته إياها ؛ ما بقى في فراشه على السرير، وأحياناً تكون رؤيا حق من الله عز وجل، فتقع كما كان يراها في منامه، ومع ذلك ؛ نحن نؤمن بهذا الشيء.
والإنسان إذا رأى ي منامه ما يكره؛ أصبح وهو متكدر ، وإذا رأى ما يسره؛ أصبح وهو مستبشر؛ كل هذا يدل على أن أمور الروح ليست من الأمور المشاهدة، ولا تقاس أمور الغيب بالمشاهد، ولا ترد النصوص الصحيحة؛ لاستبعادنا ما تدل عليه حسب المشاهد.




فصل
في القيامة الكبرى
فصل
إلى أن تقوم القيامة الكبرى (1) فتعاد الأرواح إلى الأجساد (2)...........................................
(1) القيامة الكبرى هي التي يقوم فيها الناس من قبورهم لرب العالمين.
· وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله:" القيامة الكبرى" أن هناك قيامة صغرى ، وهي قيامة كل إنسان بعينه؛ فإن كل إنسان له قيامة؛ فمن مات؛ قامت قيامته.
· وسكت المؤلف رحمه الله عن أشراط الساعة؛ فلم يذكرها ؛ لأن المؤلف إنما يريد أن يتكلم عن اليوم الآخر، وما أشراط الساعة إلا مجرد علامات وإنذارات لقرب قيام الساعة؛ ليستعد لها من يستعد. وبعض أهل العلم الذي صنفوا في العقائد ذكروا اشراط الساعة هنا، والحقيقة أنه لا تعلق لها في الإيمان باليوم الأخر، وإن كان تهي من الأمور الغيبية التي أشار إليها في القرآن وفصلها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة.
(2) الأمر الأول: مما يكون في القيامة.
ما أشار إليه المؤلف بقوله :" فتعاد الأرواح إلى الأجساد".
هذا أول الأمور : ويكون بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذه غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في السور، فيصعق من في السماوات والأرض؛ إلا من شاء الله؛ ثم ينفخ فيه مرة أخرى فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها ، وتحل فيها .
وفي قول المؤلف :" إلى الأجساد" : إشارة أن الأرواح لا تخرج من الصور؛ إلا بعد أن تتكامل الأجساد مخلوقة؛ فإذا كملت خلقتها ؛ نفخ في الصور، فأعيدت الأرواح إلى أجسادها.
وفي قوله" تعاد الأرواح إلى الأجساد" دليل على أن البعث إعادة وليس تجديداً، بل هو إعادة لما زال وتحول؛ فإن الجسد يتحول إلى تراب، والعظام تكون رميماً؛ يجمع الله تعالى هذا المتفرق، حتى يتكون الجسد، فتعاد الأرواح إلى أجسادها، وأما من زعم بأن الأجساد تخلق من جديد فإن هذا زعم باطل يرده الكتاب والسنة والعقل:
- أما الكتاب ؛ فإن الله عز وجل يقول: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَن)(الروم: من الآية27)؛ أي: يعيد ذلك الخلق الذي ابتدأه.
وفي الحديث القدسي:" يقول الله تعالى : ليس أول الخلق بأهون علي من إعادته"[221] فالكل على الله هين.
وقال تعالى : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ )(الأنبياء: من الآية104).
وقال تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ) (15) (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (المؤمنون:15-16)
وقال تعالى : ( قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(78)( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّـس: ،78-79) .
وأما السنة ؛ فيهي كثيرة جداً في هذا ؛ حيث بين النبي صلى الله علي وسلم" أن الناس يحشرون فيها حفاة عراة غُرلاً"[222]؛ فالناس هم الذين يحشرون، وليس سواهم.
فالمهم ؛ أن البعث إعادة للأجساد السابقة.
فإذا قلت : ربما يؤكل الإنسان من قبل السباع، ويتحول جسمه الذي أكله السبع إلى تغذية لهذا الأكل تختلط بدمه ولحمه وعظمه وتخرج في روثه وبوله؛ فما الجواب على ذلك ؟
فالجواب: أن الأمر هين على الله ؛ يقول : كن! فيكون، ويتخلص هذا الجسم الذي سيبعث من كل هذه الأشياء التي اختلط بها، وقدره الله عز وجل فوق ما نتصوره؛ فالله على كل شيء قدير.
وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه ، وعلى لسانه رسوله وأجمع عليها المسلمون (1)................
(1) هذه ثلاثة أنواع من الأدلة: كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.
فأما كتاب الله تعالى ؛ فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيامة، وذكرها الله عز وجل بأوصاف عظيمة، توجب الخوف والاستعداد لها :
فقال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج:1، 2) .
وقال تعالى : (الْحَاقَّةُ) (1)( مَا الْحَاقَّةُ)(2)(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة:1، 3) .
وقال تعالى : (الْقَارِعَةُ)(1)(مَا الْقَارِعَةُ)(2)(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ)(3) (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ)(4)(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (القارعة:1-5) .
والأوصاف لها في القرآن كثيرة؛ كلها مروعة مخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها ؛ فلن نعمل لها ؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به وحتى يذكر له أوصافه التي توجب العمل لهذا اليوم.
وأما السنة؛ فالأحاديث في ذكر القيامة كثيرة، بين الرسول عليه الصلاة والسلام بها ما يكون فيها ؛ كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الحوض والصراط والكتاب وغير ذلك مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الإجماع- وهو النوع الثالث-؛ فقد أجمع المسلمون إجماعاً قطعياً على الإيمان بيوم القيامة، ولهذا كان من أنكره؛ فهو كافر؛ إلا إذا كان غريباً عن الإسلام وجاهلاً؛ فإنه يعرف ؛ فإن أصر على الإنكار بعد ذلك ؛ فهو كافر.
وهناك نوع رابع من الأدلة، وهو الكتب السماوية؛ حيث اتفقت على إثبات اليوم الآخر، ولهذا كان اليهود والنصارى يؤمنون بذلك ، وحتى الآن يؤمنون به، ولهذا تسمعونهم يقولون: فلان المرحوم ، أو: رحمه الله ، أو : ما أشبه ذلك ؛ مما يدل على أنهم يؤمنون باليوم الآخر إلى يومنا هذا.
وثم نوع خامس، وهو العقل، ووجه ذلك أنه لو لم يكن هذا اليوم؛ لكان إيجاد الخلائق عبثاً والله عز وجل منزه عن العبث؛ فما الحكمة من قوم يخلقون ويؤمرون وينهون ويُلزمون بما يُلزمون به ويُندبون إلى ما يُندبون إليه ، ثم يموتون ، ولا حساب ، لا عقاب؟!
ولهذا قال الله تعالى : )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (115)( )فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون:115،116).
وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ )(القصص: من الآية85).
كيف يُفرض القرآن ويُفرض العمل به، ثم لا يكون هناك معاد؛ نحاسب على ما نفذنا من هذا القرآن الذي فرض علينا؟!
فصارت أنواع الأدلة على ثبوت اليوم الآخر خمسة.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 15 Mar 2010, 05:23 AM   #56
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


