اعلانات
اعلانات     اعلانات
 


بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ : عَنْ أَبِي رُقَيَّةَ تَمِيمِ بْنِ أَوْسٍ الدّارِيِّ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ لِلَّهِ، وَلِكِتابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعامَّتِهِمْ». رَواهُ مُسْلِمٌ.

يُروى أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه كتَبَ إلى ابنِه مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ: (لا يكُنْ أخوك على قَطيعَتِك أقوى مِنك على صِلتِه، وعلى الإساءةِ أقوى مِنك على الإحسانِ) .


           :: هَدْيِه النبي صلى الله فِي الْعِلَاجِ بِشُرْبِ الْعَسَلِ، وَالْحِجَامَةِ، وَالْكَيِّ. (آخر رد :ابن الورد)       :: استكشاف قرية الجن الفروثي وتجربة جهاز كاشف الجن والأشباح بالموجات الكهرومغناطيسية . (آخر رد :ابن الورد)       :: محمود صلاح بتصريح صادم: الجن يتعامل معنا والمنظومة التي تدير العالم تستجلب الشياطين ! (آخر رد :ابن الورد)       :: محمود صلاح يتحدث عن أسرار عبدة الشيطان :" التاروت هو أمر شيطاني "! (آخر رد :ابن الورد)       :: محمود صلاح يتحدى المنجمين : 2024 فيها لقاء مع الفضائيين وظهور وباء الزومبي ! (آخر رد :ابن الورد)       :: ماهي حقيقة مثلث برمودا ؟ ولماذا تختفي الطائرات والسفن به ؟ (آخر رد :ابن الورد)       :: د. محمود صلاح يفجر مفاجآة في استوديو القاهرة اليوم بأجهزة اكتشاف الجن والأرواح . (آخر رد :ابن الورد)       :: دخول دار جربة المسكونة بجهاز تعقب الجن ووضع القرآن في البيت لن تصدقوا محل بي . (آخر رد :ابن الورد)       :: تل الجن .. فريق عمل للكشف عن حقيقة تل الجن . (آخر رد :ابن الورد)       :: دخلت أخطر مدينة يسكنها الجن في العالم | أحمد الله أني خرجت منها حي ! (آخر رد :ابن الورد)      

 تغيير اللغة     Change language
Google
الزوار من 2005:
Free Website Hit Counter

المكتــــــبة العــــــــــــــامة ( Public Library ) للكتب والأبحاث العلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16 Mar 2010, 06:35 AM   #161
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


قوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب }، أي لا يمتنع كاتب الكتابة إذا طلب منه ذلك.
قوله تعالى: { كما علمه الله } يحتمل أن تكون الكاف للتشبيه؛ فالمعنى حينئذ: أن يكتب كتابة حسب علمه بحيث تكون مستوفية لما ينبغي أن تكون عليه؛ ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل؛ فالمعنى: أنه لما علمه الله فليشكر نعمته عليه، ولا يمتنع من الكتابة.
قوله تعالى: { فليكتب }؛ الفاء للتفريع: واللام لام الأمر؛ ولكنها سكنت؛ لأنها وقعت بعد الفاء؛ وموضع: {فليكتب } مما قبلها في المعنى قال بعض العلماء: إنها من التوكيد؛ لأن النهي عن إباء الكتابة يستلزم الأمر بالكتابة؛ فهي توكيد معنوي؛ وقيل: بل هي تأسيس تفيد الأمر بالمبادرة إلى الكتابة، أو هي تأسيس توطئة لما بعدها؛ والقاعدة: أنه إذا احتمل أن يكون الكلام توكيداً، أو تأسيساً، حمل على التأسيس؛ لأنه فيه زيادة معنى؛ وبناءً على هذه القاعدة يكون القول بأنها تأسيس أرجح.
قوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق } أي يملي؛ وهما لغتان فصيحتان؛ فـ «الإملال» و«الإملاء» بمعنًى واحد؛ فتقول: «أمليت عليه»؛ و«أمللت عليه» لغة عربية فصحى - وهي في القرآن.
قوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }؛ لما أمر الله عز وجل بأن الذي يملي هو الذي عليه الحق دون غيره وجه إليه أمراً، ونهياً؛ الأمر: { وليتق الله ربه } يعني يتخذ وقاية من عذاب الله، فيقول الصدق؛ والنهي: { ولا يبخس منه شيئاً } أي لا ينقص لا في كميته، ولا كيفيته، ولا نوعه.
قوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً }، أي لا يحسن التصرف؛ { أو ضعيفاً }؛ الضعف هنا ضعف الجسم، وضعف العقل؛ وضعف الجسم لصغره؛ وضعف العقل لجنونه؛ كأن يكون الذي عليه الحق صغيراً لم يبلغ؛ أو كان كبيراً لكنه مجنون، أو معتوه؛ فهذا لا يملل؛ وإنما يملل وليه؛ { أو لا يستطيع أن يمل هو} أي لا يقدر أن يملي لخرس، أو غيره؛ وقوله تعالى: { أن يمل } مؤولة بمصدر على أنه مفعول به؛ والضمير: { هو } للتوكيد؛ وليست هي الفاعل؛ بل الفاعل مستتر في { يمل }.
قوله تعالى: { فليملل }: اللام هنا لام الأمر؛ وسكنت لوقوعها بعد الفاء؛ { وليه } أي الذي يتولى شؤونه من أب، أو جد، أو أخ، أو أم، أو غيرهم.
قوله تعالى: { بالعدل } متعلق بقوله تعالى: { فليملل } يعني إملاءً بالعدل بحيث لا يجور على من له الحق لمحاباة قريبه، ولا يجور على قريبه خوفاً من صاحب الحق؛ بل يجب أن يكون إملاؤه بالعدل؛ و «العدل» هنا هو الصدق المطابق للواقع؛ فلا يزيد، ولا ينقص.
قوله تعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم }، أي اطلبوا شهيدين من رجالكم.
وقوله تعالى: { من رجالكم } الخطاب للمؤمنين.
قوله تعالى: { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان }، أي إن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان؛ وهذا يدل على التخيير مع ترجيح الرجلين على الرجل والمرأتين.
وقوله تعالى: { فرجل وامرأتان }: الجملة جواب الشرط في قوله تعالى: { فإن لم يكونا... }؛ والفاء هنا رابطة للجواب؛ و «رجل» خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالشاهد رجل، وامرأتان.
وقوله تعالى: { فرجل } أي فذَكَر بالغ؛ و{ امرأتان } أي أنثيان بالغتان؛ لأن الرجل والمرأة إنما يطلقان على البالغ.
قوله تعالى: { ممن ترضون من الشهداء }: الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة؛ أي رجل وامرأتان كائنون ممن ترضون من الشهداء؛ والخطاب في قوله تعالى: { ترضون } موجه للأمة؛ يعني بحيث يكون الرجل والمرأتان مرضيين عند الناس؛ لأنه قد يُرضى شخص عند شخص ولا يُرضى عند آخر؛ فلا بد أن يكون هذان الشاهدان؛ أو هؤلاء الشهود - أي الرجل والمرأتان - ممن عرف عند الناس أنهم مرضيون؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب»(204)؛ إذاً العبرة بالرضى عند عموم الناس؛ لا برضى المشهود له؛ لأنه قد يرضى بمن ليس بمرضي.
وقوله تعالى: { من الشهداء }: بيان لـ «مَنْ» الموصولة؛ لأن الاسم الموصول من المبهمات؛ فيحتاج إلى بيان؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً» فهذا مبهم؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً من الطلاب» صار مبيناً.
قوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } فيها قراءات؛ القراءة الأولى بفتح همزة { أنْ }؛ وعلى هذا يجوز قراءتان في قوله تعالى: { فتذكر }: تخفيف الكاف: { فتذْكِرَ }، وتشديدها: { فتذَكِّرَ }؛ مع فتح الراء فيهما؛ والقراءة الثالثة: بكسر همزة { إن } مع ضم الراء في قوله تعالى: { فتذكِّرُ }، وتشديد الكاف.
وقوله تعالى: { فتذكر إحداهما الأخرى } من التذكير؛ وهو تنبيه الإنسان الناسي على ما نسي؛ ومن غرائب التفسير أن بعضهم قال: { فتذكر } معناه تجعلها بمنزلة الذَّكَر - لا سيما على قراءة التخفيف؛ أي تكون المرأتان كالذَّكَر؛ وهذا غريب؛ لأنه لا يستقيم مع قوله تعالى: { أن تضل إحداهما } فالذي يقابل الضلال بمعنى النسيان: التذكير - أي تنبيه الإنسان على نسيانه.
وفي قوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } من البلاغة: إظهار في موضع الإضمار؛ لأنه لم يقل: فتذكرها الآخرى؛ لأن النسيان قد يكون متفاوتاً، فتنسى هذه جملة، وتنسى الأخرى جملة؛ فهذه تذكر هذه بما نسيت؛ وهذه تذكر هذه بما نسيت؛ فلهذا قال تعالى: { فتذكر إحداهما الأخرى }: لئلا يكون المعنى قاصراً على واحدة هي الناسية، والأخرى تذكرها.
قوله تعالى: { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } أي لا يمتنع الشهداء إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، أو أدائها؛ و{ ما } هذه زائدة لوقوعها بعد { إذا }؛ وفيها بيت مشهور يقول فيه:
(يا طالباً خذ فائدة ما بعد إذا زائدة) واستعمالات «ما» عشر؛ هي كما جاءت في بيت من الشعر:
(محامل «ما» عشر إذا رمت عدّها فحافظ على بيت سليم من الشعر) (ستفهم شرط الوصل فاعجب لنكرها بكفّ ونفي زيد تعظيم مصدر) ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في القرآن شيء زائد بمعنى أنه لا معنى له؛ بل زائد إعراباً فقط؛ أما في المعنى فليس بزائد.
قوله تعالى: { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله }، أي لا تمَلّوا أن تكتبوا الدَّين صغيراً كان أو كبيراً إلى أجله المسمى.
قوله تعالى: { ذلكم } المشار إليه كل ما سبق من الأحكام؛ { أقسط عند الله } أي أقوم، وأعدل؛ { وأقوم للشهادة } أي أقرب إلى إقامتها؛ { وأدنى ألا ترتابوا } أي أقرب إلى انتفاء الريبة عندكم.
قوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم }: فيها قراءتان؛ إحداهما بنصب { تجارةً }، و{ حاضرةً }؛ والثانية برفعهما؛ على الأول اسم { تكون } مستتر؛ والتقدير: إلا أن تكون الصفقة تجارة حاضرة؛ وجملة: { تديرونها } صفة ثانية لـ { تجارة }؛ أما على قراءة الرفع فإن { تجارة } اسم { تكون }؛ و{ حاضرة } صفة؛ وجملة: { تديرونها } خبر { تكون }.