* * *
فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً (1)..............................................
(1) الأمر الثاني مما يكون في القيامة:
ما أشار غليه بقوله : "فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حُفاة عراة غُرلاً؟".
قوله :" من قبورهم : هذا بناء على الأغلب وإلا ؛ فقد يكون الإنسان غير مدفون.
قوله :" لرب العالمين؛ يعني : لأن الله عز وجل يناديهم
قال الله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) (قّ:41)( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (قّ:41،42)؛ فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لربهم عز وجل.
قال الله تبارك وتعالى: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) (4) (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (5)(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين:4-6).
قوله :" حُفاة عُراة غُرلاً": " حُفاة": ليس عليهم نعال ولا خفاف؛ يعني: أنه ليس عليهم لباس للرجل.
" عراة": ليس عليهم لباس للجسد.
" غرلاً:" لم ينقص من خلقهم شيء، والغرل: جمع أغرل، وهو الذي لم يختن؛ أي أن القلفة التي قطعت منه في الدنيا تعود يوم القيامة؛ لأن الله يقول (ِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ )(الانبياء: من الآية104)؛ فيعاد كاملاً؛ لم ينقص منه شيء؛ يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالاً ونساً.
ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك ؛ قالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال :" الأمر أشد من أن يُهمهم ذلك "( وفي رواية : من أن ينظر بعضهم إلى بعض)[223].
فكل إنسان له شأن يغنيه: )يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (34)( وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) (35)( وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (36)( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37).
لا رجل ينظر إلى امرأة ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه؛ خوفاً من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع؛ فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل، ولا الرجل إلى المرأة؛ الأمر أشد وأعظم.
ولكن؛ مع ذلك ؛ يكسون بعد هذا، وأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم [224].
* * *
وتدنو منهم الشمس (1)............................................... .................................
(1) الأمر الثالث مما يكون يوم القيامة:
ما أشار إليه بقوله:" وتدنو منهم الشمسُ
*" تدنو" : إي تقرب منهم الشمس، وتقرب منهم مقدار ميل.
وهذا الميل سواء كان المسافة أو ميل المكحلة؛ فإنها قريبة، وإذا كانت هذه حرارتها في الدنيا ، وبينها من البعد شيء عظيم؛ فكيف إذا كانت عن الرؤوس بمقدار ميل [225]؟!
قد يقول قائل: المعروف الآن أن الشمس لو تدنو بمقدار شعرة عن مستوى خطها ؛ لأحرقت الأرض؛ فكيف يمكن أن تكون في ذلك اليوم بهذا المقدار من البعد، ثم لا تحرق الخلق؟
فالجواب على ذلك : أن الناس يحشرون يوم القيامة؛ ليسوا على القوة التي هم عليها الآن ، بل هم أقوى وأعظم وأشد تحملاً.
لو أن الناس الآن وقفوا خمسين يوماً في شمس لا ظل ولا أكل ولا شرب؛ فلا يمكنهم ذلك ، بل يموتون! لكن يوم القيامة يبقون خمسين ألف سنة؛ لا أكل ولا شرب ولا ظل؛ إلا من أظله الله عز وجل، ومع ذلك ؛ يشاهدون أهوالاً عظيمة؛ فيتحملون.
واعتبر بأهل النار ؛ كيف يتحملون هذا التحمل العظيم؛( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا)(النساء: من الآية56).
وبأهل الجنة؛ ينظر الإنسان إلى ملكه مسيرة ألف عام إلى أقصاه ؛ كما ينظر إلى أدناه؛ كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم [226].
فإن قيل : هل أحد يسلم من الشمس؟
فالجواب: نعم هناك أناس يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ كما أخبر بذل النبي صلى الله عليه وسلم:" إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا علي وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً؛ ففاضت عيناه" [227]
وهناك أيضاً أصناف أخرى يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وقوله: " لا ظل إلا ظله" ؛ يعني إلا الظل الذي يخلقه، وليس كما توهم بعض الناس أنه ظل ذات الرب عز وجل؛ فإن هذا باطل؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذ فوق الله عز وجل.
ففي الدنيا؛ نحن نبي الظل لنا، لكن يوم القيامة؛ لا ظل إلا الظل الذي يخلقه سبحانه وتعالى ليستظل به من شاء من عباده.
* * *
ويلجمهم العرق (1)............................................... ......................................
(1)الأمر الرابع مما يكون يوم القيامة:
ما ذكره المؤلف رحمه الله بقوله" ويلجمهم العرق".
*" يلجمهم" ؛ أي يصل منهم إلى موضع اللجام من الفرس، وهو الفم، ولكن هذا غاية ما يصل إليه العرق، وإلا ؛ فبعضهم يصل العرق إلى كعبيه، وإلى ركبتيه، وإلى حقويه، ومنهم من يلجمه، فهم مختلفون في هذا العرق، ويعرقون من شدة الحر؛ لأن المقام مقام زحام وشدة ودنو شمس؛ فيعرق الإنسان مما يحصل في ذلك اليوم؛ لكنهم على حسب أعمالهم.
فإن قلت: كيف يكون ذلك وهم في مكان واحد؟
فالجواب: إننا أصلنا قاعدة يجب الرجوع إليها ، وهي : إن الأمور الغيبية يجب علينا أن نؤمن بها ونصدق دون أن نقول : كيف؟! ولم؟! لأنه شيء وراء عقولنا، ولا يمكن أن ندركها أو نحيط بها.
أرابت لو أن رجلين دُفنا في قبر واحد: أحدهما مؤمن ، والثاني: كافر ؛ فإنه ينال المؤمن من النعيم ما يستحق، وينال الكافر من العذاب ما يستحق وهما في قبر واحد، وهكذا نقول في العرق يوم القيامة.
فإن قلت: هل تقول: إن الله سبحانه وتعالى يجمع من يلجمهم العرق في مكان ومن يصل إلى كعبيه في مكان، وإلى ركبتيه في مكان، وإلى حقويه في مكان؟
فالجواب: لا نجزم بهذا، والله أعلم ، بل نقول، من الجائز أن يكون الذي يصل العرق إلى كعبه إلى جانب الذي يلجمه العرق، والله على كل شيء قدير ، وهذا نظير النور الذي يكون للمؤمنين؛ يسعى بين أيديهم وبإيمانهم ، والكفار في ظلمة؛ فيوم القيامة يجب علينا أن نؤمن به وبما يكون فيه، أما كيف؟! ولم؟! فهذا ليس إلينا.
* * *
فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد (1)............................................... .......
(1)الأمر الخامس مما يكون يوم القيامة:
ما ذكره بقوله :" فتنصبُ الموازينُ فتوزن بها أعمالُ العبادِ"
*والمؤلف يقول :" الموازين": بالجمع، وقد وردت النصوص بالجمع والإفراد:
فمثال الجمع : قول الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ )(الأنبياء: من الآية47)وقال تعالى )وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف:8) )وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ) (لأعراف:8-9).
- وأما الإفراد ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم"[228]
-فقال :" في الميزان؛ فأفرد؛
فكيف نجمع بني الآيات القرآنية وبين هذا الحديث ؟!
فالجواب أن نقول:
إنها جمعت باعتبار الموزون؛ حيث أنه متعدد، وأفردت باعتبار أن الميزان واحد، أو ميزان كل أمة، أو أن المراد بالميزان في قوله عليه الصلاة والسلام :" ثقيلتان في الميزان:؛ أي : في الوزن.
ولكن الذي يظهر – والله أعلم – أن الميزان واحد، وأنه جمع باعتبار الموزون؛ بدليل قوله : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ )(لأعراف: من الآية8)
لكن يتوقف الإنسان : هل يكون ميزاناً واحداً لجميع الأمم أو لكل أمة ميزان؛ لأن الأمم كما دلت علي النصوص تختلف باعتبار أجرها ؟!
وقوله:" تنصب الموازين" : ظاهره أنها موازين حسية ، وأن الوزن يكون على حسب المعهود بالراجح والمرجوح، وذلك لأن الأصل في الكلمات الواردة في الكتاب والسنة حملها على المعهود المعروف ، إلا إذا قام دليل على أنها خلاف ذلك ، والمعهود المعروف عند المخاطبين منذ نزول القرآن الكريم إلى اليوم أن الميزان حسي، وأن هناك راجح ومرجوح.
وخالف في ذلك جماعة:
فالمعتزلة قالوا: إنه ليس هناك ميزان حسي، ولا حاجة له ؛ لأن الله تعالى قد علم أعمال العباد وأحصاها، ولكن المراد بالميزان : الميزان المعنوي الذي هو العدل.
ولا شك أن قول المعتزلة باطل؛ لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف ، ولأننا إذا قلنا : إن المراد بالميزان: العدل؛ فلا حاجة إلى أن نعبر بالميزان، بل نعبر بالعدل ؛ لأنه أحب إلى النفس من كلمة (ميزان) ، ولهذا قال الله تعالى ()إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ )(النحل: من الآية90).
وقال بعض العلماء: إن الرجحان للعالي؛ لأنه يحصل فيه العلو، لكن الصواب أن نجري الوزن على ظاهره، ونقول إن الراجح هو الذي ينزل ، ويدل لذل حديث صاحب البطاقة[229]؛ فغن فيه أن السجلات تطيش وتثقل البطاقة، وهذا واضح بأن الرجحان يكون بالنزول.
وقوله : "فتوزن بها أعمال العباد" كلام المؤلف رحمه الله صريح بأن الذي يوزن : العمل.
وهنا مبحثان:
المبحث الأول: كيف يوزن العمل؛ والعمل وصف قائم بالعامل وليس جسماً فيوزن؟!
والجواب على ذلك : أن يقال : إن اله سبحانه وتعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً ، وليس هذا بغريب على قدرة الله عز وجل ، وله نظير، وهو الموت؛ فإنه يجعل على صورة كبش، ويذبح بين الجنة والنار [230]، مع أن الموت معنى، وليس بجسم، وليس الذي يذبح ملك الموت، ولكنه نفس الموت حيث يجعله الله تعالى جسماً يشاهد ويرى، كذلك الأعمال يجعلها الله عز وجل أجساماً توزن بهذا الميزان الحسي.
المبحث الثاني: صريح كلام المؤلف أن الذي يوزن العمل ؛ سواء كان خيراً أم شراً:
وهذا هو ظاهر القرآن ؛ كما قال الله تعالى (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) (الزلزلة:6) (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:6-8) فهذا واضح أن الذي يوزن العمل ؛ سواء كان خيراً أم شراً.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام:" كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان" [231] ، وهذا ظاهر أيضاً ، بل صريح في أن الذي يوزن العمل ، والنصوص في هذا كثيرة.
لكن هناك نصوص قد يخالف ظاهرها هذا الحديث:
منها حديث صاحب البطاقة؛ رجل يؤتى به على رؤوس الخلائق، وتعرض عليه أعماله في سجلات تبلغ تسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها يبلغ مد المبصر، فيقر به ، فيقال له : ألك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا ؛ يا رب ! فيقول الله : بلى ؛ إن لك عندنا حسنة. فيؤتى ببطاقة صغيرة، فيها : أشهد أن لا إليه إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال : إنك لا تظلم قال: فتوضع السجلات في كفيه، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة..." الحديث [232] .
وظاهر هذا أن الذي يوزن صحائف الأعمال.
وهناك نصوص أخرى تدل على أن الذي يوزن العامل؛ مثل:
قوله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف:105) ؛ ومع أنه قد ينازع في الاستدلال بهذه الآية ؛ فيقال : إن معنى قوله: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)(الكهف: من الآية105)؛ يعني : قدراً.
ومثل ما ثبت من حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان رضي الله عنه دقيق الساقين، جعلت الريح تحركه، فضحك الصحابة رضي الله عنه دقيق الساقين، جعلت الريح تحركه، فضحك الصحابة رضي الله عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مم تضحكون؟" قالوا: من دقة ساقية. قال : والذي نفسي بيده؛ لهما في الميزان أثقل من أحد"[233].
فصار ها هنا ثلاثة أشياء : العمل ، والعامل ، والصحائف.
فقال بعض العلماء: إن الجمع بينها أن يقال: إن من الناس من يوزن عمله، ومن الناس من يوزن صحائف عمله، ومن الناس من يوزن هو بنفسه.
وقال بعض العلماء : الجمع بينها أن يقال : أن المراد بوزن العمل أن العمل يوزن وهو في الصحائف ، ويبقى وزن صاحب العمل فيكون لبعض الناس.
ولكن عند التأمل نحد أن أكثر النصوص تدل على أن الذي يوزن هو العمل، ويخص بعض الناس، فتوزن صحائف أعماله، أو يوزن هو نفسه.
وأما ما ورد في حديث ابن مسعود وحديث صاحب البطاقة؛ فقد يكون هذا أمراً يخص الله به من يشاء من عباده[234].


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 15 Mar 2010, 05:24 AM   #57
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1)............................................... ............
(1) (فمن ) شرطية وجواب الشرط جملة: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
وأتت الجملة الجزائية جملة أسمية بصفة الحصر (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار.
وجاءت باسم الإشارة الدال على البعد (فَأُولَئِكَ ) ، ولم يقل : فهم المفلحون: إشارة إلى علو مرتبتهم.
وجاءت بصفة الحصر في قوله (هم)، وهو ضمير فصل يفيد الحصر والتوكيد، والفصل بين الخبر والصفة.
والمفلح: هو الذي فاز بمطلوبه ونجا من مرهوبه؛ فحصل له السلامة مما يكره، وحصل له ما يحب.
والمراد بثقل الموازين رجحان الحسنات على السيئات.
وقوله: ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فيه إشكال من جهة العربية؛ فإنة(مَوَازِينُهُ) الضمير فيه مفرد، و(فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فيه جمع.
وجوابه: أن (من) الشرطية صالحة للإفراد والجمع؛ فباعتبار اللفظ يعود الضمير إليها مفرداً، وباعتبار المعنى يعود الضمير إليها جمعاً.
وكما جاءت (من) فإنه يجوز أن تعيد الضمير إليها بالإفراد أو بالجمع ، وهذا كثير في القرآن، قل الله تعالى ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً)(الطلاق: من الآية11)؛ فتجد الأية الكريمة فيها مراعاة اللفظ ثم المعنى ثم اللفظ.
* * *




(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(1) ) فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (2)............................
(1)الإشارة هنا للبعد؛ لا نحطاط مرتبتهم، لا لعلو مرتبتهم.
قوله : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : الكافر قد خسر نفسه وأهله وماله: ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(الزمر: من الآية15)بينما المؤمن العامل للصالحات قد ربح نفسه وأهله وماله وانتفع به.
فهؤلاء الكفار خسروا أنفسهم ؛ لأنهم لم يستفيدوا من وجودهم في الدنيا شيئاً، بل ما استفادوا إلا الضرر، وخسروا أموالهم ، لأنهم لم ينتفعوا بها ، حتى ما أعطوه للخلق لينتفع به؛ فإنه لا ينفعهم؛ كما قال تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ)(التوبة: من الآية54)، وخسروا أهليهم؛ لأنهم في النار؛ فصاحب النار لا يأنس بأهله، بل إنه مغلق عليه في تابوت، ولا يرى أ أحداً أشد منه عذاباً.
والمراد بخفة الموازين: رجحان السيئات على الحسنات، أو فقدان الحسنات أو فقدان الحسنات بالكلية، إن قلنا بأن الكفار توزن أعمالهم ؛ كما هو ظاهر هذه الآية الكريمة وأمثالها وهو أحد القولين لأهل العلم.
والقول الثاني : أن الكفار لا توزن أعمالهم؛ لقوله تعالى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) (103)(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (104)(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف:103-105). والله أعلم.