والتجارة هي كل صفقة يراد بها الربح؛ فتشمل البيع، والشراء، وعقود الإجارات؛ ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى الإيمان، والجهاد في سبيله تجارة، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10] .
وأما قوله تعالى: { حاضرة } فهي ضد قوله تعالى: { إذا تداينتم بدين }؛ فالحاضر ما سوى الدَّين.
و قوله تعالى: { تديرونها } أي تتعاطونها بينكم بحيث يأخذ هذا سلعته، والآخر يأخذ الثمن، وهكذا.
قوله تعالى: { فليس عليكم جناح }: الفاء عاطفة، أو للتفريع؛ يعني ففي هذه الحال ليس عليكم إثم في عدم كتابتها؛ والضمير في قوله تعالى: { تكتبوه } يعود على التجارة؛ فهذه التجارة المتداولة بين الناس ليس على الإنسان جناح إذا لم يكتبها؛ لأن الخطأ فيها، والنسيان بعيد؛ إذ إنها حاضرة تدار، ويتعاطاها الناس بخلاف المؤجلة.
قوله تعالى: { وأشهدوا إذا تبايعتم } أي باع بعضكم على بعض.
قوله تعالى: { ولا يضار كاتب ولا شهيد }؛ مأخوذة من: الإضرار؛ يحتمل أن تكون مبنية للفاعل؛ فيكون أصلها «يضارِر» بكسر الراء الأولى؛ أو للمفعول؛ فيكون أصلها «يضارَر» بفتحها؛ ويختلف إعراب { كاتب }، و{ شهيد } بحسب بناء الفعل؛ فإن كانت مبنية للفاعل فـ { كاتب } فاعل؛ وإن كانت للمفعول فـ { كاتب } نائب فاعل؛ وهذا من بلاغة القرآن تأتي الكلمة صالحة لوجهين لا ينافي أحدهما الآخر.
قوله تعالى: { وإن تفعلوا } أي يضار الكاتب، أو الشهيد - على الوجهين { فإنه } أي الفعل - وهو المضارة؛ { فسوق بكم } أي خروج بكم عن طاعة الله إلى معصيته؛ وأصل «الفسق» في اللغة الخروج؛ ومنه قولهم: فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها.
قوله تعالى: { واتقوا الله } أي اتخذوا وقاية من عذاب الله؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
قوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ الواو هنا للاستئناف؛ ولا يصح أن تكون معطوفة على { اتقوا الله }؛ لأن تعليم الله لنا حاصل مع التقوى، وعدمها - وإن كان العلم يزداد بتقوى الله، لكن هذا يؤخذ من أدلة أخرى.
قوله تعالى: { والله بكل شيء عليم } يشمل كل ما في السماء، والأرض.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: العناية بما ذُكر من الأحكام؛ وذلك لتصدير الحكم بالنداء، ثم توجيه النداء إلى المؤمنين؛ لأنه هذا يدل على العناية بهذه الأحكام، وأنها جديرة بالاهتمام بها.
2 - ومنها: أن التزام هذه الأحكام من مقتضى الإيمان؛ لأنه لا يوجه الخطاب بوصف إلا لمن كان هذا الوصف سبباً لقبوله ذلك الحكمَ.
3 - ومنها: أن مخالفة هذه الأحكام نقص في الإيمان كأنه قال: { يا أيها الذين آمنوا } لإيمانكم افعلوا كذا؛ فإن لم تفعلوا فإيمانكم ناقص؛ لأن كل من يدَّعي الإيمان، ثم يخالف ما يقتضيه هذا الإيمان فإن دعواه ناقصة إما نقصاً كلياً، أو نقصاً جزئياً.
4 - ومنها: بيان أن الدين الإسلامي كما يعتني بالعبادات - التي هي معاملة الخالق - فإنه يعتني بالمعاملات الدائرة بين المخلوقين.
5 - ومنها: دحر أولئك الذين يقولون: إن الإسلام ما هو إلا أعمال خاصة بعبادة الله عز وجل، وبالأحوال الشخصية، كالمواريث، وما أشبهها؛ وأما المعاملات فيجب أن تكون خاضعة للعصر، والحال؛ وعلى هذا فينسلخون من أحكام الإسلام فيما يتعلق بالبيوع، والإجارات وغيرها، إلى الأحكام الوضعية المبنية على الظلم، والجهل.
فإن قال قائل: لهم في ذلك شبهة؛ وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، ورآهم يلقحون الثمار قال: «لو لم تفعلوا لصلح» فخرج شيصاً - أي فاسداً -؛ فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؛ قالوا: قلت كذا، وكذا؛ قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم»(205)؛ قالوا: «والمعاملات من أمور الدنيا، وليست من أمور الآخرة».
فالجواب: أنه لا دليل في هذا الحديث لما ذهبوا إليه؛ لأن الحادثة المذكورة من أمور الصنائع التي من يمارسها فهو أدرى بها، وتدرك بالتجارِب؛ وإلا لكان علينا أن نقول: لا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نصنع السيارات والمسجلات، والطوب، وكل شيء!!! أما الأحكام - الحلال، والحرام - فهذا مرجعه إلى الشرع؛ وقد وفى بكل ما يحتاج الإنسان إليه.
6 - ومن فوائد الآية: جواز الدَّين؛ لقوله تعالى: { تداينتم بدين } سواء كان هذا الدَّين ثمن مبيع، أو قرضاً، أو أجرة، أو صداقاً، أو عوض خلع، أو أي دين يكون؛ المهم أن في الآية إثبات الدَّين شرعاً.
7- ومنها: أن الدَّين ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مؤجل بأجل مسمى؛ ومؤجل بأجل مجهول؛ وغير مؤجل؛ لقوله تعالى: { بدين إلى أجل مسمى }؛ والدَّين إلى غير أجل جائز مثل أن أشتري منك هذه السلعة، ولا أعطيك ثمنها، ولا أعينه لك؛ فهذا دَين غير مؤجل؛ وفي هذه الحال لك أن تطالبني بمجرد ما ينتهي العقد؛ وأما الدَّين إلى أجل غير مسمى فلا يصح؛ وأُخذ هذا القسم من قوله تعالى: { مسمى } - مثل أن أقول لك: «اشتريت منك هذه السلعة إلى قدوم زيد» - وقدومه مجهول؛ لأن فيه غرراً؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم»(206)؛ والدين إلى أجل غير مسمى لا يكتب؛ لأنه عقد فاسد، والدَّين إلى أجل مسمى جائز بنص الآية.
8 - ومن فوائد الآية: جواز السلم - وهو تعجيل الثمن، وتأخير المثمن، مثل أن أشتري مائة صاع من البر إلى سنة، وأعطيك الدراهم؛ فيسمى هذا سلماً؛ لأن المشتري أسلم الثمن، وقدمه.
9 - ومنها: وجوب كتابة الدَّين المؤجل؛ لقوله تعالى: { فاكتبوه }؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى في آخر الآية: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها }؛ وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الكتابة - أعني كتابة الدين المؤجل؛ لقوله تعالى في الآية التي تليها: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283] ؛ وينبغي على هذا القول أن يستثنى من ذلك ما إذا كان الدائن متصرفاً لغيره، كوليّ اليتيم فإنه يجب عليه أن يكتب الدَّين الذي له لئلا يضيع حقه.
10 - ومنها: حضور كل من الدائن، والمدين عند كتابة الدَّين؛ لقوله تعالى: { بينكم }؛ ولا تتحقق البينية إلا بحضورهما.
11 - ومنها: أنه لابد أن يكون الكاتب محسناً للكتابة في أسلوبه، وحروفه؛ لقوله تعالى: { وليكتب بينكم كاتب }.
12 - ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب بالعدل بحيث لا يجحف مع الدائن، ولا مع المدين؛ و«العدل» هو ما طابق الشرع؛ لقوله تعالى: { وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلًا } [الأنعام: 115] .
ويتفرع على ذلك أن يكون الكاتب ذا علم بالحكم الشرعي فيما يكتب.
13 - ومنها: أنه لا يشترط تعيين كاتب للناس بشخصه، وأن أيّ كاتب يتصف بإحسان الكتابة والعدل، فكتابته ماضية نافذة؛ لقوله تعالى: { كاتب بالعدل }؛ وهي نكرة لا تفيد التعيين.
14 - ومنها: تحريم امتناع الكاتب أن يكتب كما علمه الله؛ لقوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }؛ ولهذا أكد هذا النهي بالأمر بالكتابة في قوله تعالى { فليكتب } - هذا ظاهر الآية - ويحتمل أن يقال: إنْ توقف ثبوت الحق على الكتابة كانت الكتابة واجبة على من طلبت منه؛ وإلا لم تجب، كما قلنا بوجوب تحمل الشهادة إذا توقف ثبوت الحق عليها.
15 - ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب على حسب علمه من الشريعة؛ لقوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }.
16 - ومنها: تذكير هؤلاء الكتبة بنعمة الله، وأن مِن شُكر نعمة الله عليهم أن يكتبوا؛ لقوله تعالى: { كما علمه الله }؛ وهذا مبني على أن الكاف هنا للتعليل.
فإن قيل: «إنها للتشبيه» صار المعنى: أنه مأمور أن يكتب على الوجه الذي علمه الله من إحسان الخط، وتحرير الكتابة.
17 - ومنها: أن الإنسان لا يستقل بالعلم؛ لقوله تعالى: { كما علمه الله }؛ حتى في الأمور الحسية التي تدرك عن طريق النظر، أو السمع، أو الشم، لا يستطيع الإنسان أن يعلمها إلا بتعليم الله عز وجل.
18 - ومنها: مبادرة الكاتب إلى الكتابة بدون مماطلة؛ لقوله تعالى: { فليكتب }.
19 - ومنها: أن الرجوع في مقدار الدَّين، أو نوعه، أو كيفيته؛ بل في كل ما يتعلق به إلى المدين الذي عليه الحق - لا إلى الدائن؛ لقوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق }؛ لأنه لو أملل الذي له الحق فربما يزيد.
لكن إذا قال قائل: وإذا أملى الذي عليه الحق فربما ينقص؟!
فالجواب: أن الله حذره من ذلك في قوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }.
20 - ومنها: أن من عليه الحق لا يكتب؛ وإنما يكتب كاتب بين الطرفين؛ لأن الذي عليه الحق وظيفته الإملال؛ ولكن لو كتب صحت كتابته؛ إلا أن ذلك لا يؤخذ من هذه الآية؛ يؤخذ من أدلة أخرى، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135] ؛ وكتابة الإنسان على نفسه إقرار؛ وإقرار الإنسان على نفسه مقبول.
21 - ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله عز وجل على من عليه الحق، وأن يتحرى العدل؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه }.