· * *
وتنشر الدواوين (1) وهي صحائف الأعمال (2)............................................... ..........
(1) الأمر السادس مما يكون يوم القيامة:
وهو ما ذكره المؤلف بقوله :" وتنشرُ الدواوينُ"
*"وتنشر" أي : تفرق وتفتح لقارئها.
*و " الدواوين": جمع ديوان، وهو السجل الذي تكتب فيه الأعمال ، ومنه دواوين بيت المال، وما أشبه ذلك.
(2) يعني: التي كتبتها الملائكة الموكلون بأعمال بني آدم؛ قال الله تعالى:(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)(9)(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)(10)(كِرَاماً كَاتِبِينَ) (11)(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)(الانفطار:9-12).
فيكتب هذا العمل ويكون لازما للإنسان في عنقه؛ فإذا كان يوم القيامة؛ أخرج الله هذا الكتاب.
قال تعالى (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً) (الإسراء:13) (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء:13-14).
قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك.
والكتابة في صحائف الأعمال : أما للحسنات ، وأما للسيئات، والذي يكتب من الحسنات ما عمله الإنسان، وما نواه، وما هم به ؛ فهذه ثلاثة أشياء:
فأما ما عمله ؛ فظاهر أنه يكتب.
وأما ما نواه؛ فإنه يكتب له، لكن يكتب هل أجر النية فقط كاملاً؛ كما في الحديث الصحيح في قصة الرجل الذي كان له مال ينفقه في سبل الخير، فقال الرجل الفقير: لو أن عندي مالاً؛ لعملت فيه بعمل فلان؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم" فهو بنيته؛ فأجرهما سواء"[235]
ويدل على أنهما ليسا سواء في الأجر من حيث العمل: أن فقراء المهاجرين لما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله ! إن أهل الدثور سبقونا فقال لهم صلى الله عليه وسلم :" تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين" فلما سمع الأغنياء بذلك ؛ فعلو مثله، فرجع الفقراء يشكون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهم :" ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء[236] ولم يقل : إنكم أدركتم عملهم.
ولأن هذا هو العدل ؛ فرجل لم يعمل لا يكون كالذي عمل ، لكن يكون مثله في أجر النية فقط.
وأما الهم ؛ فنقسم إلى قسمين:
الأول: أن يهم بالشيء ويفعل ما يقدر عليه منه، ثم يحال بينه وبين إكماله.
فهذا يكتب له الأجر كاملاً؛ لقوله تعالى : ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:100) .
وهذه بشرى لطلبة العلم إذا نوى الإنسان إنه يطلب العلم وهو يريد أن ينفع الناس بعلمه ويذب عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وينشر دين الله في الأرض، ثم لم يقدر له ذلك ؛ بأن مات مثلاً، وهو في طلبه ؛ فإنه يكتب له أجر ما نواه وسعى إليه.
بل إن الإنسان إذا كان من عادته العمل، وحيل بينه وبينه لسبب ؛ فإنه يكتب له أجره ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: " إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً"[237]
القسم الثاني:: أن يهم بالشيء ويتركه مع القدرة عليه ؛ فيكتب له به حسنة كاملة؛ لنيته.
وأما السيئات؛ فإنه يكتب على الإنسان ما عمله ويكتب عليه ما أراده وسعى فيه ولكن عجز عنه، ويكتب عليه ما نواه وتمناه.
فالأول : واضح.
والثاني: يكتب عليه كاملاً ؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:" إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول الله ! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟! قال:" لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه"[238] ومثله من هم أن يشرب الخمر، ولكن حصل له مانع ؛ فهذا يكتب عليه الوزر كاملاً؛ لأنه سعى فيه.
والثالث الذي نواه وتمناه يكتب عليه ، لكن بالنية، ومنه الحديث الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل أعطاه الله مالاً فكان يتخبط فيه ، فقال رجل فقير: لو أن لي مالاً ؛ لعملت فيه بعمل فلان. قال النبي عليه الصلاة والسلام:" فهو بنيته؛ فوزرهما سواء"[239]
ول هم بالسيئة، ولكن تركها؛ فهذا على ثلاث أقسام:
1- إن تركها عجزا ؛ فهو كالعامل إذا سعى فيها.
2- وإن تركها لله ؛ كان مأجوراً.
3- وإن تركها لأن نفسه عزفت عنها،أو لم تطرأ على باله؛ فهذا لا إثم عليه ولا أجر.
والله عز وجل يجزي بالحسنات أكثر من العمل، ولا يجزي بالسيئات إلا مثل العمل ؛ قال تعالى : (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأنعام:160)، وهذا من كرمه عز وحل ومن كون رحمته سبقت غضبه.
فآخذ كتابه بيمينه (1) وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره (1).......................................
(1)قوله: " فآخذ كتابه بيمينه": "آخذ" مبتدأ ، وخبره محذوف والتقدير : فمنهم آخذ.
وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه في مقام التفصيل؛ أي أن الناس ينقسمون؛ فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه، وهم المؤمنون، وهذا إشارة إلى أن لليمنى الإكرام ، ولكذلك يأخذ المؤمن كتابه بها، والكافر يأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره؛ كما قال المؤلف:" وآخذ كتابه بشماله".
(2)وقوله :" أو من وراء ظهره" "أو " للتنويع، وليست للشك.
فظاهر كلام المؤلف أن الناس يأخذون كتبهم على ثلاثة أوجه: باليمين، وبالشمال، ومن وراء الظهر.
ولكن الظاهر أن هذا الاختلاف اختلاف صفات ؛ فالذي يأخذ كتابه من وراء ظهره هو الذي يأخذ كتابه بشماله؛ فيأخذ بالشمال، وتجعل يده من الخلف؛ فكونه يأخذه بالشمال؛ لأنه من أهل الشمال، وكونه من وراء ظهره ؛ لأنه لما استدبر كتاب الله ، وولي ظهره إياه في الدنيا ؛ صار من العدل أن يجعل كتاب أعماله يوم القيامة خلف ظهره؛ فعلى هذا ؛ تخلع اليد الشمال حتى تكون من الخلف. والله أعلم
كما قال سبحانه وتعالى(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَه(1)في عُنُقِهِ(2)نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كتاباً يلقاه منشوراً(3) اقرأ كتابك(4) كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً(5)………………………………………
(1)طائره) أي عمله؛ لأن الإنسان يتشاءم به أو يتفاءل به، ولأن الإنسان يطير به فيعلو أو يطير به فينزل.
(2) (في عنقه) ؛ أي : رقبته، وهذا أقوى ما يكون تعلقاً بالإنسان ؛ حيث يربط ي العنق؛ لأنه لا يمكن أن ينفصل آي إذا هلك الإنسان؛ فهذا يلزم عمله.
(3)وإذا كان يوم القيامة؛ كان الأمر كما قال الله تعالى (نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كتاباً يلقاه منشوراً)؛ أي مفتوحاً؛ لا يحتاج إلى تعب ولا إلى مشقة في فتحه.
(4)ويقال له (أقرأ كتابك) وانظر ما كتب عليك فيه.
(5)( كفي بنفسك اليوم عليك حسيباً): وهذا من تمام العدل والإنصاف: أن يوكل الحساب إلى الإنسان نفسه.
والإنسان العاقل لابد أن ينظر ماذا كتاب في هذا الكتاب الذي سوف يجده يوم القيامة مكتوباً.
ولكن، نحن أمامنا باب يمكن أن يقضي على كل السيئات، وهو التوبة، وإذا تاب العبد إلى الله مهما عظم ذنبه؛ فإن الله يتوب عليه، وحتى لو تكرر الذنب منه، وهو يتوب؛ فإن الله يتوب عليه ؛ فما دام الأمر بأيدينا الآن؛ فعلينا أن نحرص على أن يكتب في هذا الكتاب إلا العمل الصالح.
* * *
(1)الأمر السابع مما يكون يوم القيامة.
وهو ما ذكره المؤلف بقوله: (ويحاسب الله الخلائق):
المحاسبة: إطلاع العباد على أعمالهم يوم القيامة.
وقد دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
- أما الكتاب؛ فقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)(فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) (الانشقاق:7-8)، )وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)(فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً)(فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً) (الانشقاق:11)(وَيَصْلَى سَعِيراً) (الانشقاق:10-12).
- أما السنة؛ فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعدة أحاديث أن الله تعالى يحاسب الخلائق.
- وأما الإجماع ؛ فإنه متفق عليه بين الأمة: أن الله تعالى يحاسب الخلائق.
- وأما العقل ؛ فواضح ؛ لأننا كلفنا بعمل فعلاً وتكراً وتصديقاً، والعقل والحكمة تقتضيان أن من كلف بعمل ؛ فإنه يحاسب عليه ويناقش فيه.
- وقول المؤلف :" الخلائق" جمع خليقة؛ يشمل كل مخلوق.
إلا أنه يستثني من ذلك من يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ؛ كما ثبت ذلك في الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أمته ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون[240].
وقد روي الإمام أحمد بسند جيد : أن مع كل واحد سبعين ألفاً[241].
فتضرب سبعين ألفاً بسبعين ألفاً ويزاد سبعون ألفاً. وهؤلاء فتضرب سبعين ألفاً بسبعين ألفاً، ويزداد سبعون ألفاً؛ هؤلاء كلهم يدخلون الجنة لا حساب ولا عذاب.
وقوله :" الخلائق" يشمل أيضاً الجن؛ لأنهم مكلفون ، ولهذا يدخل كافرهم النار بالنص والإجماع؛ كما قال تعالى (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ )(لأعراف: من الآية38)، ويدخل مؤمنهم الجنة على قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح؛ كما يدل عليه قوله تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان(46) إلى قوله : (....لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (الرحمن:46-56).
وهل تشمل المحاسبة البهائم؟
أما القصاص؛ فيشمل البهائم؛ لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام" أنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" [242]، وهذا قصاص ، لأنها لا تحاسب حساب تكليف وإلزام؛ لأن البهائم ليس لها ثواب ولا عقاب.
ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه (1) كما وصف ذلك في الكتاب والسنة (2) وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويخزون[243] بها (3)............................................... .............................
(1)قوله :" ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه":
وهذا صفة حساب المؤمن:
يخلو الله به عز وجل دون أن يطلع عليه أحد، ويقرره بذنوبه؛ أي : يقول له : عملت كذا، وعملت كذا... حتى يقر ويعترف، ثم يقول: " سترها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم[244]" .
ومع ذلك ؛ فإنه سبحانه وتعالى يضع عليك ستره؛ بحيث لا يراه أحد، ولا يسمعه أحد، وهذا من فضل الله عز وجل على المؤمن؛ فإن الإنسان إذا قررك بجناياتك أما الناس وإن سمح عنك؛ ففيه شيء من الفضيحة لكن إذا كان ذلك وحدك ؛ فإن ذلك ستر منه عليك.
(2) "ذلك" المشار إليه الحساب؛ يعنى: كما وصف الحساب في الكتاب والسنة، لأن هذا من الأمور الغيبية المتوقفة على الخبر المحض، فوجب الرجوع فيه إلى ما وصف في الكتاب والسنة.
(3)هكذا جاء معناه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما ذكر حساب الله تعالى لعبده المؤمن، وأنه يخلو به، ويقرره بذنوبه. قال " وأما الكفار المنافقون ؛ فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين". متفق عليه[245]"
وفي "صحيح مسلم" [246]، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فيلقى العبد، لأي يلقى الله العبد إي المنافق، فيقول : يا فل، أي : يا فلان، ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول : بلى ، قال : فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيسأله فيجيب كما أجاب الأول، فيقول الله ، فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول الله ، فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول : يا رب آمنت بلك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول : ههنا إذن، قال : ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي ، فتنطق بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 15 Mar 2010, 05:25 AM   #58
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