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 06:36 AM   #162
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


22 - ومنها: أنه ينبغي في مقام التحذير أن يُذْكَر كلُّ ما يكون به التحذير؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }؛ ففي مقام الألوهية يتخذ التقوى عبادة؛ لأن الألوهية هي توحيد العبادة؛ وفي مقام الخوف من الانتقام يكون مشهده الربوبية؛ لأن الرب عز وجل خالق مالك مدبر.
23 - ومنها: أنه يحرم على من عليه الدَّين أن يبخس منه شيئاً لا كمية، ولا نوعاً، ولا صفة؛ لقوله تعالى: { ولا يبخس منه شيئاً }.
24 - ومنها: أن الوليّ يقوم مقام المولَّى عليه في الإملال؛ لقوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل }.
25 - ومنها: أن أسباب القصور ثلاثة: السفه؛ والضعف؛ وعدم الاستطاعة؛ السفه: ألا يحسن التصرف؛ والضعيف يشمل الصغير، والمجنون؛ ومن لا يستطيع يشمل من لا يقدر على الإملال لخرس، أو عييّ، أو نحو ذلك.
26 - ومنها: قبول قول الوليّ فيما يقر به على مولّاه؛ لقوله تعالى: { فليملل وليه }.
27 - ومنها: وجوب مراعاة العدل على الوليّ؛ لقوله تعالى: { بالعدل }؛ فلا يبخس من له الحق؛ ولا يبخس من عليه الحق ممن هو مولى عليه.
28 - ومنها: طلب الإشهاد على الحق.
29 - ومنها: أن البينة إما رجلان؛ وإما رجل، وامرأتان؛ وجاءت السنة بزيادة بينة ثالثة - وهي الرجل، ويمين المدّعي؛ وأنواع طرق الإثبات مبسوطة في كتب الفقهاء.
30 - ومنها: أنه لابد في الشاهدين من كونهما مرضيين عند المشهود له، والمشهود عليه.
31 - ومنها: قصر حفظ المرأة وإدراكها عن حفظ الرجل، وهذا باعتبار الجنس؛ فلا يرد على ذلك من نبوغ بعض النساء، وغفلة بعض الرجال.
32 - ومنها: جواز شهادة الإنسان فيما نسيه إذا ذُكِّر به، فذكر؛ لقوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى }؛ فإن ذُكِّر ولم يذكر لم يشهد.
33 - ومنها: تحريم امتناع الشاهد إذا دُعي للشهادة؛ وهذا تحته أمران:
الأمر الأول: أن يُدعى لتحمل الشهادة؛ وقد قال العلماء في هذا: إنه فرض كفاية؛ وظاهر الآية الكريمة أنه فرض عين على من طلبت منه الشهادة بعينه؛ وهو الحق؛ لأنه قد لا يتسنى لطالب الشهادة أن يشهد له من تُرضى شهادته.
الأمر الثاني: أن يُدعى لأداء الشهادة؛ فيجب عليه الاستجابة؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة: 283] .
34 - ومن فوائد الآية: النهي عن السأَم في كتابة الدَّين سواء كان صغيراً، أو كبيراً؛ والظاهر أن النهي هنا للكراهة.
35 - ومنها: أنه إذا كان الدَّين مؤجلاً فإنه يبيَّن الأجل؛ لقوله تعالى: { إلى أجله }.
36 - ومنها: أن ما ذُكر من التوجيهات الإلهية في هذه الآية فيه ثلاثة فوائد:
الأولى: أنه أقسط عند الله - أي أعدل عنده لما فيه من حفظ الحق لمن هو له، أو عليه.
الثانية: أنه أقوم للشهادة؛ لأنه إذا كتب لم يحصل النسيان.
الثالثة: أنه أقرب لعدم الارتياب.
37 - ومن فوائد الآية: العمل بالكتابة، واعتمادها حجةً شرعية إذا كانت من ثقة معروف خطه؛ ويؤيد هذا قوله (صلى الله عليه وسلم): «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»(207).
38 - ومنها: أن الشهادات تتفاوت؛ فمنها الأقوم؛ ومنها القيم؛ ومنها ما ليس بقيم؛ فالذي ليس بقيم هو الذي لم تتم فيه شروط القبول؛ والقيم هو الذي صار فيه أدنى الواجب؛ والأقوم ما كان أكمل من ذلك؛ بدليل قوله تعالى: { وأقوم للشهادة }. فإذا قيل: ما مثال القيم؟ فنقول: مثل شاهد، ويمين؛ لكن أقوم منه الشاهدان؛ لأن الشاهدين أقرب إلى الصواب من الشاهد الواحد؛ ولأن الشاهدين لا يحتاج معهما إلى يمين المدعي؛ فكانت شهادة الشاهدين أقوم للشهادة.
39 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب كل ما يكون له فيه ارتياب، وشك؛ لقوله تعالى: { وأدنى ألا ترتابوا }.
ويتفرع على هذه الفائدة: أن دين الإسلام يريد من معتنقيه أن يكونوا دائماً على اطمئنان، وسكون.
ويتفرع أيضاً منها: أن دين الإسلام يحارب ما يكون فيه القلق الفكري، أو النفسي؛ لأن الارتياب يوجب قلق الإنسان، واضطرابه.
ويتفرع عليه أيضاً: أنه ينبغي للإنسان إذا وقع في محلّ قد يستراب منه أن ينفي عن نفسه ذلك؛ وربما يؤيد هذا الأثرُ المشهور: «رحم الله امرئ كفّ الغيبة عن نفسه»(208)؛ لا تقل: إن الناس يحسنون الظن بي، ولن يرتابوا في أمري؛ لا تقل هكذا؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فربما لا يزال يوسوس في صدور الناس حتى يتهموك بما أنت منه بريء.
40 - ومن فوائد الآية: جواز الاتجار؛ لقوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة حاضرة }؛ ولكن هذا الإطلاق مقيد بالشروط التي دلت عليها النصوص؛ فلو اتجر الإنسان بأمر محرم فهذا لا يجوز من نصوص أخرى؛ ولو رابى الإنسان يريد التجارة والربح قلنا: هذا حرام من نصوص أخرى؛ إذاً هذا المطلق الذي هو التجارة مقيد بالنصوص الدالة على أن التجارة لا بد فيها من شروط.
41 - ومنها: أن التجارة نوعان: تجارة حاضرة، وتجارة غير حاضرة؛ فأما الحاضرة فهي التي تدار بين الناس بدون أجل؛ وأما غير الحاضرة فهي التي تكون بأجل، أو على مسمى موصوف غير حاضر.
42 - ومنها: أن الأصل في التجارة الدوران؛ لقوله تعالى: { تديرونها بينكم }؛ فأما الشيء الراكد الذي لا يدار فهل يسمى تجارة؟ يرى بعض العلماء أنه ليس تجارة؛ ولذلك يقولون: ليس فيه زكاة، وأن الزكاة إنما هي في المال الذي يدار - يعني يتداول؛ ويرى آخرون أنها تجارة؛ ولكنها تجارة راكدة؛ وهذا يقع كثيراً فيما إذا فسدت التجارة، وكسد البيع؛ فربما تبقى السلع عند أصحابها مدة طويلة لا يحركونها؛ لكن هي في حكم المدارة؛ لأن أصحابها ينتظرون أيّ إنسان يأتي، فيبيعون عليه.
43 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجب كتابة التجارة الحاضرة المدارة - ولو كان ثمنها غير منقود؛ بخلاف ما إذا تداين بدين إلى أجل مسمى؛ فإنه تجب كتابة الدَّين على ما سبق من الخلاف في ذلك؛ لقوله تعالى: { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها}.
44 - ومنها: الأمر بالإشهاد عند التبايع؛ وهل الأمر للوجوب؛ أو للاستحباب؛ أو للإرشاد؟ فيه خلاف؛ والراجح أنه ليس للوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى، ولم يُشهِد(209)؛ والأصل عدم الخصوصية؛ ولأن إيجابه فيه شيء من الحرج، والمشقة؛ لكثرة تداول التجارة؛ اللهم إلا أن يكون التصرف للغير، كالوكيل، والوليّ؛ فربما يقال بوجوب الإشهاد في المبايعات الخطيرة.
45 - ومن فوائد الآية: أن الإشهاد ينبغي أن يكون حين التبايع؛ بمعنى أنه لا يتقدم، ولا يتأخر؛ لقوله تعالى: { إذا تبايعتم }؛ لأن العقد لم يتم إذا كان الإشهاد قبله؛ وإذا كان بعده فربما يكون المبيع قد تغير.
46 - ومنها: تحريم مضارة الكاتب، أو الشهيد: سواء وقع الإضرار منهما، أو عليهما.
47 - ومنها: أن المضارة سواء وقعت من الكاتب، أو الشاهد، أو عليهما، فسوق؛ والفسق يترتب عليه زوال الولايات العامة والخاصة إلا ما استثني؛ والفاسق يُهجر إما جوازاً؛ أو استحباباً، أو وجوباً - على حسب الحال - إن كان في الهجر إصلاح له.
فإن قال قائل: أفلا يشكل هذا على القاعدة المعروفة أن الفسق لا يتصف به الفاعل إلا إذا تكرر منه، أو كان كبيرة؟.
فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى حكم على المضارة بأنها فسوق؛ والقرآن يَحكم، ولا يُحكَم عليه.
48 - ومن فوائد الآية: أن هذا الفعل فسوق لا يخرج من الإيمان؛ لأنه لم يصف الفاعل بالكفر؛ بل قال تعالى: { فإنه فسوق بكم }؛ ومجرد الفسق لا يخرج من الإيمان؛ ولكن الفسق المطلق يخرج من الإيمان؛ لأن الخروج عن الطاعة خروجاً عاماً يخرج من الإيمان، ويوجب الخلود في النار، كما قال الله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} [السجدة: 18 - 20] .
49 - ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.
50 - ومنها: امتنان الله عز وجل على عباده بالتعليم، حيث قال تعالى: { ويعلمكم الله }.
51 - ومنها: أن الدِّين الإسلامي شامل للأحكام المتعلقة بعبادة الله عز وجل، والمتعلقة بمعاملة عباد الله؛ لأنه بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التوجيهات قال تعالى: { ويعلمكم الله }؛ فيكون في ذلك إبطال لزعم من زعم أن الدين الاسلامي في إصلاح ما بين العبد وبين ربه؛ ولا علاقة له بالمعاملة بين الناس.
52 - ومنها: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ قال الله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [النحل: 78] .
53 - ومنها: ثبوت صفة العلم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ لأن المعلم عالم.
54 - ومنها: أن العلم من منة الله عز وجل على عباده؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }، وكما قال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164] ؛ ولا شك أن العلم من أكبر النعم، حيث قال الله عز وجل: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] ؛ والعلماء كذلك ورثة الأنبياء؛ فالعلم أفضل من المال - ولا مقارنة؛ وهو كالجهاد في سبيل الله؛ لأن الدِّين الإسلامي لم ينتشر إلا بالعلم، والسلاح؛ فالسلاح يذلل العدو؛ والعلم ينير له الطريق؛ ولهذا إذا ذلّ العدو للإسلام، وخضع لأحكامه، وبذل الجزية وجب الكف عنه، ولا يقاتَل؛ لكن العلم جهاد يجب أن يكون لكل أحد؛ ثم الجهاد بالسلاح لا يكون إلا للكافر المعلن كفره، ولا يكون للمنافق؛ والجهاد بالعلم يكون لهذا، ولهذا - للمنافق، وللكافر المعلن بكفره؛ والعلم أفضل بكثير من المال؛ والعلم جهاد في سبيل الله - ولا سيما في وقتنا الحاضر؛ فإن الناس قد انفتح بعضهم على بعض، واختلط بعضهم ببعض، وصاروا يأخذون الثقافات من يمين ويسار، واحتاج الناس الآن للعلم الراسخ المبني على الكتاب والسنة حتى لا يقع الناس في ظلمات بعضها فوق بعض؛ لذلك تجد رجلاً يمر به حديث، أو حديثان، ثم يقال: أنا ابن جلا، وطلاع الثنايا! من ينال مرتبتي! أنا الذي أفتي بعشرة مذاهب! ثم مع ذلك يندد بمن خالفه - ولو كان من كبار العلماء؛ وربما يضخم الخطأ الذي يقع منه - ولو كان ممن يشار إليه بالفضل، والعلم، والدِّين؛ وهذه خطيرة جداً؛ لأن العامي وإن كان وثق بشخص لا يهمه هذا الكلام؛ لكن كلما كرر الضرب على الحديد لابد أن يتأثر؛ لذلك نرى أن طلب العلم من أهم الأمور خصوصاً في هذا الوقت.
55 - ومن فوائد الآية: إثبات هذا الاسم من أسماء الله - وهو { عليم }؛ وإثبات ما دلّ عليه من الصفة - وهي العلم.
56 - ومنها: إثبات عموم علم الله؛ لقوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم }.
57 - ومنها: الرد على القدرية سواء الغلاة منهم، أو غيرهم؛ فإن غلاتهم يقولون: إن الله لا يعلم شيئاً من أفعال العباد حتى يقع؛ يقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: إن هؤلاء قليل - وهذا في عهده؛ ولا ندري الآن هل زادوا، أم نقصوا؛ لكن في الآية ردّ حتى على غير الغالية منهم - وهم الذين يقولون: إن الله يعلم؛ لكنه لم يُرد أفعال الإنسان، وأن الإنسان مستقل بإرادته، وفعله؛ وجه ذلك ما قاله الشافعي - رحمه الله: «ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا»؛ وعلى هذا نقول: في هذه الآية الكريمة دليل على أن أفعال العباد مرادة لله عز وجل؛ لأنها إن لم تكن مرادة فهي إما أن تقع على وفق علمه، أو على خلافه؛ فإن كان على خلافه فهو إنكار لعلمه؛ وإن كان على وفقه فلا بد أن تكون مرادة له؛ لأنه أراد أن تقع على حسب علمه.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 06:36 AM   #163
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


القرآن
)وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة:283)
التفسير:
{ 283 } قوله تعالى: { وإن كنتم على سفر } أي مسافرين؛ وذلك كقوله تعالى في آية الصيام: {ومن كان مريضاً أو على سفر} [البقرة: 185] ؛ وأتى بكلمة: { على } لتحقق هذا الأمر - وهو السفر؛ لأن { على } تدل على الاستعلاء؛ فكأنه متمكن من السفر، كالراكب على الراحلة؛ و «السفر» مفارقة الوطن؛ وبعضهم قال: مفارقة محل الإقامة؛ لأن الإنسان قد لا يستوطن؛ ولكن يقيم دائماً؛ والمفارقة قد تكون طويلة - ويسمى سفراً طويلاً؛ وقد تكون قصيرة - ويسمى سفراً قصيراً.
قوله تعالى: { ولم تجدوا كاتباً } أي يكتب بينكم؛ وهذا كما سبق يحتاج إليه فيما إذا تداينا بدين إلى أجل مسمى؛ فيكون المعنى: إن كنتم على سفر، وتداينتم بدَين إلى أجل مسمى ولم تجدوا كاتباً { فرهان مقبوضة}.
قوله تعالى: { فرهان مقبوضة } فيها قراءاتان؛ القراءة الأولى: { فرِهان } بكسر الراء، ومدّ الهاء؛ والثانية: { فرُهُن } بضم الراء، والهاء بدون مدّ؛ ولهذا تكتب بالألف في خط المصحف لكي تصلح للقراءتين؛ ومعنى { فرهان } أي فعليكم رهن؛ أو فالوثيقة رهن - أو رهان؛ وعلى هذا فتكون إما مبتدأ خبره محذوف؛ وإما خبر مبتدأ محذوف؛ والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط؛ وقرنت بالفاء؛ لأنها جملة اسمية؛ وإذا كان جواب الشرط جملة اسمية فإنه يقترن بالفاء وجوباً؛ ولا تحذف إلا شذوذاً، أو اضطراراً؛ ومن حذفها قول الشاعر:
(من يفعل الحسنات الله يشكرها) ........ ولم يقل: فالله يشكرها؛ ولكن هذا على سبيل الضرورة، أو الندرة، والشذوذ.
و «الرهان» جمع رهْن؛ و«الرهن» في اللغة الحبس؛ ومنه قوله تعالى: { كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38] أي محبوسة بما عملت؛ ولكنه في اصطلاح الفقهاء: توثقة دَين بعين يمكن استيفاؤه، أو بعضِهِ منها، أو من بعضها، مثل ذلك: زيد مدين لعمرو بعشرة آلاف ريال، فأرهنه سيارة تساوي عشرين ألف ريال؛ هنا يمكن استيفاء الدَّين من بعضه؛ لأن الرهن أكثر من الدَّين؛ مثال آخر: زيد مدين لعمرو بعشرين ألف ريال؛ فأرهنه سيارة تساوي عشرة آلاف ريال؛ فهنا يمكن استيفاء بعضه منها؛ لأن الدَّين أكثر من الرهن؛ فإذا كان الدَّين مساوياً للرهن، كما لو كان دينه عشرة آلاف ريال؛ فأرهنه سيارة تساوي عشرة آلاف ريال؛ فهنا يمكن استيفاء الدَّين كله من كل الرهن.
وقوله تعالى: { مقبوضة } أي يقبضها من يتوثق بها - وهو الطالب - من المطلوب الذي هو الراهن؛ والطالب الذي قبض الرهن يسمى مرتهناً؛ فهنا راهن، ومرتهن، ورهن، ومرهون به؛ فالرهن: العين؛ والراهن: معطي الرهن؛ والمرتهن؛ آخذ الرهن؛ والمرهون به: الدين؛ فأركان الرهن أربعة.
ولم يبين سبحانه وتعالى كيف القبض؛ فيرجع في ذلك إلى العرف؛ ومعناه: أن يكون الشيء في قبضة الإنسان، وتحت سيطرته.
قوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضاً } أي اتخذه أميناً؛ بمعنى أنه وثق منه أن لا ينكر، ولا يبخس، ولا يغير؛ والجملة شرطية جوابها قوله تعالى: { فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ والفاء في { فليؤد } رابطة لجواب الشرط؛ وهو قوله تعالى: { إن أمن... }؛ وجاءت الفاء رابطة مع أن جواب الشرط فعل مضارع؛ لأنه مقترن بلام الأمر الدالة على الطلب؛ ومتى كانت الجملة الجزائية طلبية وجب اقترانها بالفاء؛ واللام هنا جاءت ساكنة لوقوعها بعد الفاء؛ ولام الأمر تقع ساكنة إذا وقعت بعد الفاء، أو الواو، أو «ثم»؛ بخلاف لام التعليل فإنها تكون مكسورة على كل حال؛ و{ اؤتمن } فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله؛ و{ أمانته } أي ما ائتمن عليه.
قوله تعالى: { وليتق الله ربه }؛ «يتق» مجزومة بحذف حرف العلة - وهو الياء؛ والكسرة دليل عليها - وهنا أردف الاسم الأعظم: { الله } بقوله تعالى: { ربه } تحذيراً من المخالفة؛ لأن «الرب» هو الخالق المالك المدبر؛ فاخشَ هذا الرب الذي هو إلهك أن تخالف تقواه.
قوله تعالى: { ولا تكتموا الشهادة }؛ { لا } ناهية؛ و «الكتمان» الإخفاء؛ و «الشهادة» ما شهد به الإنسان؛ أي لا تخفوا ما شهدتم به لا في أصله، ولا في وصفه؛ في أصله بأن ينكر الشهادة رأساً؛ وفي وصفه بأن يزيد فيها، أو ينقص.
قوله تعالى: { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } أي من يخفيها أصلاً، أو وصفاً، فقد وقع قلبه في الإثم؛ وإنما أضاف الإثم إلى القلب؛ لأن الشهادة أمر خفيّ؛ فالإنسان قد يكتمها، ولا يُعْلَم بها؛ فالأمر هنا راجع إلى القلب؛ ولأن القلب عليه مدار الصلاح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»(210).
قوله تعالى: { والله بما تعملون عليم }؛ «ما» هذه موصولة تفيد العموم، وتشمل كل ما يعمله الإنسان من خير أو شر في القلب، أو في الجوارح؛ وقَدّم { بما تعملون } على متعلّقها لقوة التحذير، وشدته؛ فكأنه حصر علمه فيما نعمل؛ فيكون هذا أشد في بيان إحاطته بما نعمل؛ فيتضمن قوة التحذير؛ وليس مقتضاه حصر العلم على ما نعمل فقط.

الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه إذا لم يجد كاتباً في السفر فإنه يوثق الحق بالرهن المقبوض.
2 - ومنها: عناية الله عز وجل بحفظ أموال عباده؛ يعني أنه سبحانه وتعالى ذكر حتى هذه الصورة: أن الإنسان إذا داين غيره، ولم يجد كاتباً فإنه يرتهن رهناً حفظاً لماله، وخوفاً من النزاع، والشقاق في المستقبل.
3 - ومنها: جواز الرهن؛ لقوله تعالى: { فرهان }؛ ولكن ذلك مشروط - حسبما في الآية - بالسفر سواء كان قصيراً، أو طويلا؛ وبألا نجد كاتباً؛ فهل هذا الشرط معتبر؟ الجواب: دلت السنة على عدم اعتباره: فقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعاً من الشعير لأهله، ورهن درعه عند يهودي حتى مات(211)؛ وهذا يدل على جواز الرهن في الحضر حتى مع وجود الكاتب.
فإذا قال قائل: إذا كان الأمر هكذا فما الجواب عن الآية؟ فالجواب عن الآية أن الله عز وجل ذكر صورة إذا تعذر فيها الكاتب فإن صاحب الحق يتوثق لحقه بالرهن المقبوض؛ فذكر هذه الصورة لا على أنها شرط للحكم؛ يعني كأنه قال: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه؛ وإن كنتم في السفر، وليس عندكم كاتب فرهان مقبوضة.
4 - ومن فوائد الآية: أن بعض العلماء استدل بهذه الآية على لزوم القبض في الرهن؛ وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن قبض الرهن شرط لصحته؛ لأن الله جعل القبض وصفاً في الرهن؛ والوصف لازم للموصوف.
والقول الثاني: أن القبض شرط للزوم الرهن - لا لصحته؛ وعلى هذا القول يكون الرهن صحيحاً - وإن لم يُقبَض - لكنه ليس بلازم؛ فللراهن أن يتصرف فيه بما شاء.
والقول الثالث: أن القبض - أعني قبض الرهن - ليس بشرط لا للصحة، ولا للزوم؛ وإنما ذكر الله القبض في هذه الحال؛ لأن التوثق التام لا يحصل إلا به لكون المتعاقدين في سفر؛ وليس ثمة كاتب، فلا يحصل تمام التوثقة بالرهن إلا بقبضه؛ وهذا القول هو الراجح؛ وعليه فالرهن لازم صحيح بمجرد عقده - وإن لم يقبض؛ لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ، وقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34] ؛ وعلى هذا القول عمل الناس: فترى الرجل يكون راهناً بيته وهو ساكن فيه، أو راهناً سيارته وهو يستعملها؛ ولا تستقيم حال الناس إلا بذلك.
5 - ومن فوائد الآية: أنه إذا حصل الائتمان من بعضنا لبعض لم يجب رهن، ولا إشهاد، ولا كتابة؛ لقوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ ولهذ قال كثير من العلماء: إن هذه ناسخة لما سبق في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282] ، وقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282] ، وقوله تعالى: { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة }؛ والصحيح أنها ليست ناسخة؛ بل مخصِّصة لما سبق.
6 - ومنها: وجوب أداء الأمانة على من اؤتمن؛ لقوله تعالى: { فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ فإذا وجب أداء الأمانة حرمت الخيانة.
7 - ومنها: أنه لو تلفت العين بيد الأمين فإنه لا ضمان عليه ما لم يتعد، أو يفرط؛ لقوله تعالى: { فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ فسماها الله سبحانه وتعالى أمانة؛ والأمين يده غير متعدية؛ فلا يضمن إلا إذا حصل تعدٍّ، أو تفريط؛ ومن التعدي إذا أعطي الإنسانُ أمانة للحفظ تصرف فيها - كما يفعل بعض الناس - ببيع، أو شراء، أو نحو ذلك؛ وهذا حرام لا يجوز؛ وإذا أردت أن تفعل فاستأذِن من صاحبها؛ فإن أذن لك صارت عندك قرضاً.
8 - ومن فوائد الآية: أنه يجب على هذا الذي اؤتمن ألا يغتر بثقة الناس به، فيفرط فيما يجب عليه من أداء الأمانة؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه }؛ فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يتقي الله: قال تعالى: { وليتق الله }، وأردفها بقوله تعالى: { ربه }؛ ففيه فائدة - وهي أن الإنسان في هذه المقامات ينظر إلى مقام الربوبية كما ينظر إلى مقام الألوهية؛ فبنظره إلى مقام الألوهية يفعل هذا تعبداً لله سبحانه وتعالى، وتقرباً له؛ وبنظره إلى مقام الربوبية يحذر المخالفة؛ لأن الرب هو الذي له الخلق، والملك، والتدبير؛ فلا بد أن يقرن الإنسان بين مقام الألوهية، ومقام الربوبية.
9 - ومن فوائد الآية: إثبات ما دلّ عليه هذان الاسمان؛ وهما «الله» ، و «الرب» ؛ فالأول فيه إثبات الألوهية؛ والثاني فيه إثبات الربوبية؛ لأن المعبود لابد أن يكون أهلاً للعبادة؛ والرب لابد أن يكون أهلاً للربوبية؛ ولا يتحقق ذلك إلا بكمال الصفات؛ ولهذا نقول: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ والتوحيدان يستلزمان كمال الأسماء، والصفات؛ ولهذا قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} [مريم: 42] .
10 - ومن فوائد الآية تحريم كتمان الشهادة؛ يعني إخفاءها سواء كان كتمان أصلها، أو وصفها؛ وسواء كان الحامل لها القرابة، والغنى؛ أو البعد، والفقر؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما...} [النساء: 135] الآية.
11 - ومنها: أن كتْم الشهادة من الكبائر؛ لوجود العقوبة الخاصة بها - وهي قوله تعالى: { فإنه آثم قلبه }.
12 - ومنها: عظم كتم الشهادة؛ لأنه أضاف الإثم فيها إلى القلب؛ وإذا أثم القلب أثمت الجوارح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله»(212)؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: «التقوى هاهنا»(213) وأشار إلى صدره؛ فالتقوى في القلب، وليست في اللسان، ولا في الأفعال، ولا في الأحوال؛ فقد يكون الإنسان متقياً بفعله متقياً بقوله غير متقٍ بقلبه: تجده بفعله يتزيّ بزي المسلم الخالص - من إعفاء اللحية، والوقار، والسكينة، وكذلك يقول قول المسلم الخالص: «أستغفر الله»، «اللهم اغفر لي»، ويذكر الله، ويكبر؛ هذه لا شك تقوى في الظاهر؛ والغالب أنها دليل على تقوى الباطن.
13 - ومن فوائد الآية: عموم علم الله سبحانه وتعالى بكل ما نعمل؛ لقوله تعالى: { بما تعملون عليم }؛ فإن { ما } اسم موصول؛ والاسم الموصول يفيد العموم، فيشمل كل ما نعمل من أعمال القلب، وأعمال الجوارح.
إذا قال قائل: ما فائدة التقديم هنا - إن قيل: لمراعاة الفواصل قلنا: فالنون تأتي في الفواصل كثيراً، مثل قوله تعالى: {إنه خبير بما تفعلون} [النمل: 88] ؛ وإن قيل: للحصر قلنا: لا يصح؛ لأن الله يعلم كل شيء؛ لا يختص علمه بما نعمل فقط؛ فلا وجه للحصر؛ إذاً ما الفائدة؟.
فالجواب: الفائدة شدة التحذير، والتنبيه، كأنه يقول: لو لم يعلم شيئاً - وحاشاه من ذلك - لكان عالماً بعملنا؛ فمن قوة التحذير والإنذار جاء الكلام على وجه الحصر الإضافي.
14 - إذا قال قائل: هل نستفيد من هذا أن من أسماء الله «العليم»؟ قلنا: ربما نقول ذلك؛ وقد لا نقوله؛ قد نقول: إن الاسم إذا قيد بمتعلِّق فإنه ينقلب إلى وصف، فيكون «عليم بكذا» ليس كقوله تعالى: {وهو السميع العليم} [البقرة: 137] ؛ لأن هذا قُيد: «عليم بـ...»، فكان وصفاً، وليس اسماً؛ أما لو قال تعالى: {وهو العليم الحكيم} [الزخرف: 84] لكان هذا اسماً بلا شك.
15 - ومن فوائد الآية: التحذير من المخالفة بكون الله سبحانه وتعالى عالماً بما نعمل؛ وجه التحذير: تقديم المعمول.
16 - ومنها: الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم بأفعال العباد إلا إذا وقعت؛ فإن قوله تعالى: { بما تعملون عليم } يتضمن ما قد عملناه بالفعل، وما سنعمله.

القرآن
)لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:284)
التفسير:
{ 284 } قوله تعالى: { لله ما في السموات وما في الأرض } جملة خبرية قُدِّم فيها الخبر لإفادة الحصر؛ يعني: أن كل شيء في السموات أو في الأرض فهو لله خلقاً، وملكاً، وتدبيراً؛ وليس لأحد غيره فيه ملك.
قوله تعالى: { وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه }؛ جملة شرطية جوابها: { يحاسبكم به الله }.
وقوله تعالى: { وإن تبدوا } أي وإن تظهروا؛ { ما في أنفسكم } أي ما في قلوبكم؛ { أو تخفوه } يعني تسرُّوه، فلا يطلع عليه أحد.
قوله تعالى: { يحاسبكم به الله } أي يُطْلِعكم عليه على وجه المحاسبة؛ ولا يلزم من المحاسبة العقوبة؛ ولهذا قال تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }.
قوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فيها قراءتان؛ قراءة بالسكون؛ وقراءة بالرفع؛ وجه قراءة السكون أنه معطوف على { يحاسبكم } الذي هو جواب الشرط؛ والمعطوف على المجزوم مجزوم؛ ووجه قراءة الرفع أنه على سبيل الاستئناف؛ فالفاء استئنافية تفيد قطع الجملة التي بعدها عما قبلها؛ و «المغفرة» ستر الذنب مع التجاوز عنه؛ لأن مادة «غفر» مأخوذة من المغفر - وهو ما يلبسه المقاتل على رأسه ليتقي بها السهام؛ وهو جامع بين ستر الرأس، والوقاية؛ و{ يعذب من يشاء } أي يعاقب.
قوله تعالى: { والله على كل شيء قدير } أي يوجد المعدوم، ويعدم الموجود بدون عجز؛ لقوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44] .


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 06:37 AM   #164
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ولما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا! بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} ، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير؛ فلما اقترأها القوم ذَلَّت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285] ؛ فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال تعالى: «نعم»؛ {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال تعالى: «نعم»؛ {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال تعالى: «نعم»؛ {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال تعالى: «نعم»(214).
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: عموم ملك الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { لله ما في السموات وما في الأرض }؛ وليس معلوماً لنا سوى السموات والأرض؛ ويدخل في السموات الكرسي، والعرش، والملائكة، وأرواح بني آدم التي تكون في السماء، كأرواح المؤمنين في الجنة؛ لأن المراد بذلك كل ما علا؛ بل ويشمل ما بين السماء والأرض من الأفلاك، والنجوم، وغير ذلك؛ لأنها داخلة في السموات؛ لأنها في جهتها؛ ويدخل في الأرض العاقل، وغير العاقل؛ فيشمل بني آدم، والجن، ويشمل الحيوانات الأخرى، ويشمل الأشجار، والبحار، والأنهار، وغير ذلك.
2 - ومن فوائد الآية: أن الله عز وجل هو القائم على هذه السموات والأرض يدبرها كما يشاء؛ لأنها ملكه.
3 - ومنها: أن الله لا شريك له في ذلك الملك؛ يستفاد ذلك من تقديم الخبر الذي حقه التأخير؛ وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ و«الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه.
4 - ومنها: وجوب إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية؛ لأن الإقرار بالربوبية يستلزم الإقرار بالألوهية - ولابد؛ ولهذا قال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] ؛ فجعل الربوبية موجباً لعبادته؛ وفي سورة النمل قال تعالى: {أمن خلق السموات والأرض...} [النمل: 60] إلى آخر الآيات التي فيها تختم كل آية بقوله تعالى: {أإله مع الله} [النمل: 60] يعني: فإذا كان هو المنفرد بما ذُكِر فإنه المنفرد بالألوهية.
5 - ومن فوائد الآية: إثبات صفات الكمال لله عز وجل؛ لأننا إذا تأملنا في هذا الملك الواسع العظيم، وأنه يدبَّر بانتظام لا مثيل له علمنا بأن الذي يدبره كامل الصفات؛ فيؤخذ منه كل صفة كمال لله، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والعزة، والحكمة، وغير ذلك من صفاته عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يقوم بملك هذه الأشياء العظيمة إلا من هو متصف بصفات الكمال.
6 - ومنها: إثبات أن السموات أكثر من واحدة؛ وهي سبع بنص القرآن، والسنة، والإجماع؛ أما القرآن فمثل قوله تعالى: {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} [المؤمنون: 86] ، وقوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} [الطلاق: 12] ؛ وأما السنة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الرياح وما ذرين...»(215) الحديث؛ وأما الأرض فإنها جاءت بلفظ الإفراد في القرآن، وجاءت في السنة بلفظ الجمع؛ وعددها سبع: جاء ذلك في صريح السنة، وفي ظاهر القرآن؛ ففي ظاهر القرآن: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] ؛ لأن المماثلة في الوصف متعذرة؛ فلم يبق إلا العدد؛ وأما في السنة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين»(216).
7 - ومن فوائد الآية: عموم علم الله وسعته؛ لقوله تعالى: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }؛ ولا محاسبة إلا من بعد علم.
8 - ومنها: تحذير العبد من أن يخفي في قلبه ما لا يرضاه الله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا علم بأن الله عالم بما يبدي وبما يخفي فسوف يراقب الله سبحانه وتعالى خوفاً من أن يحاسَب على ما أخفاه كما يحاسَب على ما أبداه.
9 - ومنها: إثبات أن العبد يحاسب على ما في نفسه؛ وظاهره العموم؛ لقوله تعالى: { ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }؛ ولكن جاءت النصوص الأخرى بالتفصيل في ذلك على النحو التالي:
الأول: أن يكون ما يطرأ على النفس وساوس لا قرار لها، ولا ركون إليها؛ فهذه لا تضر؛ بل هي دليل على كمال الإيمان؛ لأن الشيطان إذا رأى من قلب الإنسان إيماناً ويقيناً حاول أن يفسد ذلك عليه؛ ولهذا لما شكا الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدونه في أنفسهم من هذا قال صلى الله عليه وسلم: «وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم؛ قال: ذاك صريح الإيمان»(217)؛ وفي حديث آخر: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»(218).
الثاني: أن يهمّ بالشيء المحرم، أو يعزم عليه، ثم يتركه؛ وهذا أنواع:
النوع الأول: أن يتركه لله؛ فيثاب على ذلك، كما جاءت به السنة فيمن همّ بسيئة فلم يعملها أنها تكتب حسنةً كاملة؛ قال الله تعالى: «لأنه تركها من جرّائي»(219)، أي من أجلي.
النوع الثاني: أن يهمّ بها، ثم يتركها عزوفاً عنها؛ فهذا لا له، ولا عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات؛ وإنما لكل امرئ ما نوى»(220).
النوع الثالث: أن يتمناها، ويحرص عليها؛ ولكن لا يعمل الأسباب التي يحصِّلها بها؛ فهذا يعاقب على نيته دون العقاب الكامل، كما جاء في الحديث في فقير تمنى أن يكون له مثل مال غني كان ينفقه في غير مرضاة الله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهو بنيته؛ فهما في الوزر سواء»(221).
النوع الرابع: أن يعزم على فعل المعصية، ويعمل الأسباب التي توصل إليها؛ ولكن يعجز عنها؛ فعليه إثم فاعلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه»(222).
10 - ومن فوائد الآية: إثبات محاسبة العبد؛ لقوله تعالى: { يحاسبكم به الله }؛ ولهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»(223)؛ فينبغي للإنسان أن يكون كيساً يحاسب نفسه قبل أن يحاسَب؛ وإني لأعجب أن كثيراً من الناس إذا كان له تجارة دنيوية فإنه لا ينام حتى ينظر في الدفاتر: ما الذي خرج؟ وما الذي دخل؟ وما الذي بقي في ذمم الناس؟ وما الذي بيع؟ وما الذي اشتري؟ إما بنفسه؛ وإما بمن يجعلهم على هذا؛ ولكننا في أعمالنا الأخروية عندنا تفريط - يعني يندر يوماً من الأيام أن تقول: ماذا عملت اليوم؟ وتستغفر مما أسأت فيه، أو فرطت؛ وتحمد الله على ما قمت به من طاعته.
11 - ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى لم يصرح بالمعاقبة؛ ولا يلزم من المحاسبة المؤاخذة؛ لقوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }؛ ويؤيده ما ثبت في الصحيح أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه، ويقول: «عملت كذا في يوم كذا» حتى يقر؛ فإذا رأى أنه قد هلك يقول الله عز وجل: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»(224).
12 - ومنها: سعة علم الله عز وجل، وكان من أسمائه: «الواسع» أي ذو السعة في جميع صفاته.
13 - ومنها: إثبات المشيئة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }؛ ومشيئته تعالى مقرونة بالحكمة؛ لقوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] ؛ كل شيء أضافه الله إلى مشيئته فاعلم أنه مقرون بحكمة؛ لا يشاء شيئاً إلا لحكمة - أياً كان هذا الشيء.
14 - ومنها: أنه بعد المحاسبة إما أن يغفر للإنسان؛ وإما أن يعذبه؛ لقوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فإن كان كافراً عذب؛ وإن كان مسلماً كان تحت المشيئة، كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] .
15 - ومنها: إثبات القدرة لله، وعمومها في كل شيء؛ لقوله تعالى: { والله على كل شيء قدير }؛ فلا أحد يقدر على كل شيء إلا الله عز وجل؛ وأما المخلوق فقدرته محدودة.
فإن قيل: لماذا ختم الآية بالقدرة من بعد قوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }؛ ولم يختمها بالرحمة، ولا بالعقوبة؟
فالجواب: أن المحاسبة تكون بعد البعث؛ والبعث يدل على القدرة؛ كما قال تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} [الأحقاف: 33] ، وقال تعالى: {إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} [فصلت: 39] .
وجه آخر: لو ختمت الآية بما يقتضي الرحمة وفيها التعذيب لم يكن هناك تناسب؛ ولو ختمت بما يقتضي التعذيب وفيها مغفرة لم يكن هناك تناسب؛ والقدرة تناسب الأمرين: تناسب المغفرة، وتناسب التعذيب؛ لأن المغفرة، والتعذيب كلٌّ لا يكون إلا بقدرة الله عز وجل.

القرآن
)آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285)
التفسير:
{ 285 } قوله تعالى: { آمن }؛ سبق مراراً، وتكراراً بأنه الإقرار المستلزم للقبول، والإذعان - لقبول الخبر، والإذعان للحكم، أو لما يقتضيه؛ أما مجرد التصديق، والإقرار فلا ينفع؛ ولهذا كان أبو طالب مقراً ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه على حق؛ لكن لما لم يكن منه قبول وإذعان لم ينفعه هذا الإقرار؛ فالإيمان شرعاً هو الإقرار المستلزم للقبول، والإذعان.
قوله تعالى: { الرسول }؛ «أل» هنا للعهد؛ والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ { الرسول } بمعنى مرسَل؛ و «الرسول» - كما قال العلماء - هو من أوحي إليه بشرع، وأُمِر بتبليغه؛ هذا الذي عليه أكثر أهل العلم؛ و «النبي» هو الذي لم يؤمر بتبليغه ما لم يدل الدليل على أن المراد به الرسول؛ ففي القرآن الكريم كل من وصف بالنبوة فهو رسول؛ لقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده...} [النساء: 163] إلى قوله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165] ؛ ولقوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} [غافر: 78] .
قوله تعالى: { بما أنزل إليه من ربه } أي بالذي أنزل إليه من ربه؛ والذي أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّنه الله سبحانه وتعالى في قوله: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [النساء: 113] - فهو القرآن، والسنة؛ والرسول صلى الله عليه وسلم كيف آمن بهما؟ الرسول آمن بأن القرآن من عند الله أنزله إليه ليبلغه إلى الناس، وآمن بأن ما أوحي إليه من السنة هو من الله عز وجل؛ أوحي به ليبلغه إلى الناس؛ ثم هو أيضاً آمن بما يقتضيه هذا المنزل من قبول، وإذعان؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس تصديقاً بما أنزل إليه، وأقواهم إيماناً بلا شك، وكان أيضاً أعظمهم تعبداً لله عز وجل حتى إنه كان يقوم في الليل حتى تتورم قدماه مع أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر(225)؛ وقام معه ابن مسعود رضي الله عنه ذات ليلة يقول: فقام فأطال حتى هممت بأمر سوء؛ قالوا: بم هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «هممت أن أجلس، وأدعه»(226)؛ لأن الرسول كان يقوم قياماً طويلاً - صلوات الله وسلامه عليه؛ إذاً فهو أقوى الناس إيماناً، وأشدهم رغبة في الخير، وأكثرهم عبادة.
وقوله تعالى: { من ربه } يراد بها الربوبية أخص الخاصة؛ لأن ربوبية الله عز وجل عامة؛ وخاصة؛ وأخص الخاصة؛ فالعامة الشاملة لكل الخلق، مثل: {رب العالمين} [الفاتحة: 1] ؛ و الخاصة للمؤمنين؛ و خاصة الخاصة للرسل - عليهم الصلاة والسلام -؛ فالذين يقولون: {ربنا إننا آمنا فاغفر لنا} [آل عمران: 16] هذه ربوبية خاصة لكل المؤمنين؛ ومثل: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } هذه أخص الخاصة، ومثلها: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء: 65] ؛ يقابل ذلك «العبودية»: عبودية عامة؛ وخاصة؛ وأخص الخاصة؛ العامة مثل قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93] ؛ و الخاصة مثل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} [الفرقان: 63] ؛ و خاصة الخاصة مثل قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ، وقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: 23] ؛ ولا شك أن الربوبية الخاصة تقتضي تربية خاصة لا يماثلها تربية أحد من العالمين


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 06:41 AM   #165
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


قوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب }، أي لا يمتنع كاتب الكتابة إذا طلب منه ذلك.
قوله تعالى: { كما علمه الله } يحتمل أن تكون الكاف للتشبيه؛ فالمعنى حينئذ: أن يكتب كتابة حسب علمه بحيث تكون مستوفية لما ينبغي أن تكون عليه؛ ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل؛ فالمعنى: أنه لما علمه الله فليشكر نعمته عليه، ولا يمتنع من الكتابة.
قوله تعالى: { فليكتب }؛ الفاء للتفريع: واللام لام الأمر؛ ولكنها سكنت؛ لأنها وقعت بعد الفاء؛ وموضع: {فليكتب } مما قبلها في المعنى قال بعض العلماء: إنها من التوكيد؛ لأن النهي عن إباء الكتابة يستلزم الأمر بالكتابة؛ فهي توكيد معنوي؛ وقيل: بل هي تأسيس تفيد الأمر بالمبادرة إلى الكتابة، أو هي تأسيس توطئة لما بعدها؛ والقاعدة: أنه إذا احتمل أن يكون الكلام توكيداً، أو تأسيساً، حمل على التأسيس؛ لأنه فيه زيادة معنى؛ وبناءً على هذه القاعدة يكون القول بأنها تأسيس أرجح.
قوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق } أي يملي؛ وهما لغتان فصيحتان؛ فـ «الإملال» و«الإملاء» بمعنًى واحد؛ فتقول: «أمليت عليه»؛ و«أمللت عليه» لغة عربية فصحى - وهي في القرآن.
قوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }؛ لما أمر الله عز وجل بأن الذي يملي هو الذي عليه الحق دون غيره وجه إليه أمراً، ونهياً؛ الأمر: { وليتق الله ربه } يعني يتخذ وقاية من عذاب الله، فيقول الصدق؛ والنهي: { ولا يبخس منه شيئاً } أي لا ينقص لا في كميته، ولا كيفيته، ولا نوعه.
قوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً }، أي لا يحسن التصرف؛ { أو ضعيفاً }؛ الضعف هنا ضعف الجسم، وضعف العقل؛ وضعف الجسم لصغره؛ وضعف العقل لجنونه؛ كأن يكون الذي عليه الحق صغيراً لم يبلغ؛ أو كان كبيراً لكنه مجنون، أو معتوه؛ فهذا لا يملل؛ وإنما يملل وليه؛ { أو لا يستطيع أن يمل هو} أي لا يقدر أن يملي لخرس، أو غيره؛ وقوله تعالى: { أن يمل } مؤولة بمصدر على أنه مفعول به؛ والضمير: { هو } للتوكيد؛ وليست هي الفاعل؛ بل الفاعل مستتر في { يمل }.
قوله تعالى: { فليملل }: اللام هنا لام الأمر؛ وسكنت لوقوعها بعد الفاء؛ { وليه } أي الذي يتولى شؤونه من أب، أو جد، أو أخ، أو أم، أو غيرهم.
قوله تعالى: { بالعدل } متعلق بقوله تعالى: { فليملل } يعني إملاءً بالعدل بحيث لا يجور على من له الحق لمحاباة قريبه، ولا يجور على قريبه خوفاً من صاحب الحق؛ بل يجب أن يكون إملاؤه بالعدل؛ و «العدل» هنا هو الصدق المطابق للواقع؛ فلا يزيد، ولا ينقص.
قوله تعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم }، أي اطلبوا شهيدين من رجالكم.
وقوله تعالى: { من رجالكم } الخطاب للمؤمنين.
قوله تعالى: { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان }، أي إن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان؛ وهذا يدل على التخيير مع ترجيح الرجلين على الرجل والمرأتين.
وقوله تعالى: { فرجل وامرأتان }: الجملة جواب الشرط في قوله تعالى: { فإن لم يكونا... }؛ والفاء هنا رابطة للجواب؛ و «رجل» خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالشاهد رجل، وامرأتان.
وقوله تعالى: { فرجل } أي فذَكَر بالغ؛ و{ امرأتان } أي أنثيان بالغتان؛ لأن الرجل والمرأة إنما يطلقان على البالغ.
قوله تعالى: { ممن ترضون من الشهداء }: الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة؛ أي رجل وامرأتان كائنون ممن ترضون من الشهداء؛ والخطاب في قوله تعالى: { ترضون } موجه للأمة؛ يعني بحيث يكون الرجل والمرأتان مرضيين عند الناس؛ لأنه قد يُرضى شخص عند شخص ولا يُرضى عند آخر؛ فلا بد أن يكون هذان الشاهدان؛ أو هؤلاء الشهود - أي الرجل والمرأتان - ممن عرف عند الناس أنهم مرضيون؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب»(204)؛ إذاً العبرة بالرضى عند عموم الناس؛ لا برضى المشهود له؛ لأنه قد يرضى بمن ليس بمرضي.
وقوله تعالى: { من الشهداء }: بيان لـ «مَنْ» الموصولة؛ لأن الاسم الموصول من المبهمات؛ فيحتاج إلى بيان؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً» فهذا مبهم؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً من الطلاب» صار مبيناً.
قوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } فيها قراءات؛ القراءة الأولى بفتح همزة { أنْ }؛ وعلى هذا يجوز قراءتان في قوله تعالى: { فتذكر }: تخفيف الكاف: { فتذْكِرَ }، وتشديدها: { فتذَكِّرَ }؛ مع فتح الراء فيهما؛ والقراءة الثالثة: بكسر همزة { إن } مع ضم الراء في قوله تعالى: { فتذكِّرُ }، وتشديد الكاف.
وقوله تعالى: { فتذكر إحداهما الأخرى } من التذكير؛ وهو تنبيه الإنسان الناسي على ما نسي؛ ومن غرائب التفسير أن بعضهم قال: { فتذكر } معناه تجعلها بمنزلة الذَّكَر - لا سيما على قراءة التخفيف؛ أي تكون المرأتان كالذَّكَر؛ وهذا غريب؛ لأنه لا يستقيم مع قوله تعالى: { أن تضل إحداهما } فالذي يقابل الضلال بمعنى النسيان: التذكير - أي تنبيه الإنسان على نسيانه.
وفي قوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } من البلاغة: إظهار في موضع الإضمار؛ لأنه لم يقل: فتذكرها الآخرى؛ لأن النسيان قد يكون متفاوتاً، فتنسى هذه جملة، وتنسى الأخرى جملة؛ فهذه تذكر هذه بما نسيت؛ وهذه تذكر هذه بما نسيت؛ فلهذا قال تعالى: { فتذكر إحداهما الأخرى }: لئلا يكون المعنى قاصراً على واحدة هي الناسية، والأخرى تذكرها.
قوله تعالى: { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } أي لا يمتنع الشهداء إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، أو أدائها؛ و{ ما } هذه زائدة لوقوعها بعد { إذا }؛ وفيها بيت مشهور يقول فيه:
(يا طالباً خذ فائدة ما بعد إذا زائدة) واستعمالات «ما» عشر؛ هي كما جاءت في بيت من الشعر:
(محامل «ما» عشر إذا رمت عدّها فحافظ على بيت سليم من الشعر) (ستفهم شرط الوصل فاعجب لنكرها بكفّ ونفي زيد تعظيم مصدر) ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في القرآن شيء زائد بمعنى أنه لا معنى له؛ بل زائد إعراباً فقط؛ أما في المعنى فليس بزائد.
قوله تعالى: { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله }، أي لا تمَلّوا أن تكتبوا الدَّين صغيراً كان أو كبيراً إلى أجله المسمى.
قوله تعالى: { ذلكم } المشار إليه كل ما سبق من الأحكام؛ { أقسط عند الله } أي أقوم، وأعدل؛ { وأقوم للشهادة } أي أقرب إلى إقامتها؛ { وأدنى ألا ترتابوا } أي أقرب إلى انتفاء الريبة عندكم.
قوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم }: فيها قراءتان؛ إحداهما بنصب { تجارةً }، و{ حاضرةً }؛ والثانية برفعهما؛ على الأول اسم { تكون } مستتر؛ والتقدير: إلا أن تكون الصفقة تجارة حاضرة؛ وجملة: { تديرونها } صفة ثانية لـ { تجارة }؛ أما على قراءة الرفع فإن { تجارة } اسم { تكون }؛ و{ حاضرة } صفة؛ وجملة: { تديرونها } خبر { تكون }.
والتجارة هي كل صفقة يراد بها الربح؛ فتشمل البيع، والشراء، وعقود الإجارات؛ ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى الإيمان، والجهاد في سبيله تجارة، كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10] .
وأما قوله تعالى: { حاضرة } فهي ضد قوله تعالى: { إذا تداينتم بدين }؛ فالحاضر ما سوى الدَّين.
و قوله تعالى: { تديرونها } أي تتعاطونها بينكم بحيث يأخذ هذا سلعته، والآخر يأخذ الثمن، وهكذا.
قوله تعالى: { فليس عليكم جناح }: الفاء عاطفة، أو للتفريع؛ يعني ففي هذه الحال ليس عليكم إثم في عدم كتابتها؛ والضمير في قوله تعالى: { تكتبوه } يعود على التجارة؛ فهذه التجارة المتداولة بين الناس ليس على الإنسان جناح إذا لم يكتبها؛ لأن الخطأ فيها، والنسيان بعيد؛ إذ إنها حاضرة تدار، ويتعاطاها الناس بخلاف المؤجلة.
قوله تعالى: { وأشهدوا إذا تبايعتم } أي باع بعضكم على بعض.
قوله تعالى: { ولا يضار كاتب ولا شهيد }؛ مأخوذة من: الإضرار؛ يحتمل أن تكون مبنية للفاعل؛ فيكون أصلها «يضارِر» بكسر الراء الأولى؛ أو للمفعول؛ فيكون أصلها «يضارَر» بفتحها؛ ويختلف إعراب { كاتب }، و{ شهيد } بحسب بناء الفعل؛ فإن كانت مبنية للفاعل فـ { كاتب } فاعل؛ وإن كانت للمفعول فـ { كاتب } نائب فاعل؛ وهذا من بلاغة القرآن تأتي الكلمة صالحة لوجهين لا ينافي أحدهما الآخر.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 06:42 AM   #166
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


قوله تعالى: { وإن تفعلوا } أي يضار الكاتب، أو الشهيد - على الوجهين { فإنه } أي الفعل - وهو المضارة؛ { فسوق بكم } أي خروج بكم عن طاعة الله إلى معصيته؛ وأصل «الفسق» في اللغة الخروج؛ ومنه قولهم: فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها.
قوله تعالى: { واتقوا الله } أي اتخذوا وقاية من عذاب الله؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
قوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ الواو هنا للاستئناف؛ ولا يصح أن تكون معطوفة على { اتقوا الله }؛ لأن تعليم الله لنا حاصل مع التقوى، وعدمها - وإن كان العلم يزداد بتقوى الله، لكن هذا يؤخذ من أدلة أخرى.
قوله تعالى: { والله بكل شيء عليم } يشمل كل ما في السماء، والأرض.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: العناية بما ذُكر من الأحكام؛ وذلك لتصدير الحكم بالنداء، ثم توجيه النداء إلى المؤمنين؛ لأنه هذا يدل على العناية بهذه الأحكام، وأنها جديرة بالاهتمام بها.
2 - ومنها: أن التزام هذه الأحكام من مقتضى الإيمان؛ لأنه لا يوجه الخطاب بوصف إلا لمن كان هذا الوصف سبباً لقبوله ذلك الحكمَ.
3 - ومنها: أن مخالفة هذه الأحكام نقص في الإيمان كأنه قال: { يا أيها الذين آمنوا } لإيمانكم افعلوا كذا؛ فإن لم تفعلوا فإيمانكم ناقص؛ لأن كل من يدَّعي الإيمان، ثم يخالف ما يقتضيه هذا الإيمان فإن دعواه ناقصة إما نقصاً كلياً، أو نقصاً جزئياً.
4 - ومنها: بيان أن الدين الإسلامي كما يعتني بالعبادات - التي هي معاملة الخالق - فإنه يعتني بالمعاملات الدائرة بين المخلوقين.
5 - ومنها: دحر أولئك الذين يقولون: إن الإسلام ما هو إلا أعمال خاصة بعبادة الله عز وجل، وبالأحوال الشخصية، كالمواريث، وما أشبهها؛ وأما المعاملات فيجب أن تكون خاضعة للعصر، والحال؛ وعلى هذا فينسلخون من أحكام الإسلام فيما يتعلق بالبيوع، والإجارات وغيرها، إلى الأحكام الوضعية المبنية على الظلم، والجهل.
فإن قال قائل: لهم في ذلك شبهة؛ وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، ورآهم يلقحون الثمار قال: «لو لم تفعلوا لصلح» فخرج شيصاً - أي فاسداً -؛ فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؛ قالوا: قلت كذا، وكذا؛ قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم»(205)؛ قالوا: «والمعاملات من أمور الدنيا، وليست من أمور الآخرة».
فالجواب: أنه لا دليل في هذا الحديث لما ذهبوا إليه؛ لأن الحادثة المذكورة من أمور الصنائع التي من يمارسها فهو أدرى بها، وتدرك بالتجارِب؛ وإلا لكان علينا أن نقول: لا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نصنع السيارات والمسجلات، والطوب، وكل شيء!!! أما الأحكام - الحلال، والحرام - فهذا مرجعه إلى الشرع؛ وقد وفى بكل ما يحتاج الإنسان إليه.
6 - ومن فوائد الآية: جواز الدَّين؛ لقوله تعالى: { تداينتم بدين } سواء كان هذا الدَّين ثمن مبيع، أو قرضاً، أو أجرة، أو صداقاً، أو عوض خلع، أو أي دين يكون؛ المهم أن في الآية إثبات الدَّين شرعاً.
7- ومنها: أن الدَّين ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مؤجل بأجل مسمى؛ ومؤجل بأجل مجهول؛ وغير مؤجل؛ لقوله تعالى: { بدين إلى أجل مسمى }؛ والدَّين إلى غير أجل جائز مثل أن أشتري منك هذه السلعة، ولا أعطيك ثمنها، ولا أعينه لك؛ فهذا دَين غير مؤجل؛ وفي هذه الحال لك أن تطالبني بمجرد ما ينتهي العقد؛ وأما الدَّين إلى أجل غير مسمى فلا يصح؛ وأُخذ هذا القسم من قوله تعالى: { مسمى } - مثل أن أقول لك: «اشتريت منك هذه السلعة إلى قدوم زيد» - وقدومه مجهول؛ لأن فيه غرراً؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم»(206)؛ والدين إلى أجل غير مسمى لا يكتب؛ لأنه عقد فاسد، والدَّين إلى أجل مسمى جائز بنص الآية.
8 - ومن فوائد الآية: جواز السلم - وهو تعجيل الثمن، وتأخير المثمن، مثل أن أشتري مائة صاع من البر إلى سنة، وأعطيك الدراهم؛ فيسمى هذا سلماً؛ لأن المشتري أسلم الثمن، وقدمه.
9 - ومنها: وجوب كتابة الدَّين المؤجل؛ لقوله تعالى: { فاكتبوه }؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى في آخر الآية: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها }؛ وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الكتابة - أعني كتابة الدين المؤجل؛ لقوله تعالى في الآية التي تليها: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283] ؛ وينبغي على هذا القول أن يستثنى من ذلك ما إذا كان الدائن متصرفاً لغيره، كوليّ اليتيم فإنه يجب عليه أن يكتب الدَّين الذي له لئلا يضيع حقه.
10 - ومنها: حضور كل من الدائن، والمدين عند كتابة الدَّين؛ لقوله تعالى: { بينكم }؛ ولا تتحقق البينية إلا بحضورهما.
11 - ومنها: أنه لابد أن يكون الكاتب محسناً للكتابة في أسلوبه، وحروفه؛ لقوله تعالى: { وليكتب بينكم كاتب }.
12 - ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب بالعدل بحيث لا يجحف مع الدائن، ولا مع المدين؛ و«العدل» هو ما طابق الشرع؛ لقوله تعالى: { وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلًا } [الأنعام: 115] .
ويتفرع على ذلك أن يكون الكاتب ذا علم بالحكم الشرعي فيما يكتب.
13 - ومنها: أنه لا يشترط تعيين كاتب للناس بشخصه، وأن أيّ كاتب يتصف بإحسان الكتابة والعدل، فكتابته ماضية نافذة؛ لقوله تعالى: { كاتب بالعدل }؛ وهي نكرة لا تفيد التعيين.
14 - ومنها: تحريم امتناع الكاتب أن يكتب كما علمه الله؛ لقوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }؛ ولهذا أكد هذا النهي بالأمر بالكتابة في قوله تعالى { فليكتب } - هذا ظاهر الآية - ويحتمل أن يقال: إنْ توقف ثبوت الحق على الكتابة كانت الكتابة واجبة على من طلبت منه؛ وإلا لم تجب، كما قلنا بوجوب تحمل الشهادة إذا توقف ثبوت الحق عليها.
15 - ومنها: أنه يجب على الكاتب أن يكتب على حسب علمه من الشريعة؛ لقوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }.
16 - ومنها: تذكير هؤلاء الكتبة بنعمة الله، وأن مِن شُكر نعمة الله عليهم أن يكتبوا؛ لقوله تعالى: { كما علمه الله }؛ وهذا مبني على أن الكاف هنا للتعليل.
فإن قيل: «إنها للتشبيه» صار المعنى: أنه مأمور أن يكتب على الوجه الذي علمه الله من إحسان الخط، وتحرير الكتابة.
17 - ومنها: أن الإنسان لا يستقل بالعلم؛ لقوله تعالى: { كما علمه الله }؛ حتى في الأمور الحسية التي تدرك عن طريق النظر، أو السمع، أو الشم، لا يستطيع الإنسان أن يعلمها إلا بتعليم الله عز وجل.
18 - ومنها: مبادرة الكاتب إلى الكتابة بدون مماطلة؛ لقوله تعالى: { فليكتب }.
19 - ومنها: أن الرجوع في مقدار الدَّين، أو نوعه، أو كيفيته؛ بل في كل ما يتعلق به إلى المدين الذي عليه الحق - لا إلى الدائن؛ لقوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق }؛ لأنه لو أملل الذي له الحق فربما يزيد.
لكن إذا قال قائل: وإذا أملى الذي عليه الحق فربما ينقص؟!
فالجواب: أن الله حذره من ذلك في قوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }.
20 - ومنها: أن من عليه الحق لا يكتب؛ وإنما يكتب كاتب بين الطرفين؛ لأن الذي عليه الحق وظيفته الإملال؛ ولكن لو كتب صحت كتابته؛ إلا أن ذلك لا يؤخذ من هذه الآية؛ يؤخذ من أدلة أخرى، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [النساء: 135] ؛ وكتابة الإنسان على نفسه إقرار؛ وإقرار الإنسان على نفسه مقبول.
21 - ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله عز وجل على من عليه الحق، وأن يتحرى العدل؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه }.
22 - ومنها: أنه ينبغي في مقام التحذير أن يُذْكَر كلُّ ما يكون به التحذير؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً }؛ ففي مقام الألوهية يتخذ التقوى عبادة؛ لأن الألوهية هي توحيد العبادة؛ وفي مقام الخوف من الانتقام يكون مشهده الربوبية؛ لأن الرب عز وجل خالق مالك مدبر.
23 - ومنها: أنه يحرم على من عليه الدَّين أن يبخس منه شيئاً لا كمية، ولا نوعاً، ولا صفة؛ لقوله تعالى: { ولا يبخس منه شيئاً }.
24 - ومنها: أن الوليّ يقوم مقام المولَّى عليه في الإملال؛ لقوله تعالى: { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل }.
25 - ومنها: أن أسباب القصور ثلاثة: السفه؛ والضعف؛ وعدم الاستطاعة؛ السفه: ألا يحسن التصرف؛ والضعيف يشمل الصغير، والمجنون؛ ومن لا يستطيع يشمل من لا يقدر على الإملال لخرس، أو عييّ، أو نحو ذلك.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 06:43 AM   #167
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