تنبيه:
في قول المؤلف رحمه الله محاسبة من توزن حسناته وسيئاته... إلخ، إشارة إلى أن المراد بالمحاسبة المنفية عنهم هي محاسبة الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأما محاسبة التقرير والتقريع فثابتة كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فائدة:
أو ما يحاسب عليه العبد من الأعمال الصلاة، وأول ما يقضي فيه بين الناس الدماء؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية، والدماء اعظم ما يعتدى به في حقوق الآدميين.
* * *
وفي عرصات القيامة: الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، ماؤه اشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً(1)...
(1) الأمر الثامن مما يكون يوم القيامة:
وهو ما ذكره المؤلف بقوله :" وفي عرصات القيامة الحوضُ المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم ".
العرصات : عرصة، هي المكان المتسع بين البنيان، والمراد به هنا مواقف القيامة.
والحوض في الأصل : مجمع الماء، والمراد به هنا : حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
والكلام على الحوض من عدة وجوه.
اولاً : هذا الحوض موجود الآن ؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خطب ذات يوم ي أصحابه ، وقال :" وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن"[247].
وأيضاً ؛ ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قال :" ومنبري على حوضي"[248].
وهذا يحتمل أنه في هذا المكان، لكن لا نشاهده؛ نه غيبي ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض.
ثانياً: هذا الحوض يصب فيه ميزابان من الكوثر، وهو النهر العظيم، الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؛ ينزلان إلى هذا الحوض[249].
ثالثاً: زمن الحوض قبل العبور على الصراط؛ لأن المقام يقتضي ذلك ؛ حيث إن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل عبور الصراط.
رابعاً: يرد هذا الحوض المؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، المتبعون لشريعته، وأما من استنكف واستكبر وعن اتباع الشريعة؛ فإنه يطرد منه.
خامساً : في كيفية مائه: فيقول المؤلف رحمه الله :" ماؤه أشد بياضاً من اللبن" هذا في اللون ، أما في الطعم ؛ فقال:" وأحلى من العسل"، وفي الرائحة أطيب من ريح المسك؛ كما ثبت به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم [250]
سادساً: في آنيته : يقول المؤلف :" آنيته عدد نجوم السماء".
هذا كما ورد في بعض ألفاظ الحديث، وفي بعضها :" آنيته كنجوم السماء"، وهذا اللفظ أشمل؛ لأنه يكون كالنجوم في العدد وفي الوصف بالنور واللمعان؛ فآنيته كنجوم السماء كثرة وإضاءة.
سابعاً: آثار هذا الحوض : قال المؤلف :" من يشرب منه شربة؛ لا يظمأ بعدها أبداً": حتى على الصراط وبعده.
وهذه من حكمة الله عز وجل؛ لأن الذي يشرب من الشريعة في الدنيا لا يخسر أبداً كذلك.
ثامناً: مساحة هذا الحوض: يقول المؤلف :" طوله شهر وعرضه شهر": هذا إذاً يقتضي أن يكون مدوراً ؛ لأنه لا يكون بهذه المساحة من كل جانب ؛ إلا إذا كان مدوراً، وهذه المسافة باعتبار ما هو معلوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من سير الإبل المعتاد.
تاسعاً: يصب في الحوض ميزابان من الكوثر الذي أعطاه الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم .
عاشراً: هل للأنبياء الآخرين أحواضٌ؟
فالجواب: نعم ؛ فإنه جاء في حديث رواه الترمذي- وإن كان فيه مقال:" إن لكل نبي حوضاً "[251].
لكن هذا يؤيده المعنى، وهو أن الله عز وجل بحكمته وعدله كما جعل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حوضاً يرده المؤمنون من أمته؛ كذلك يجعل لكم نبي حوضاً ، حتى ينتفع المؤمنون بالأنبياء السابقين، لكن الحوض الأعظم هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم .
والصراط منصوب على متن جهنم وهو الجسر الذي بين الجنة والنار (1)..............................
(1) الأمر التاسع مما يكون يوم القيامة: الصراط:
وقد ذكره المؤلف بقوله :" والصراطُ منصوبٌ على متنِ جهنم ، وهو الجسرُ الذي بين الجنة والنار".
- فمنهم من قال : طريق واسع يمر الناس على قدر أعمالهم ؛ لأن كلمة الصراط مدلولها اللغوي هو هذا؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه دحض ومزلة[252]، والدحض والمزلة لا يكونان إلى في طريق واسع، أما الضيق؛ فلا يكون دحضاً ومزلة.
- ومن العلماء من قال: بل هو صراط دقيق جداً؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم بلاغاً [253]، أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف.
*على هذا يرد سؤال : وهو كيف يمكن العبور على طريق كهذا؟
والجواب:أن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا؛ فالله تعالى على كل شيء قدير، ولا ندري ؛ كيف يعبرون؟! هل يجتمعون جميعاً في هذا الطريق أو واحد بعد واحد؟
وهذه المسألة لا يكاد الإنسان يجزم بأحد القولين؛ لأن لكيهما له وجهة قوية.
وقوله :" منصوب على متن جهنم"؛ يعني : على نفس النار.
يمر الناس عليه على قدر أعمالهم : فمنهم من يمر كلمح البصر ، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل ، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً ومنهم من يزحف زحفاً (1)............................................... ................
(1)قوله:" يمر الناس" : المراد ب " الناس" هنا : المؤمنون ؛ لأن الكفار قد ذهب بهم إلى النار .
فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم ؛ منهم من يمر كلمح البصر ، ومنهم من يمر كالبرق، ولمح البصر أسرع من البرق، ومنهم من يمر كالريح؛ أي : الهواء ، ولا شك أن الهواء سريع، لا سيما قبل أن يعرف الناس الطائرات، والهواء المعروف يصل أحياناً على مئة وأربعين ميلاً في الساعة، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم ممن يمر كركاب الإبل ، هي دون الفرس الجواد بكثير، ومهم من يعدو عدواً، أي : يسرع، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً؛ أي : يمشي على مقعدته، وكل منهم يريد العبور.
وهذا بغير اختيار الإنسان، ولو كان باختياره ؛ لكان يحب أن يكون بسرعة، ولكن السير على حسب سرعته في قبول الشريعة في هذه الدنيا، فمن كان سريعاً في قبول ما جاءت به الرسل ؛ كان سريعاً في عبور الصراط، ومن كان بطيئاً في ذلك ؛ كان بطيئاً في عبور الصراط؛ جزاء وفقاً، والجزاء من جنس العمل.
ومنهم من يخطف خطفاً(1) فيلقى في جهنم (2) فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم........
(1) وقوله :" ومنهم من يخطف"؛ أي: يؤخذ بسرعة، وذلك بالكلاليب التي على الجسر؛ تخطف الناس بأعمالهم (2) " فيلقى في جهنم" يفهم منه أن النار التي يلقى فيها لاعصاة هي النار التي يلقى فيها الكفار، ولكنها لا تكون بالعذاب كعذاب الكفار، بل قال بعض العلماء: إنها تكون برداً وسلاماً عليهم كما كانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، ولكن الظاهر خلاف ذلك، وأنها تكون حارة مؤلمة لكنها ليست كحرارتها بالنسبة للكافرين.
ثم إن أعضاء السجود لا تمسها النار؛ ما ثبت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين"[254]، وهي الجبهة والأنف والكفان والركبتان وأطراف القدمين.
فمن مر على الصراط (1) دخل الجنة (1) فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار (2) فيقتص لبعضهم من بعض (3)............................................... ....................................
(1) قوله :" فمن مر على الصراط؛ دخل الجنة" ؛ أي : لأنه نجا.
(2) "القنطرة" هي الجسر ، لكنه جسر صغير ، والجسر في الأصل ممر على الماء من نهر ونحوه.
واختلف العلماء في هذه القنطرة؛ هل هي طرف الجسر الذي على متن جهنم أو هي جسر مستقل؟!
والصواب في هذا أ نقول : الله أعلم، وليس يعنينا شأنها، لكن الذي يعنينا أن الناس يوقفون عليها.
(3)قوله فيقتص لبعضهم من بعض": وهذا القصاص غير القصاص الأول الذي في عرصات القيامة؛ لأن هذا قصاص أخص؛ لأجل أن يذهب الغل والحقد والبغضاء التي في قلوب الناس، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص.
فهذه القنطرة التي بين الجنة والنار؛ لأجل تنقية ما في القلوب ، حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل؛ كما قال الله تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر:47)
فإذا هُذبوا ونُقوا ؛ أذن لهم في دخول الجنة (1) ، وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم (2)............................................... ................
(1) هكذا رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه [255].
إذا هذبوا مما في قلوبهم من العداوة والبغضاء ونقوا منها ؛ فإنه يؤذن لهم في دخول الجنة؛ فإذا أذن لهم في الدخول ؛ فلا يجدون الباب مفتوحاً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع إلى الله في أن يفتح لهم با بالجنة؛ كما سيأتي في أقسام الشفاعة إن شاء الله.
* * *
(2)الأمر العاشر مما يكون يوم القيامة: دخول الجنة:
وأشار إليه المؤلف بقوله :" وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم".
ودليله ما ثبت في " صحيح مسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أول شفيع في الجنة"، وفي لفظ " أنا أول من يقعر باب الجنة[256]، وفي لفظ :" آتي باب الجنة يوم القيامة فاستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول : محمد . فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحد من قبلك"[257]
وقوله صلى الله عليه وسلم :" فاستفتح"؛ أي : أطلب فتح الباب.
وهذا من نعمة الله على محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الشفاعة الأولى التي يشفعها في عرصات القيامة لإزالة الكروب والهموم والغموم، والشفاعة الثانية لنيل الأفراح والسرور؛ فيكون شافعاً للخلق عليه الصلاة والسلام في دفع ما يضرهم وجلب ما ينفعهم.
ولا دخول إلى الجنة إلا بعد شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن ذلك ثبت في السنة كما سبق، واشار إليه الله عز وجل بقوله ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا )(الزمر: من الآية73)؛ فإنه لم يقل: حتى إذا جاءوها ؛ فتحت! وفيه إشارة إلى أن هناك شيئاً قبل الفتح، وهو الشفاعة . أما أهل النار؛ فقال فيهم: ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا )(الزمر: من الآية71)؛ لأنهم يأتونها مهيأة فتبغتهم ؛ نعوذ بالله منها.
وأول ما يدخل الجنة من الأمم أمته (1)............................................... ................
(1) هذا حق ثابت ؛ دليله ما ثبت في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل الجنة "[258]، وقال صلى الله عليه وسلم :" نحن الآخرون السابقون يوم القيامة"[259].
وهذا يشمل كل مواقف القيامة وانظر:" حادي الأرواح" لابن القيم :
تتمة:
أبواب الجنة لم يذكرها المؤلف ، لكنها معروفة أنها ثمانية؛ قال الله تعالى ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا )(الزمر: من الآية73؛ وقال النبي صلى الله عليه وسمل فيمن توضأ وأسبغ والوضوء وتشهد:" إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية؛ يدخل من أيها شاء"[260]
وهذه الأبواب كانت ثمانية بحسب الأعمال ؛ لأن كل باب له عمال؛ فأهل الصلاة ينادون من باب الصلاة، وأهل الصدقة من باب الصدقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد، وأهل الصيام من باب الريان.
وقد يوفق الله عز وجل بعض الناس لأعمال صالحة شاملة؛ فيدعى من جميع الأبواب؛ كما في الصحيحين"[261] عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من أنفق زوجين في سبيل الله ؛ نؤدي من أبواب الجنة: يا عبد الله ! هذا خير...." وذكر الحديث ، وفيه : فقال أبو بكر رضي الله عنه : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال :" نعم، و أرجو أن تكون منهم".
فإن قلت: إذا كانت الأبواب بحسب الأعمال ؛ لزم أن يدعى كل أحد من كل تلك الأبواب إذا عمل بأعمالها ؛ فما هو الجواب ؟
فالجواب : أن يقال : يُدعى من الباب المعين من كان يكثر من العمل المخصص له؛ مثلاً : إذا كان هذا الرجل كثير الصلاة؛ فيدعى من باب الصلاة، كثير الصيام من باب الريان، وليس كل إنسان نحصل له الكثرة في كل عمل صالح؛ لأنك تجد في نفسك بعض الأعمال أكثر وأنشط من بعض، لكن قد يمن الله علي بعض الناس، فيكون نشيطاً قوياً في جميع الأعمال؛ كما سبق في قصة أبي بكر رضي الله عنه.

وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات (1)............................................... ...
(1)الأمر الحادي عشر مما يكون يوم القيامة: الشفاعة:
وقد ذكرها المؤلف بقوله: وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات".
" له" : الضمير يعود للنبي صلى الله عليه وسلم .
والشفاعات : جمع شفاعة، والشفاعة في اللغة: جعل الشيء شفعاً. وفي الاصطلاح: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، ومناسبتها للاشتقاق ظاهرة؛ لأنك إذا توسطت له؛ صرت معه شفعاً تشفعه.
والشفاعة تنقسم إلى قسمين: شفاعة باطلة، وشفاعة صحيحة.
فالشفاعة الباطلة: ما يتعلق به المشركون في أصنامهم؛ حيث يعبدون ويزعمون أنهم شفعاء لهم عند الله ، كما قال تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ )(يونس: من الآية18)، ويقولون ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى )(الزمر: من الآية3).
لكن هذه الشفاعة باطلة لا تنفع؛ كما قال تعالى : (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر:48).
والشفاعة الصحيحة ما جمعت شروطاً ثلاثة:
الأول: رضى الله عن الشافع.
الثاني: رضاه عن المشفوع له، لكن الشفاعة العظمى في الموقف عامة لجميع الناس من رضي الله عنهم ومن لم يرض عنهم .
الثالث: إنه في الشفاعة.
والإذن لا يكون إلا بعد الرضى عن الشافع والمشفوع له.
ودليل ذلك قوله تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (لنجم:26) ، ولم يقل: عن الشافع ، ولا : المشفوع له؛ ليكون أشمل.
وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (طـه:109).
وقال سبحانه ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(الأنبياء: من الآية28).
فالآية تضمنت الشروط الثلاثة، والثانية: تضمنت شرطين، والثالثة تضمنت شرطاً واحداً.
فللنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات:
1- الشفاعة العظمى.
2- الشفاعة لأهل الجنة ليدخلوا الجنة.
3- الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها ، وفيمن دخلها أن يخرج منها.
أما الشفاعة الأولى: فيشفع ف أهل الموقف حتى يقضى بينهم (1) بعد أن يتراجع الأنبياء : آدم ، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم عن الشفاعة(2)........................................ ...............
(1)قوله " حتى يقضى بينهم ": (حتى) هذه تعليلية ، وليست غائية؛ لأن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تنتهي قبل أن يقضى بين الناس ؛ فإنه إذا شفع؛ نزل الله عز وجل للقضاء بين عباده وقضى بينهم.
ونظيرها قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا )(المنافقون: من الآية7)؛ فإن قوله : : للتعليل ؛ أي: من أجل أن ينفضوا، وليست للغاية ؛ لأن المعني يفسد ذلك .
(1)أي : يردها كل واحد منهم إلى الآخر.
شرح
هذه الجملة ما رواه البخاري ومسلم [262]عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون فيم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد؛ يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس نم الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض: عليكم بآدم! فيأتونه ، فيقولن له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته؛ نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى نوح! فيأتون نوحاً، فيقولون : يا نوح! إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً؛ اشفع لنا إلى ربك؛ إلا ترى إلى ا نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله ، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي؛ اذهبوا إلى إبراهيم! فيأتون إبراهيم ، فيقولون: يا إبراهيم ! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض؛ اشفع لنا إلى ربك؛ إلا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات ؛ إذهبوا إلى موسى! فيأتون موسى ، فيقولون : يا موسى! أنت رسول اله ، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله ، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها؛ اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى، فيقولون : يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته إلي مريم وروح منه وكلمت الناس في النهد صبياً؛ أشفع لنا غلى ربك ؛ إلا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله ولم يذكر ذنباً، وكلهم يقول كما قال آدم: نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى محمد ! فيأتون محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق ، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال : يا محمد! ارفع رأسك؛ سل تعطه، واشفع تشفع…." وذكر تمام الحديث.
والكذبات الثلاث التي ذكرها إبراهيم عليه السلام فُسرت بما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ قال لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ؛ اثنتين منهن في ذات الله : قوله :" إني سقيم"، وقوله:" بل فعله كبيرهم هذا" ، وذكر قوله عن امرأته سارة: إنها أختى.
وفي " صحيح مسلم " في حديث الشفاعة السابق أن الثالثة قوله في الكوكب (هذا ربي) ، ولم يذكر قصة سارة.
لكن قال بن حجر في "الفتح"[263]: " الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة"، وعلل ولذلك.
وإنما سمى إبراهيم عليه السلام هذه كذبات؛ تواضعاً منه؛ لأنها بحسب مراده صدق مطابق للواقع؛ فهي من باب التورية، والله أعلم.
حتى تنتهي إليه (1)
(1) أي : إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبق في الحديث ما يكون بعد ذلك.
وهذه الشفاعة العظمى لا تكون لأحد أبداً إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، وهي أعظم الشفاعات؛ لأن فيها إراحة الناس من هذا الموقف العظيم والكرب والغم.
وهؤلاء الرسل الذي ذكروا في حديث الشفاعة كلهم من أولي العزم، وقد ذكرهم الله تعالى في موضعين من القرآن: في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى.
أما في سورة الأحزاب ؛ ففي قوله تعالى :(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (الأحزاب:7) .
وأما في سورة الشورى ؛ فقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى)(الشورى: من الآية13).


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 15 Mar 2010, 05:26 AM   #59
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