26 - ومنها: قبول قول الوليّ فيما يقر به على مولّاه؛ لقوله تعالى: { فليملل وليه }.
27 - ومنها: وجوب مراعاة العدل على الوليّ؛ لقوله تعالى: { بالعدل }؛ فلا يبخس من له الحق؛ ولا يبخس من عليه الحق ممن هو مولى عليه.
28 - ومنها: طلب الإشهاد على الحق.
29 - ومنها: أن البينة إما رجلان؛ وإما رجل، وامرأتان؛ وجاءت السنة بزيادة بينة ثالثة - وهي الرجل، ويمين المدّعي؛ وأنواع طرق الإثبات مبسوطة في كتب الفقهاء.
30 - ومنها: أنه لابد في الشاهدين من كونهما مرضيين عند المشهود له، والمشهود عليه.
31 - ومنها: قصر حفظ المرأة وإدراكها عن حفظ الرجل، وهذا باعتبار الجنس؛ فلا يرد على ذلك من نبوغ بعض النساء، وغفلة بعض الرجال.
32 - ومنها: جواز شهادة الإنسان فيما نسيه إذا ذُكِّر به، فذكر؛ لقوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى }؛ فإن ذُكِّر ولم يذكر لم يشهد.
33 - ومنها: تحريم امتناع الشاهد إذا دُعي للشهادة؛ وهذا تحته أمران:
الأمر الأول: أن يُدعى لتحمل الشهادة؛ وقد قال العلماء في هذا: إنه فرض كفاية؛ وظاهر الآية الكريمة أنه فرض عين على من طلبت منه الشهادة بعينه؛ وهو الحق؛ لأنه قد لا يتسنى لطالب الشهادة أن يشهد له من تُرضى شهادته.
الأمر الثاني: أن يُدعى لأداء الشهادة؛ فيجب عليه الاستجابة؛ لهذه الآية، ولقوله تعالى: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة: 283] .
34 - ومن فوائد الآية: النهي عن السأَم في كتابة الدَّين سواء كان صغيراً، أو كبيراً؛ والظاهر أن النهي هنا للكراهة.
35 - ومنها: أنه إذا كان الدَّين مؤجلاً فإنه يبيَّن الأجل؛ لقوله تعالى: { إلى أجله }.
36 - ومنها: أن ما ذُكر من التوجيهات الإلهية في هذه الآية فيه ثلاثة فوائد:
الأولى: أنه أقسط عند الله - أي أعدل عنده لما فيه من حفظ الحق لمن هو له، أو عليه.
الثانية: أنه أقوم للشهادة؛ لأنه إذا كتب لم يحصل النسيان.
الثالثة: أنه أقرب لعدم الارتياب.
37 - ومن فوائد الآية: العمل بالكتابة، واعتمادها حجةً شرعية إذا كانت من ثقة معروف خطه؛ ويؤيد هذا قوله (صلى الله عليه وسلم): «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»(207).
38 - ومنها: أن الشهادات تتفاوت؛ فمنها الأقوم؛ ومنها القيم؛ ومنها ما ليس بقيم؛ فالذي ليس بقيم هو الذي لم تتم فيه شروط القبول؛ والقيم هو الذي صار فيه أدنى الواجب؛ والأقوم ما كان أكمل من ذلك؛ بدليل قوله تعالى: { وأقوم للشهادة }. فإذا قيل: ما مثال القيم؟ فنقول: مثل شاهد، ويمين؛ لكن أقوم منه الشاهدان؛ لأن الشاهدين أقرب إلى الصواب من الشاهد الواحد؛ ولأن الشاهدين لا يحتاج معهما إلى يمين المدعي؛ فكانت شهادة الشاهدين أقوم للشهادة.
39 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب كل ما يكون له فيه ارتياب، وشك؛ لقوله تعالى: { وأدنى ألا ترتابوا }.
ويتفرع على هذه الفائدة: أن دين الإسلام يريد من معتنقيه أن يكونوا دائماً على اطمئنان، وسكون.
ويتفرع أيضاً منها: أن دين الإسلام يحارب ما يكون فيه القلق الفكري، أو النفسي؛ لأن الارتياب يوجب قلق الإنسان، واضطرابه.
ويتفرع عليه أيضاً: أنه ينبغي للإنسان إذا وقع في محلّ قد يستراب منه أن ينفي عن نفسه ذلك؛ وربما يؤيد هذا الأثرُ المشهور: «رحم الله امرئ كفّ الغيبة عن نفسه»(208)؛ لا تقل: إن الناس يحسنون الظن بي، ولن يرتابوا في أمري؛ لا تقل هكذا؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فربما لا يزال يوسوس في صدور الناس حتى يتهموك بما أنت منه بريء.
40 - ومن فوائد الآية: جواز الاتجار؛ لقوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة حاضرة }؛ ولكن هذا الإطلاق مقيد بالشروط التي دلت عليها النصوص؛ فلو اتجر الإنسان بأمر محرم فهذا لا يجوز من نصوص أخرى؛ ولو رابى الإنسان يريد التجارة والربح قلنا: هذا حرام من نصوص أخرى؛ إذاً هذا المطلق الذي هو التجارة مقيد بالنصوص الدالة على أن التجارة لا بد فيها من شروط.
41 - ومنها: أن التجارة نوعان: تجارة حاضرة، وتجارة غير حاضرة؛ فأما الحاضرة فهي التي تدار بين الناس بدون أجل؛ وأما غير الحاضرة فهي التي تكون بأجل، أو على مسمى موصوف غير حاضر.
42 - ومنها: أن الأصل في التجارة الدوران؛ لقوله تعالى: { تديرونها بينكم }؛ فأما الشيء الراكد الذي لا يدار فهل يسمى تجارة؟ يرى بعض العلماء أنه ليس تجارة؛ ولذلك يقولون: ليس فيه زكاة، وأن الزكاة إنما هي في المال الذي يدار - يعني يتداول؛ ويرى آخرون أنها تجارة؛ ولكنها تجارة راكدة؛ وهذا يقع كثيراً فيما إذا فسدت التجارة، وكسد البيع؛ فربما تبقى السلع عند أصحابها مدة طويلة لا يحركونها؛ لكن هي في حكم المدارة؛ لأن أصحابها ينتظرون أيّ إنسان يأتي، فيبيعون عليه.
43 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجب كتابة التجارة الحاضرة المدارة - ولو كان ثمنها غير منقود؛ بخلاف ما إذا تداين بدين إلى أجل مسمى؛ فإنه تجب كتابة الدَّين على ما سبق من الخلاف في ذلك؛ لقوله تعالى: { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها}.
44 - ومنها: الأمر بالإشهاد عند التبايع؛ وهل الأمر للوجوب؛ أو للاستحباب؛ أو للإرشاد؟ فيه خلاف؛ والراجح أنه ليس للوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى، ولم يُشهِد(209)؛ والأصل عدم الخصوصية؛ ولأن إيجابه فيه شيء من الحرج، والمشقة؛ لكثرة تداول التجارة؛ اللهم إلا أن يكون التصرف للغير، كالوكيل، والوليّ؛ فربما يقال بوجوب الإشهاد في المبايعات الخطيرة.
45 - ومن فوائد الآية: أن الإشهاد ينبغي أن يكون حين التبايع؛ بمعنى أنه لا يتقدم، ولا يتأخر؛ لقوله تعالى: { إذا تبايعتم }؛ لأن العقد لم يتم إذا كان الإشهاد قبله؛ وإذا كان بعده فربما يكون المبيع قد تغير.
46 - ومنها: تحريم مضارة الكاتب، أو الشهيد: سواء وقع الإضرار منهما، أو عليهما.
47 - ومنها: أن المضارة سواء وقعت من الكاتب، أو الشاهد، أو عليهما، فسوق؛ والفسق يترتب عليه زوال الولايات العامة والخاصة إلا ما استثني؛ والفاسق يُهجر إما جوازاً؛ أو استحباباً، أو وجوباً - على حسب الحال - إن كان في الهجر إصلاح له.
فإن قال قائل: أفلا يشكل هذا على القاعدة المعروفة أن الفسق لا يتصف به الفاعل إلا إذا تكرر منه، أو كان كبيرة؟.
فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى حكم على المضارة بأنها فسوق؛ والقرآن يَحكم، ولا يُحكَم عليه.
48 - ومن فوائد الآية: أن هذا الفعل فسوق لا يخرج من الإيمان؛ لأنه لم يصف الفاعل بالكفر؛ بل قال تعالى: { فإنه فسوق بكم }؛ ومجرد الفسق لا يخرج من الإيمان؛ ولكن الفسق المطلق يخرج من الإيمان؛ لأن الخروج عن الطاعة خروجاً عاماً يخرج من الإيمان، ويوجب الخلود في النار، كما قال الله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} [السجدة: 18 - 20] .
49 - ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.
50 - ومنها: امتنان الله عز وجل على عباده بالتعليم، حيث قال تعالى: { ويعلمكم الله }.
51 - ومنها: أن الدِّين الإسلامي شامل للأحكام المتعلقة بعبادة الله عز وجل، والمتعلقة بمعاملة عباد الله؛ لأنه بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التوجيهات قال تعالى: { ويعلمكم الله }؛ فيكون في ذلك إبطال لزعم من زعم أن الدين الاسلامي في إصلاح ما بين العبد وبين ربه؛ ولا علاقة له بالمعاملة بين الناس.
52 - ومنها: أن الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ قال الله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [النحل: 78] .
53 - ومنها: ثبوت صفة العلم لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }؛ لأن المعلم عالم.
54 - ومنها: أن العلم من منة الله عز وجل على عباده؛ لقوله تعالى: { ويعلمكم الله }، وكما قال تعالى: {لقد منّ الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164] ؛ ولا شك أن العلم من أكبر النعم، حيث قال الله عز وجل: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] ؛ والعلماء كذلك ورثة الأنبياء؛ فالعلم أفضل من المال - ولا مقارنة؛ وهو كالجهاد في سبيل الله؛ لأن الدِّين الإسلامي لم ينتشر إلا بالعلم، والسلاح؛ فالسلاح يذلل العدو؛ والعلم ينير له الطريق؛ ولهذا إذا ذلّ العدو للإسلام، وخضع لأحكامه، وبذل الجزية وجب الكف عنه، ولا يقاتَل؛ لكن العلم جهاد يجب أن يكون لكل أحد؛ ثم الجهاد بالسلاح لا يكون إلا للكافر المعلن كفره، ولا يكون للمنافق؛ والجهاد بالعلم يكون لهذا، ولهذا - للمنافق، وللكافر المعلن بكفره؛ والعلم أفضل بكثير من المال؛ والعلم جهاد في سبيل الله - ولا سيما في وقتنا الحاضر؛ فإن الناس قد انفتح بعضهم على بعض، واختلط بعضهم ببعض، وصاروا يأخذون الثقافات من يمين ويسار، واحتاج الناس الآن للعلم الراسخ المبني على الكتاب والسنة حتى لا يقع الناس في ظلمات بعضها فوق بعض؛ لذلك تجد رجلاً يمر به حديث، أو حديثان، ثم يقال: أنا ابن جلا، وطلاع الثنايا! من ينال مرتبتي! أنا الذي أفتي بعشرة مذاهب! ثم مع ذلك يندد بمن خالفه - ولو كان من كبار العلماء؛ وربما يضخم الخطأ الذي يقع منه - ولو كان ممن يشار إليه بالفضل، والعلم، والدِّين؛ وهذه خطيرة جداً؛ لأن العامي وإن كان وثق بشخص لا يهمه هذا الكلام؛ لكن كلما كرر الضرب على الحديد لابد أن يتأثر؛ لذلك نرى أن طلب العلم من أهم الأمور خصوصاً في هذا الوقت.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 06:43 AM   #168
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


55 - ومن فوائد الآية: إثبات هذا الاسم من أسماء الله - وهو { عليم }؛ وإثبات ما دلّ عليه من الصفة - وهي العلم.
56 - ومنها: إثبات عموم علم الله؛ لقوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم }.
57 - ومنها: الرد على القدرية سواء الغلاة منهم، أو غيرهم؛ فإن غلاتهم يقولون: إن الله لا يعلم شيئاً من أفعال العباد حتى يقع؛ يقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: إن هؤلاء قليل - وهذا في عهده؛ ولا ندري الآن هل زادوا، أم نقصوا؛ لكن في الآية ردّ حتى على غير الغالية منهم - وهم الذين يقولون: إن الله يعلم؛ لكنه لم يُرد أفعال الإنسان، وأن الإنسان مستقل بإرادته، وفعله؛ وجه ذلك ما قاله الشافعي - رحمه الله: «ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا»؛ وعلى هذا نقول: في هذه الآية الكريمة دليل على أن أفعال العباد مرادة لله عز وجل؛ لأنها إن لم تكن مرادة فهي إما أن تقع على وفق علمه، أو على خلافه؛ فإن كان على خلافه فهو إنكار لعلمه؛ وإن كان على وفقه فلا بد أن تكون مرادة له؛ لأنه أراد أن تقع على حسب علمه.