تنبيه:
قوله: " الأنبياء ؛ آدم ونوح…" إلى آخره: جزم المؤلف رحمه الله بأن آدم نبي ن وهو كذلك ؛ لأن الله تعالى أوحى إليه بشرع أمره ونهاه.
وروى ابن حبان في " صحيحه" : أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل كان آدم نبياً؟ قال : " نعم".
فيكون آدم أول الأنبياء الموحى إليهم ، وأما أول الرسل ؛ فنوح ؛ كم هو صريح في حديث الشفاعة وظاهر القرآن في قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ )(النساء: من الآية163)، وقوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ)(الحديد: من الآية26).
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة (1)……………………………………
(1)وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط؛ وقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض
، فيقتص لبعضهم من بعض، وهذا القصاص غير القصاص الذي كان في عرصات القيامة، بل هو قصاص أخص، يطهر الله فيه القلوب، ويزيل ما فيا ن أحقاد وضغائن؛ فإذا هُذبوا ونُقوا ؛ إذن لهم في دخول الجنة.
ولكنهم إذا أتوا إلى الجنة؛ لا يجدونها مفتوحة كما يجد ذلك أهل النار؛ فلا تفتح الأبواب ، حتى يشفع النبي صلى الله علي وسلم لأهل الجنة أن يدخلوها، فيدخل كل إنسان من باب العمل الذي يكون أكثر اجتهاداً فيه من غيره، وإلا ؛ فإن المسلم قد يدعى من كل الأبواب.
وهو صريح فيما رواه مسلم [264] عن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما ؛ قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم ، فيقولون: يا أبانا ! استفتح لنا الجنة..." وذكر الحديث ، وفيه:" فيأتون محمداً، فيقوم فيؤذن له.." الحديث.
وهاتان الشفاعتان (1) خاصتان له (2)............................................... ...................
(1) يعني : الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، والشفاعة في دخول الجنة.
(2) أي : للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولذلك يعتذر عنهما آدم وأولو العزم من الرسل .
وهناك أيضاً شفاعة ثالثة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لا تكون لغيره، وهي الشفاعة في عمه أبي طالب، وأبو طالب – كما في " الصحيحين"[265] وغيرهما- مات على الكفر. فأعمام الرسول عليه الصلاة والسلام عشرة؛ وغيرهما ادرك الإسلام منهم أربعة؛ فبقي اثنان على الكفر وأسلم اثنان:
فالكافران هما:
أبو لهب: وقد أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم إساة عظيمة وأنزل الله تعالى فيه وفي امرأته حمالة الحطب سورة كاملة في ذمهما ووعيدهما.
والثاني: أبو طالب ، وقد أحسن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام إحساناً كبيراً مشهوراً ، وكان من حكمة الله عز وجل أن بقي على كفره؛ لأنه لو لا كفره؛ ما حصل هذا الدفاع عن الرسول عليه الصلاة ، بل كان يؤذي كما يؤذى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن بجاهه العظيم عند قريش وبقائه على دينهم صاروا يعظمونه وصار للنبي علي الصلاة والسلام جانب من الحماية بذلك.
واللذان أسلما هما العباس وحمزة ، وهو افضل من العباس ، حتى لقبه الرسول عليه الصلاة والسلام أسد الله ، وقتل شهيداً في أحد رضي الله عنه وأرضاه ، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء.
فأبو طالب أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يشفع فيه ، مع أنه كافر، فيكون هذا مخصوصاً من قوله تعالى (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر:48) ، ولكنها شفاعة لم تخرجه من النار، بل كان في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" ولولا أنا ؛ لكان في الدرك الأسفل من النار"[266]، وليس هذا من أجل شخصية أبي طالب، لكن من أجل ما حصل من دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن أصحابه.
وأما الشفاعة الثالثة، فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم ، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها (1)..................................
(1) قوله :" وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحق النار" ؛ أي: من عصاة المؤمنين.
وهذه لها صورتان : يشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ، وفيمن دخلها أن يخرج منها.
أما فيمن دخلها أن يخرج منها ؛ فالأحاديث ي هذا كثيرة جداً ، بل متواترة.
وأما فيمن استحقها أن لا يدخلها ؛ فهذه قد تستفاد من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالمغفرة والرحمة على جنائزهم؛ فإنه من لازم ذلك أن لا يدخل النار؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :" اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين...." الحديث[267].
*لكن هذه شفاعة في الدنيا؛ كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : " ما من رجل مسلم يموت ، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً؛ إلا شفعهم الله فيه [268].
*وهذه الشفاعة ينكرها من أهل البدع طائفتان؛ المعتزلة والخوارج لأن المعتزلة والخوارج مذهبهما في فاعل الكبيرة أنه مخلد في نار جهنم ، فيرون من زنى كمن أشرك بالله؛ لا تنفعه الشفاعة، ولن يأذن الله لأحد بالشفاعة له.
وقولهن مردود بما تواترت به الأحاديث في ذلك.
*قوله :" وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم "؛ فليشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها ، يعني : أنها ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسل م، بل تكون للنبيين ؛ حيث يشفعون في عصاة قومهم، وللصديقين يشفعون في عصاة اقاربهم وغيرهم من المؤمنين، وكذلك تكون لغيرهم من الصالحين، حتى يشفع الرجل في أهل ه وفي جيرانه وفيما أشبه ذلك .
ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة ، بل بفضله ورحمته (1)......................................
(1)يعني : أن الله تعالى يخرج من عصاة المؤمنين من شاء بغير شفاعة ، وهذا من نعمته؛ فإن رحمته سبقت غضبه، فيشفع الأنبياء والصالحون والملائكة وغيرهم، حتى لا يبقى إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج من النار من يخرج بدون شفاعة ، حتى لا يبقى في النار إلا أهلها الذين هم أصحاب النار، فقد روى الشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أن الله تعالى يقول : شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعلموا خيراً قط؛ قد عادوا حمماً........." الحديث[269]
· * *
(1)الأمر الثاني عشر مما يكون يوم القيامة:
وهو ما ذكره المؤلف بقوله :" ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا".
الجنة عرضها السماوات والأرض، وهذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض يدخلها أهلها ، ولكن لا تمتلئ
وقد تكلف الله عز وجل للجنة وللنار لكل واحدة ملؤها:
-"فالنار لا تزال يلقى فيها وهي تقول : هل من مزيد؟ فلا تمتلئ، فيضع الله عز وجل عليها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول : قط قط"[270]
- وأما الجنة؛ فينشئ لها أقواماً، فيدخلون الجنة بفضل الله ورحمته:
- ثبت ذلك في " الصحيحين" [271]من حديث انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم وعلى آله وسلم، وهذا مقتضى قوله تعالى: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )(الأنعام: من الآية54)، وقول النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام يما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى :" إن رحمتي سقبت غضبي"[272]
ولهذا قال المؤلف :" فينشئ الله لها أقواماً ، فيدخلهم الجنة".
(1)الأصناف : الأنواع.
(2)سبق معنى الحساب.
(3)الثواب: جزاء الحسنات ؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
(4)العقاب : جزاء السيئات، ومن جاء بالسيئة ؛ فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون.
(5)الجنة : هي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر؛(َلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17) ؛ أي : لا تعلم حقيقته وكنهه.
والجنة موجودة الآن؛ لقوله تعالى : ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، والأحاديث في هذا المعنى متواترة.
ولا تزال باقية أبد الآبدين؛ لقوله تعالى: )وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود:108)، وقوله (خَالِدِينَ فِيهَا أبدا) ؛ في آيات متعددة.
والنار (1) وتفاصيل ذلك مذكور في الكتب المنزلة من السماء(2) والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء (3)......
(1)النار: هي الدار التي أعدها الله تعالى لأعدائه، وفيها من أنواع العذاب والعقاب ما لا يطيق.
وهي موجودة الآن ؛ لقوله تعالى : ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(آل عمران: من الآية131)، والأحاديث في هذا المعنى مستفيضة مشهورة.
وأهلها خالدون فيها أبداً؛ لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (الأحزاب:64-65)
وقد ذكر الله خلودهم أبداً في ثلاث آيات من القرآن ؛ هذه أحدها ، والثانية في آخر سورة النساء، والثالثة في سورة الجن، وهي ظاهرة في أن النار لا تزال باقية أبد الآبدين.
(2)يعني: مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى وغيرها من الكتب المنزلة؛ فقد ذكر فيها ذلك مبيناً مفصلاً لحاجة الناس، بل ضرورتهم إلى بيانه وتفصيله؛ إذ لا يمكنهم الاستقامة إلا بالإيمان باليوم الآخر الذي يجازي فيه كل عامل بما عمل من خير وشر.
(3) اعلم أن العلم المأثور عن الأنبياء قسمان:
القسم الأول: قسم ثبت بالوحي، وهو ما ذكر في القرآن والسنة الصحيحة، وهذا لا شك في قبوله واعتقاد مدلوله.
القسم الثاني: قسم أتى عن طريق النقل غير الوحي، وهذا هو الذي دخل فيه الكذب والتحريف والتبديل والتغيير.
ولهذا لا بد من أن يكون الإنسان حذراً مما ينقل بهذه الطريقة عن الأنبياء السابقين، حتى قال الرسول صلى عليه الصلاة والسلام :" إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، قولوا : آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم [273]، لأنك إن صدقت؛ قد تصدق بباطل، وإن كذبته؛ قد تكذب بحق؛ فلا تصدق ولا تكذب؛ قل: إن كان هذا من عند الله ؛ فقد آمنت به.
وقد قسم العلماء ما أثر عمن سبق ثلاثة أقسام:
الأول: ما شهد شرعنا بصدقه.
الثاني: ما شهد شرعنا بكذبه.
والحكم في هذين واضح.
الثالث: ما لم يحكم بصدقه ولا كذبه.
فهذا مما يجب فيه التوقف؛ لا يصدق ولا يكذب.
وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي (1)...................
(1) العلم الموروث عن محمد صلوات الله وسلامه عليه سواء في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عيه وسلم فيه من ذلك ما يشفي ويكفي.
فلا حاجة إلى أن نبحث عن مواعظ ترقق القلوب من غير الكتاب والسنة، بل نحن في غنى عن هذا كله؛ ففي العلم الموروث عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشفي ويكفي في كل أبواب العلم والإيمان.
ثم المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الوعظ والفضائل ترغيباً أو ترهيباً ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صحيح مقبول ، وضعيف ، وموضوع؛ فليس كله صحيحاً مقبولاً، ونحن في غنى عن الضعيف والموضوع.
- فالموضوع اتفق العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز ذكره ونشره بين الناس؛ لا في باب الفضائل والترغيب والترهيب، ولا في غيره ؛ إلا من ذكره ليبين حاله.
- والضعيف اختلف فيه العلماء ، والذين قالوا بجواز نشره ونقله اشترطوا ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن لا يكون الضعف شديداً
الشرط الثاني: أن يكون أصل العمل الذي رتب عليه الثواب أو العقاب ثاباً بدليل صحيح.
الشرط الثالث: أن لا يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسل مقاله، بل يكون متردداً غير جازم ، لكنه راج في باب الترغيب ، خائفٌ في باب الترهيب.
أما صيغة عرضه ؛ فلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يقول: روي عن رسول الله، أو ذكر عنه .... وما أشبه ذلك .
فإن كنت في عوام لا يفرقون بين ذكر وقيل وقال؛ فلا تأت به أبداً؛ لأن العامي يعتقد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قاله؛ فما قيل في المحراب؛ فهو عنده الصواب!
تنبيه:
هذا الباب – أي : باب اليوم الآخر وأشراط الساعة- ذكرت في أحاديث كثيرة فيها ضعف وفيها وضع، وأكثر ما تكون هذه في كتب الرقائق والمواعظ؛ فلذلك يجب التحرز منها، وأن نحذر العامة الذين يقع في أيديهم مثل هذه الكتب.
فمن ابتغاه وجده (1)............................................... .............................
قوله :" فمن ابتغاه" ؛ أي : طلبه:" وجده".
وهذا صحيح ؛ فالقرآن بين أيدينا ، وكتب الأحاديث بين أيدينا ، لكنها تحتاج إلى تنقيح وبيان الصحيح منها والضعيف، حتى يبني الناس ما يعتقدونه في هذا الباب على أساس سليم.
* * *





فصل
في الإيمان بالقدر
فصل
وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة (1) بالقدر (2)..............................................
(1) "الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة": سبق تعريفعها والكلام عنها في أول الكتاب
(2) القدر في اللغة؛ بمعنى: التقدير ؛ قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49)، وقال تعالى (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) (المرسلات:23) .
- أما القضاء؛ فهو في اللغة : الحكم.
ولهذا نقول : إن القضاء والقدر متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن تفرقا؛ على حد قول العلماء: هما كلمتان: إن اجتمعتا افترقتا، وإن افترقتا اجتمعتا.
فإذا قيل : هذا قدر الله ؛ فهو شامل للقضاء، أما إذا ذكرا جميعاً؛ فلكل واحد مهما معنى.
- فالتقدير : هو ما قدره الله تعالى في الأزل أن يكون في خلقه.
- وأما القضاء؛ هو ما قضى به الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، وعلى هذا يكون التقدير سابقاً.
- فإن قال قائل: متى ؟ قلنا : إن القضاء هو ما يقضيه الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، وإن القدر سابق عليه إذا اجتمعا؛ فإن هذا يعارض قوله تعالى ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: من الآية2)؛ فإن هذه الآية ظاهرها أن التقدير بعد الخلق؟
فالجواب على ذلك من أحد وجهين:
- إما أن نقول: إن هذا من باب الترتيب الذكري لا المعنوي، وإنما قدم الخلق على التقدير لتتناسب رؤوس الآيات.
- ألم تر إلى أن موسى أفضل من هارون ، لكن قدم هارون عليه في سورة طه في قوله تعالى عن السحرة: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) (طـه:70) ؛ لتتناسب رؤوس الآيات.
وهذا لا يدل على أن المتأخر في اللفظ متأخر في الرتبة.
- أو أن نقول : إن التقدير هنا بمعنى التسوية؛ إي خلقه على قدر معين؛ كقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (الأعلى:2) ؛ فيكون التقدير بمعنى التسوية.
وهذا المعنى أقرب من الأول؛ لأنه يطابق تماماً لقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) ؛ فلا إشكال.
*والإيمان بالقدر واجب، ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل حين قال: ما الإيمان؟ قال:" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره"[274]
وللإيمان بالقدر فوائد؛ منها:
أولاً: أنه من تمام الإيمان ، ولا يتم الإيمان إلا بذلك .
ثانياً: أنه من تمام الإيمان بالربوبية ؛ لأن قدر الله من أفعاله.
ثالثاً: رد الإنسان أموره إلى ربه؛ لأنه إذا علم أن كل شيء بقضائه وقدره؛ فإنه سيرجع إلى الله في دفع الضراء ورفعها، ويضيف السراء إلى الله ، ويعرف أنها من فضل الله عليه.
رابعاً: أن الإنسان يعرف قدر نفسه ، ولا يفخر إذا فعل الخير.
خامساً: هون المصائب على العبد؛ لأن الإنسان إذا علم أنها من عند الله ؛ هانت عليه المصيبة؛ كما قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )(التغابن: من الآية11)؛ قال علقمة رحمه الله :" هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله ، فيرضى ويسلم".
سادساً: إضافة النعم إلى مُسديها؛ لأنك إذا لم تؤمن بالقدر ؛ أضفت النعم إلى من باشر الإنعام، وهذا يوجد كثيراً في الذين يتزلفون إلى الملوك والأمراء والوزراء؛ فإذا أصابوا منهم ما يريدون؛ جعلوا الفضل إليهم، ونسوا فضل الخالق سبحانه.
صحيح أنه يجب على الإنسان أن يشكر الناس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام:" من صنع إليكم معروفاً؛ فكافئوه"[275]
، ولكن يعلم أن الأصل كل الأصل هو فضل الله عز وجل جعله على يد هذا الرجل.
سابعاً: أن الإنسان يعرف به حكمة الله عز وجل ؛ لأنه إذا نظر في هذا الكون وما يحدث في تغيرات باهرة؛ عرف بهذا حكمة الله عز وجل؛ بخلاف من نسي القضاء والقدر؛ فإنه لا يستفيد هذه الفائدة.
خيره وشره (1)............................................... ......................................
(1) الخير: ما يلائم طبيعة الإنسان ؛ بحيث يحصل هل به خير أو ارتياح وسرور ، وكل ذلك من الله عز وجل.
- والشر في القدر : ما لا يلائم طبيعة الإنسان ؛ بحيث يحصل له به أذية أو ضرر.
· ولكن ؛ إن قيل : كيف يقال : إن في قدر الله شراً؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الشر ليس إليه"؟[276]
·فالجواب على ذلك أن يقال: الشر في القدر ليس باعتبار تقدير الله له، لكنه باعتبار المقدور له ؛ لأن لدينا قدراً هو التقدير ومقدوراً؛ كما أن هناك خلقاً ومخلوقاً وإرادة ومراداً؛ فباعتبار تقدير الله له ليس بشر؛ بل هو خير، حتى وإن كان لا يلائم الإنسان ويؤذيه ويضره، لكن باعتبار المقدور؛ فنقول: المقدور إما خير وإما شر؛ فالقدر خير وإما شر؛ فالقدر خيره وشره يراد به المقدور خيره وشره.
ونضرب لهذا مثلاً في قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا )(الروم: من الآية41).
ففي هذه الآية بين الله عز وجل ما حدث من الفساد وسببه والغاية منه؛ فالفساد شر وسببه عمل الإنسان السيئ، والغاية منه ) لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم: من الآية41).
فكون الفساد يظهر في البر والبحر فيه حكمة ؛ فهو نفسه شر، لكن لحكمة عظيمة، بها يكون تقديره خيراً.
كذلك المعاصي والكفر شر، هو من تقدير الله، لكن لحكمة عظيمة، لولا ذلك لبطلت الشرائع، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثاً.
* والإيمان بالقدر خيره وشره لا يتضمن الإيمان بكل مقدور، بل المقدور ينقسم إلى كوني وإلى شرعي:
- فالمقدور الكوني: إذا قدر الله عليك مكروهاً؛ فلا بد أن يقع؛ رضيت أم أبيت.
- والمقدور الشرعي قد يفعله الإنسان وقد لا يفعله، ولكن باعتبار المرضى به فيه تفصيل:
إن كان طاعة لله وجب الرضى به، وإن كان معصية؛ وجل سخطه وكراهته والقضاء عليه؛ كما قال الله عز وجل : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) .
وعلى هذا؛ يجب علينا الإيمان بالمقضي كله ؛ من حيث كونه قضاء لله عز وجل ، أما من حيث كونه مقضياً؛ فقد نرضى به وقد لا نرضى ؛ فلو وقع الكفر من شخص فلا نرضى بالكفر مه، لكن نرضى بكون الله أوقعه.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 15 Mar 2010, 05:26 AM   #60
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


* * *


فصل
في درجات الإيمان بالقدر
فصل
والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين (1) فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون (2) بعلمه القديم (3)............................................... .............................
(1) * إنما قسم المؤلف هذا التقسيم من أجل الخلاف؛ لأن الخلاف في القدر ليس شاملاً لكل مراتبه، وباب القدر من أشكل أبواب العلم والدين على الإنسان ، وقد كان النزاع فيه من عهد الصحابة رضي الله عنهم ، ولكنه ليس مشكلاً لمن أراد الحق .
(2) قوله: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون": ولم يذكر المؤلف أن الله علم ما يفعله هو ؛ لأن هذه المسألة ليس فيها خلاف، إنما ذكر ما فيه الخلاف، وهو : هل الله يعلم ما الخلق عاملون أو لا يعلمه إلا بعد وقوعه منهم؟
ومذهب السلف والأئمة أن الله تعالى عالم بذلك.
(3) القديم في اصطلاحهم: هو الذي لا أول لابتدائه؛ أي أنه لم يزل فيما مضى من الأزمنة التي لا نهاية لها عالماً بما يعمله الخلق؛ بخلاف القديم في اللغة؛ فقد يراد به ما كان قديماً نسبياً؛ كما في قوله تعالى : ( حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)(يّـس: من الآية39)، ومعلوم أن عرجون النخلة ليس بقديم أزلي، بل قديم بالنسبة لما بعده.
فالله تعلى موصوف بأنه عالم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الأزلي، الذي لا نهاية لأوله، عالم جل وعلا بأن هذا الإنسان سيعمل كذا في يوم كذا في مكان كذا بعلمه القديم الأولى؛ فيجب أن نؤمن بذلك:
ودليل ذلك من الكتاب والسنة والعقل:
أما الكتاب ؛ فما أكثر الآيات التي فيها العموم في علم الله ؛ مثل: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(النساء: من الآية32)، (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً )(غافر: من الآية7)، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )(الطلاق: من الآية12)... إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.
- أما في السنة فإن الرسول غليه الصلاة والسلام أخبر بان الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وبأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأقلام قد جفت وطويت الصحف... والأحاديث في هذا كثيرة.
- وأما العقل ؛ فإن من المعلوم بالعقل أن الله تعالى هو الخالق ، وأن ما سواه مخلوق، ولابد عقلاً أن يكون الخالق عالماً بمخلوقه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).
فالكتاب والسنة والعقل كلها تدل على أن الله تعالى عالم بما الخلق عاملون بعلمه الأولي.
الذي هو موصوف به أولاً وابداً (1)............................................... .....................
(1) قوله:" الذي هو موصوف به أولاً وأبداً" : ففي كونه موصوفاً به أولاً نفي للجهل ، وفي كونه موصوفاً به أبداً نفي النسيان.
ولهذا كان علم الله عز وجل غير مسبوق بجهل ولا ملحوق بنسيان؛
كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طـه:52) ، بخلاف علم المخلوق المسبوق بالجهل والملحوق بالنسيان.
إذاً ؛ يجب علينا أن نؤمن بأن الله عالم بما الخلق عاملون بعلم سابق موصوف به أولاً وأبداً.
علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال (1) ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق (2)............................................... ...............................................
(1) دليل ذلك ما ثبت في "الصحيحين"عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه..." وذكر أطوار الجنين، وفيه :" ثم يبعث الله ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد....." وذكر تمام الحديث [277].
فالله عالم بذلك قبل أن يخلق الإنسان.
فطاعتنا معلومة لله، ومعاصينا معلومة لله، وأرزاقنا معلومة له، وآجالنا معلومة له، إذا مات الإنسان بسبب أو بغير سبب معلوم؛ فإنه لله معلوم ، ولا يخفى عليه؛ بخلاف علم الإنسان بأجله؛ فإنه لا يعرف أجله؛ فلا يعرف أين يموت، ولا متى يموت، ولا يعرف بأي سبب يموت، ولا يعرف على أي حال يموت؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
وهذا هو الشيء الأول من الدرجة الأولى.
علم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال (1) ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق (1)............................................... ..........................................
(1) دليل ذلك ما ثبت في الصحيحين" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه...." وذكر أطوار الجنين ، وفيه :" ثم يبعث الله ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له : أكتب علمه ورزقه وأجله وشقي أو سعيد..." وذكر تمام الحديث [278].
فالله عالم بذلك قبل أن يخلق الإنسان.
فطاعتنا لله، ومعاصينا معلومة لله، وأرزاقنا معلومة له، وآجالنا معلومة له، إذا مات الإنسان بسبب أو بغير سبب معلوم ؛ فإنه لله معلوم، ولا يخفى عليه ؛ بخلاف علم الإنسان بأجله؛ فإنه لا يعرف أجله؛ فلا يعرف أين يموت، ولا متى يموت، ولا يعرف بأي سبب يموت ولا يعرف على أي حال يموت؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
وهذا الشيء الأول من الدرجة الأولى.
(2) هذا الشيء الثاني من الدرجة الأولى، وهو أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.
· اللوح المحفوظ : لا نعرف ماهيته؛ من أي شيء؛ أمن خشب ، أم من حديد، أم من ذهب، أم من فضة، أم من زمرد؟ فالله أعلم بذلك؛ إنما نؤمن بأن هناك لوحاً كتب الله فيه مقادير كل شيء، وليس لنا الحق في أن نبحث وراء ذلك، لكن لو جاء في الكتاب والسنة ما يدلنا على شيء؛ فالواجب أن نعتقده.
· ووصف بكونه محفوظاً؛ لأنه محفوظ من أيدي الخلق؛ فلا يمكن أن يلحق أحد به شيئاً أبداً ثانياً : محفوظ من التغيير؛ فالله عز وجل لا يغير فيه شيئاً؛ لأنه كتبه عن علم منه؛ كما سيذكره المؤلف، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله:" إن المكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير أبداً"، وإنما يحصل التغيير في الكتب التي بأيدي الملائكة.
· قوله " مقادير الخلق"؛ أي : مقادير المخلوقات كلها، وظاهر النصوص انه شمل ما يفعله الإنسان، وما يفعله البهائم، وأنه عام وشامل.
ولكن؛ هل هذه الكتابة إجمالية أو تفصيلية؟
قد نقول : إننا لا نجزم بأنها تفصيلية أو إجمالية.
فمثلاً : القرآن الكريم: هل هو مكتوب في اللوح المحفوظ بهذه الآيات والحروف أو أن المكتوب في اللوح ذكره وأنه سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيكون نوراً وهدىً للناس وما اشبه ذلك؟
ففيه احتمال : إن نظرنا على ظاهر النصوص؛ قلنا : إن ظاهرها أن القرآن كله مكتوب جملة وتفصيلاً ، وإن نظرنا إلى أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بالقرآن حين نزوله؛ قلنا : إن الذي كتب في اللوح المحفوظ ذكر القرآن ، ولا يلزم من كون ذكره في اللوح المحفوظ أن يكون قد كتب فيه؛ كما قال الله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء:196) ؛ يعني : كتب الأولين، ومعلوم أن القرآن لم يوجد نصه في الكتب السابقة وإنما وجد ذكره، ويمكن أن نقول مثلها في قوله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (البروج:21) (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج:21-22)؛ أي: ذكره في هذا اللوح.
فالمهم أن نؤمن بأن مقادير الخلق مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن هذا اللوح لا يتغير ما كتب فيه؛ لأن الله أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فأول ما خلق الله القلم قال له : أكتب. قال : ما أكتب؟(1) ..............................................
(1) قوله :" فأول ما خلق الله القلم ؛ قال له : "أكتب": فأمره أن يكتب ؛ مع أن القلم جماد.
فكيف يوجه الخطاب على الجماد؟!
والجواب عن ذلك : أن الجماد بالنسبة إلى الله عاقل يصح أن يوجه غليه الخطاب: قال الله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11) ؛ فوجه الخطاب إليهما ، وذلك جوابهما، وكان الجواب بجمع العقلاء طائعين دون طائعات.
وقال تعالى : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء:69) فكانت كذلك.
وقال تعالى : ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ )(سـبأ: من الآية10)؛ فكانت الجبال تؤوب معه.
* والحاصل أن الله أمر القلم أن يكتب، وقد امتثل القلم، لكنه أشكل عليه ماذا يكتب؛ لأن الأمر مجمل، فقال :" ما أكتب؟" أي: أي شيء أكتب؟
قال (1) اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة (2) فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطاه لم يكن ليصيبه (3)............................................... .................................................. .....
(1) أي: الله.
(2) * اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة": فكتب القلم بأمر الله ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فانظر كيف علم القلم ماذا يكون إلى يوم القيامة، فكتبه؛ لأن الله أمر الله عز وجل لا يرد.
وقوله:" ما هو كائن إلى يوم القيامة": يشكل ما كان من فعل الله تعالى وما كان من أفعال الخلق.
(3) * إذا آمنت بهذه الجملة؛ اطمأننت : ما أصاب الإنسان ؛ لم يكن ليخطئه أبداً.
ومعنى " ما أصاب": يحتمل أن المعنى: ما قدر أن يصيبه؛ فإنه لن يخطئه، ويحتمل أن ما أصابه بالفعل لا يمكن أن يخطئه، حتى لو تمنى الإنسان ، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان.
وما اخطاه لم يكن ليصيبه أي: ما قدر أن يخطئه فإنه لم يكن ليصيبه، أو المعنى: ما أخطاه بالفعل، لأنه معروف أنه غير صائب، ولو تمنى الإنسان ، وهم معنيان صحيحان لا يتنافيان.
جفت الأفلام (1) وطويت الصحف (2) ، كما (3) قال سبحانه وتعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ(4) أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ(5) إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ(6) إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(7)) .................................
(1) "الأقلام": هي أقلام القدر التي كتب الله بها المقادير ؛ جفت وانتهت.
(2) * وطويت الصحف،وهذا كناية عن أن الأمر انتهى.
وفي صحيح مسلم"[279] عن جابر رضي الله عنه ؛ قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم؛ قال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم؛ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما نستقبل ؟ قال :"لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قال: ففيم العمل؟ قال: " اعملوا ؛ فكل ميسر".
(3) "كما" الكاف في مثل هذا التعبير للتعليل.
(4) (الم تعلم) أيها المخاطب.
(5) (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ): وهذا عام؛ علم لما فيهما من أعيان وأوصاف وأعمال وأحوال.
(6) (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) وهو اللوح المحفوظ
(7) (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )أي : الكتابة على الله أمر يسير.
وقال (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْض)ِ (1)وَلا فِي أَنْفُسِكُم(2)ْ إِلَّا فِي كِتَاب(ٍ3) مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) وهذا التقدير التابع لعمله سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق حسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له : اكتب ، رزقه، وعمله، وشقي أم سعيد ونحو ذلك(4)............................................ ..........
(1)( فِي الْأَرْضِ) :كالجدب والزلازل والفيضانات وغيرها.
(2)( وَلا فِي أَنْفُسِكُم):كالمرض والأوبئة المهلكة وغير ذلك.
(3) (إِلَّا فِي كِتَابٍ): وهو اللوح المحفوظ.
(4)(نبرأها): أي من قبل أن نخلقها، والضمير في (نبرأها): يحتمل أن يعود على المصيبة، ويحتمل أن يعود على الأنفس، ويحتمل أن يعود على الأرض، والكل صحيح؛ فالمصيبة قد كتبت قبل أن يخلقها الله عز وجل، وقبل أن يخلق النفس المصابة، وقبل أن يخلق الأرض.

وفي " صحيح مسلم"[280]عن عبد الله بن عمرو؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.قال : وكان عرشه على الماء"
(5)قوله :" في مواضع"؛ مواضع غير اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق حسد الحنين قبل نفخ الروح فيه ؛ بعث إليه ملكاً ، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أم سعيد ونحو ذلك".
· فهذان موضعان: الأول: اللوح المحفوظ، وسبق دليل ذلك وتفصيل القول فيه.
والثاني: الكتابة العمرية التي تكون للجنين في بطن أمه، وسبق دليلها في حديث ابن مسعود رضي الله عنه [281].
والموضع الثالث: ما أشار إليه بقوله:" ونحو ذلك"، وهو التقدير الحولي الذي يكون في ليلة القدر؛ فإن ليلة القدر يكتب فيها ما يكون في تلك السنة؛ كما قال تعالى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدخان4-5).
فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً ومنكروه اليوم قليل(1) وأما الدرجة الثانية (2) فيهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه(3)......................................... ..
(1) * "هذا التقدير" ؛ يعني : العلم والكتابة، وينكره غلاة القدرية قديماً، ويقولون : إن الله لا يعلم أفعال العبد إلا بعد وجودها، وأنها لم تكتب ، ويقولون: إن الله لا يعلم أفعال العبد إلا بعد وجودها ، وأنها لم تكتب ويقولون: إن الأمر أنف؛ أي: مستأنف، لكن متأخروهم أقروا بالعلم والكتابة، وانروا المشيئة والخلق، وهذا بالنسبة لأفعال المخلوقين.
أما بالنسبة لأفعال الله ؛ فلا أحد ينكر أن الله عالم بها قبل وقوعها.
وهؤلاء الذين ينكرون علم الله بأفعال العبد حكمهم في الشرع أنهم كفار؛ لأنهم كذبوا قول الله تعالى ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: من الآية282)، غيرها من الآيات، وخالفوا المعلوم بالضرورة من الدين.
(2) يعني: من درجات الإيمان بالقدر.
(3) يعني: أن تؤمن بأن مشيئة الله نافذة في كل شيء، سواء كان مما يتعلق بفعله أو يتعلق بأفعال المخلوقين، وأن قدرته شاملة، ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً)(فاطر: من الآية44).
(4) وهذه الدرجة تتضمن شيئين؛ المشيئة و الخلق:
- أما المشيئة فيجب أن نؤمن بأن مشيئة الله تعالى نافذة ف يكل شيء، وأن قدرته شاملة لكل شيء من أفعاله وأفعال المخلوقين.
- وأما كونها شاملة لأفعاله ؛ فالأمر فيها ظاهر.
- وأما كونها شاملة لأفعال المخلوقين فلأن الخلق كلهم ملك لله تعالى ، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء.
- والدليل على هذا:
- قوله تعالى : ( فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)(الأنعام: من الآية149).
- وقوله سبحانه :(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً )(هود: من الآية118).
- وقوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)(البقرة: من الآية253).
- فهذه الآيات تدل على أن أفعال العباد متعلقة بمشيئة الله.
- وقال تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ )(الإنسان: من الآية30).
- وهذه تدل على أن مشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله وتابعة لها.
لا يكون في ملكه ما لا يريد (1) وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات (2)......
(1)هذه العبارة تحتاج إلى تفصيل: لا يكون في ملكه ما لا يريد بالإرادة الكونية، أما بالإرادة الشرعية، فيكون في ملكه ما لا يريد.
وحينئذ ؛ نحتاج إلى أن نقسم الإرادة إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية:
- فالإرادة الكونية بمعنى المشيئة، ومثالها قول نوح عليه السلام لقومه: (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ )(هود: من الآية34).
- والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، مثلها قوله تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ )(النساء: من الآية27).
- وتختلف الإرادتان في موجبهما وفي متعلقهما:
- ففي المتعلق: الإرادة الكونية تتعلق فيما وقع ، سواء أحبه أم كرهه، والإرادة الشرعية تتعلق فيما أحبه، سواء وقع أم لم يقع.
وفي موجبهما: الإرادة الكونية يتعين فيها وقوع المراد، والإرادة الشرعية لا يتعين فيها وقوع المراد.
وعلي هذا يكون قول المؤلف :" ولا يكون في ملكه ما لا يريد"؛ يعني به: الإرادة الكونية.
* فإن قال قائل : هل المعاصي مرادة لله؟
فالجواب: أما بالإرادة الشرعية؛ فليست مرادة له؛ لأنه لا يحبها، وأما بالإرادة الكونية؛ فهي مرادة له سبحانه؛ لأنها واقعة بمشيئته.
(2)كل شيء؛ فالله قادر عليه من الموجودات؛ فيعدمها أو يغيرها ومن المعدومات ؛ فيوجدها.
فالقدرة تتعلق في الموجود بإيجاده أو إعدامه أو تغييره، وفي المعدوم بإعدامه أو إيجاده.
فمثلاً ، كل موجود ؛ فالله قدر أن يعدمه، وقادر أن يغيره؛ أي: ينقله من حال إلى حال، وكل معدوم؛ فالله قدر على أن يوجده؛ مهما كان؛ كما قال الله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة: من الآية20).
· ذكر بعض العلماء استثناء من ذلك، وقال : إلا ذاته؛ فليس عليها بقادر! وزعم أن العقل يدل على ذلك.
فنقول : ماذا تريد بانه غير قادر على ذاته؟
- إن أردت أنه غير قادر على أن يعدم نفسه أو يلحقها نقصاً؛ فنحن نوافقك على أن الله لا يلحقه النقص أو العدم، لكننا لا نوافقك على أن هذا مما تتعلق به القدرة؛ لأن القدرة إنما تتعلق بالشيء الممكن، أما لاشيء الواجب أو المستحيل ؛ فهذا لا تتعلق به القدرة أصلاً؛ لأن الواجب مستحيل العدم، والمستحيل مستحيل الوجود.
- وإن أردت بقولك: إنه غير قادر على ذاته: أنه غير قادر على أنه يفعل ما يشاء ؛ فلا يقدر أن يجيء أو نحوه! فهذا خطأ ، بل هو قادر على ذلك، وفاعل له، ولو قلنا : إنه ليس بقادر على مثل هذه الأفعال ؛ لكان ذلك من أكبر النقص الممتنع على الله سبحانه.
- وبهذا علم أن هذا الاستدراك من عموم القدرة في غير محله على كل تقدير.
- * وإنما نص المؤلف على هذا رداً على القدرية الذين قالوا: إن الله ليس بقادر على فعل العبد!! وإن العبد مستقل بعمله!
ولكن ما في الكتاب والسنة من شمول قدرة الله يرد عليهم.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كتاب العلم ... للشيخ محمد العثيمين محمد الغماري المكتــــــبة العــــــــــــــامة ( Public Library ) 62 16 Mar 2010 03:07 AM
كتاب نبذة في العقيدة الإسلامية ... للشيخ محمد العثيمين محمد الغماري المكتــــــبة العــــــــــــــامة ( Public Library ) 13 16 Mar 2010 12:53 AM
شرح ثلاثة الأصول ... للشيخ محمد العثيمين محمد الغماري المكتــــــبة العــــــــــــــامة ( Public Library ) 2 16 Mar 2010 12:46 AM
الكتاب : الخلاف بين العلماء/ للشيخ العلامة :محمد بن صالح بن محمد العثيمين ابومروان الليبي منهج السلف الصالح . The Salafi Curriculum 1 22 Sep 2009 06:29 PM

 
مايُكتب على صفحات المركز يُعبّر عن رأى الكاتب والمسؤولية تقع على عاتقه


علوم الجان - الجن - عالم الملائكة - ابحاث عالم الجن وخفاياه -غرائب الجن والإنس والمخلوقات - فيديو جن - صور جن - أخبار جن - منازل الجن - بيوت الجن- English Forum
السحر و الكهانة والعرافة - English Magic Forum - الحسد والعين والغبطة - علم الرقى والتمائم - الاستشارات العلاجية - تفسير الرؤى والاحلام - الطب البديل والأعشاب - علم الحجامة

الساعة الآن 03:55 AM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2011-2012
جميع الحقوق محفوظة لمركز دراسات وأبحاث علوم الجان العالمي