القرآن
)وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة:283)
التفسير:
{ 283 } قوله تعالى: { وإن كنتم على سفر } أي مسافرين؛ وذلك كقوله تعالى في آية الصيام: {ومن كان مريضاً أو على سفر} [البقرة: 185] ؛ وأتى بكلمة: { على } لتحقق هذا الأمر - وهو السفر؛ لأن { على } تدل على الاستعلاء؛ فكأنه متمكن من السفر، كالراكب على الراحلة؛ و «السفر» مفارقة الوطن؛ وبعضهم قال: مفارقة محل الإقامة؛ لأن الإنسان قد لا يستوطن؛ ولكن يقيم دائماً؛ والمفارقة قد تكون طويلة - ويسمى سفراً طويلاً؛ وقد تكون قصيرة - ويسمى سفراً قصيراً.
قوله تعالى: { ولم تجدوا كاتباً } أي يكتب بينكم؛ وهذا كما سبق يحتاج إليه فيما إذا تداينا بدين إلى أجل مسمى؛ فيكون المعنى: إن كنتم على سفر، وتداينتم بدَين إلى أجل مسمى ولم تجدوا كاتباً { فرهان مقبوضة}.
قوله تعالى: { فرهان مقبوضة } فيها قراءاتان؛ القراءة الأولى: { فرِهان } بكسر الراء، ومدّ الهاء؛ والثانية: { فرُهُن } بضم الراء، والهاء بدون مدّ؛ ولهذا تكتب بالألف في خط المصحف لكي تصلح للقراءتين؛ ومعنى { فرهان } أي فعليكم رهن؛ أو فالوثيقة رهن - أو رهان؛ وعلى هذا فتكون إما مبتدأ خبره محذوف؛ وإما خبر مبتدأ محذوف؛ والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط؛ وقرنت بالفاء؛ لأنها جملة اسمية؛ وإذا كان جواب الشرط جملة اسمية فإنه يقترن بالفاء وجوباً؛ ولا تحذف إلا شذوذاً، أو اضطراراً؛ ومن حذفها قول الشاعر:
(من يفعل الحسنات الله يشكرها) ........ ولم يقل: فالله يشكرها؛ ولكن هذا على سبيل الضرورة، أو الندرة، والشذوذ.
و «الرهان» جمع رهْن؛ و«الرهن» في اللغة الحبس؛ ومنه قوله تعالى: { كل نفس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38] أي محبوسة بما عملت؛ ولكنه في اصطلاح الفقهاء: توثقة دَين بعين يمكن استيفاؤه، أو بعضِهِ منها، أو من بعضها، مثل ذلك: زيد مدين لعمرو بعشرة آلاف ريال، فأرهنه سيارة تساوي عشرين ألف ريال؛ هنا يمكن استيفاء الدَّين من بعضه؛ لأن الرهن أكثر من الدَّين؛ مثال آخر: زيد مدين لعمرو بعشرين ألف ريال؛ فأرهنه سيارة تساوي عشرة آلاف ريال؛ فهنا يمكن استيفاء بعضه منها؛ لأن الدَّين أكثر من الرهن؛ فإذا كان الدَّين مساوياً للرهن، كما لو كان دينه عشرة آلاف ريال؛ فأرهنه سيارة تساوي عشرة آلاف ريال؛ فهنا يمكن استيفاء الدَّين كله من كل الرهن.
وقوله تعالى: { مقبوضة } أي يقبضها من يتوثق بها - وهو الطالب - من المطلوب الذي هو الراهن؛ والطالب الذي قبض الرهن يسمى مرتهناً؛ فهنا راهن، ومرتهن، ورهن، ومرهون به؛ فالرهن: العين؛ والراهن: معطي الرهن؛ والمرتهن؛ آخذ الرهن؛ والمرهون به: الدين؛ فأركان الرهن أربعة.
ولم يبين سبحانه وتعالى كيف القبض؛ فيرجع في ذلك إلى العرف؛ ومعناه: أن يكون الشيء في قبضة الإنسان، وتحت سيطرته.
قوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضاً } أي اتخذه أميناً؛ بمعنى أنه وثق منه أن لا ينكر، ولا يبخس، ولا يغير؛ والجملة شرطية جوابها قوله تعالى: { فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ والفاء في { فليؤد } رابطة لجواب الشرط؛ وهو قوله تعالى: { إن أمن... }؛ وجاءت الفاء رابطة مع أن جواب الشرط فعل مضارع؛ لأنه مقترن بلام الأمر الدالة على الطلب؛ ومتى كانت الجملة الجزائية طلبية وجب اقترانها بالفاء؛ واللام هنا جاءت ساكنة لوقوعها بعد الفاء؛ ولام الأمر تقع ساكنة إذا وقعت بعد الفاء، أو الواو، أو «ثم»؛ بخلاف لام التعليل فإنها تكون مكسورة على كل حال؛ و{ اؤتمن } فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله؛ و{ أمانته } أي ما ائتمن عليه.
قوله تعالى: { وليتق الله ربه }؛ «يتق» مجزومة بحذف حرف العلة - وهو الياء؛ والكسرة دليل عليها - وهنا أردف الاسم الأعظم: { الله } بقوله تعالى: { ربه } تحذيراً من المخالفة؛ لأن «الرب» هو الخالق المالك المدبر؛ فاخشَ هذا الرب الذي هو إلهك أن تخالف تقواه.
قوله تعالى: { ولا تكتموا الشهادة }؛ { لا } ناهية؛ و «الكتمان» الإخفاء؛ و «الشهادة» ما شهد به الإنسان؛ أي لا تخفوا ما شهدتم به لا في أصله، ولا في وصفه؛ في أصله بأن ينكر الشهادة رأساً؛ وفي وصفه بأن يزيد فيها، أو ينقص.
قوله تعالى: { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } أي من يخفيها أصلاً، أو وصفاً، فقد وقع قلبه في الإثم؛ وإنما أضاف الإثم إلى القلب؛ لأن الشهادة أمر خفيّ؛ فالإنسان قد يكتمها، ولا يُعْلَم بها؛ فالأمر هنا راجع إلى القلب؛ ولأن القلب عليه مدار الصلاح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»(210).
قوله تعالى: { والله بما تعملون عليم }؛ «ما» هذه موصولة تفيد العموم، وتشمل كل ما يعمله الإنسان من خير أو شر في القلب، أو في الجوارح؛ وقَدّم { بما تعملون } على متعلّقها لقوة التحذير، وشدته؛ فكأنه حصر علمه فيما نعمل؛ فيكون هذا أشد في بيان إحاطته بما نعمل؛ فيتضمن قوة التحذير؛ وليس مقتضاه حصر العلم على ما نعمل فقط.

الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه إذا لم يجد كاتباً في السفر فإنه يوثق الحق بالرهن المقبوض.
2 - ومنها: عناية الله عز وجل بحفظ أموال عباده؛ يعني أنه سبحانه وتعالى ذكر حتى هذه الصورة: أن الإنسان إذا داين غيره، ولم يجد كاتباً فإنه يرتهن رهناً حفظاً لماله، وخوفاً من النزاع، والشقاق في المستقبل.
3 - ومنها: جواز الرهن؛ لقوله تعالى: { فرهان }؛ ولكن ذلك مشروط - حسبما في الآية - بالسفر سواء كان قصيراً، أو طويلا؛ وبألا نجد كاتباً؛ فهل هذا الشرط معتبر؟ الجواب: دلت السنة على عدم اعتباره: فقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صاعاً من الشعير لأهله، ورهن درعه عند يهودي حتى مات(211)؛ وهذا يدل على جواز الرهن في الحضر حتى مع وجود الكاتب.
فإذا قال قائل: إذا كان الأمر هكذا فما الجواب عن الآية؟ فالجواب عن الآية أن الله عز وجل ذكر صورة إذا تعذر فيها الكاتب فإن صاحب الحق يتوثق لحقه بالرهن المقبوض؛ فذكر هذه الصورة لا على أنها شرط للحكم؛ يعني كأنه قال: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه؛ وإن كنتم في السفر، وليس عندكم كاتب فرهان مقبوضة.
4 - ومن فوائد الآية: أن بعض العلماء استدل بهذه الآية على لزوم القبض في الرهن؛ وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن قبض الرهن شرط لصحته؛ لأن الله جعل القبض وصفاً في الرهن؛ والوصف لازم للموصوف.
والقول الثاني: أن القبض شرط للزوم الرهن - لا لصحته؛ وعلى هذا القول يكون الرهن صحيحاً - وإن لم يُقبَض - لكنه ليس بلازم؛ فللراهن أن يتصرف فيه بما شاء.
والقول الثالث: أن القبض - أعني قبض الرهن - ليس بشرط لا للصحة، ولا للزوم؛ وإنما ذكر الله القبض في هذه الحال؛ لأن التوثق التام لا يحصل إلا به لكون المتعاقدين في سفر؛ وليس ثمة كاتب، فلا يحصل تمام التوثقة بالرهن إلا بقبضه؛ وهذا القول هو الراجح؛ وعليه فالرهن لازم صحيح بمجرد عقده - وإن لم يقبض؛ لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ، وقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً} [الإسراء: 34] ؛ وعلى هذا القول عمل الناس: فترى الرجل يكون راهناً بيته وهو ساكن فيه، أو راهناً سيارته وهو يستعملها؛ ولا تستقيم حال الناس إلا بذلك.
5 - ومن فوائد الآية: أنه إذا حصل الائتمان من بعضنا لبعض لم يجب رهن، ولا إشهاد، ولا كتابة؛ لقوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ ولهذ قال كثير من العلماء: إن هذه ناسخة لما سبق في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282] ، وقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282] ، وقوله تعالى: { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة }؛ والصحيح أنها ليست ناسخة؛ بل مخصِّصة لما سبق.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 06:44 AM   #169
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


6 - ومنها: وجوب أداء الأمانة على من اؤتمن؛ لقوله تعالى: { فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ فإذا وجب أداء الأمانة حرمت الخيانة.
7 - ومنها: أنه لو تلفت العين بيد الأمين فإنه لا ضمان عليه ما لم يتعد، أو يفرط؛ لقوله تعالى: { فليؤد الذي اؤتمن أمانته }؛ فسماها الله سبحانه وتعالى أمانة؛ والأمين يده غير متعدية؛ فلا يضمن إلا إذا حصل تعدٍّ، أو تفريط؛ ومن التعدي إذا أعطي الإنسانُ أمانة للحفظ تصرف فيها - كما يفعل بعض الناس - ببيع، أو شراء، أو نحو ذلك؛ وهذا حرام لا يجوز؛ وإذا أردت أن تفعل فاستأذِن من صاحبها؛ فإن أذن لك صارت عندك قرضاً.
8 - ومن فوائد الآية: أنه يجب على هذا الذي اؤتمن ألا يغتر بثقة الناس به، فيفرط فيما يجب عليه من أداء الأمانة؛ لقوله تعالى: { وليتق الله ربه }؛ فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يتقي الله: قال تعالى: { وليتق الله }، وأردفها بقوله تعالى: { ربه }؛ ففيه فائدة - وهي أن الإنسان في هذه المقامات ينظر إلى مقام الربوبية كما ينظر إلى مقام الألوهية؛ فبنظره إلى مقام الألوهية يفعل هذا تعبداً لله سبحانه وتعالى، وتقرباً له؛ وبنظره إلى مقام الربوبية يحذر المخالفة؛ لأن الرب هو الذي له الخلق، والملك، والتدبير؛ فلا بد أن يقرن الإنسان بين مقام الألوهية، ومقام الربوبية.
9 - ومن فوائد الآية: إثبات ما دلّ عليه هذان الاسمان؛ وهما «الله» ، و «الرب» ؛ فالأول فيه إثبات الألوهية؛ والثاني فيه إثبات الربوبية؛ لأن المعبود لابد أن يكون أهلاً للعبادة؛ والرب لابد أن يكون أهلاً للربوبية؛ ولا يتحقق ذلك إلا بكمال الصفات؛ ولهذا نقول: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية؛ والتوحيدان يستلزمان كمال الأسماء، والصفات؛ ولهذا قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} [مريم: 42] .
10 - ومن فوائد الآية تحريم كتمان الشهادة؛ يعني إخفاءها سواء كان كتمان أصلها، أو وصفها؛ وسواء كان الحامل لها القرابة، والغنى؛ أو البعد، والفقر؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما...} [النساء: 135] الآية.
11 - ومنها: أن كتْم الشهادة من الكبائر؛ لوجود العقوبة الخاصة بها - وهي قوله تعالى: { فإنه آثم قلبه }.
12 - ومنها: عظم كتم الشهادة؛ لأنه أضاف الإثم فيها إلى القلب؛ وإذا أثم القلب أثمت الجوارح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله»(212)؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: «التقوى هاهنا»(213) وأشار إلى صدره؛ فالتقوى في القلب، وليست في اللسان، ولا في الأفعال، ولا في الأحوال؛ فقد يكون الإنسان متقياً بفعله متقياً بقوله غير متقٍ بقلبه: تجده بفعله يتزيّ بزي المسلم الخالص - من إعفاء اللحية، والوقار، والسكينة، وكذلك يقول قول المسلم الخالص: «أستغفر الله»، «اللهم اغفر لي»، ويذكر الله، ويكبر؛ هذه لا شك تقوى في الظاهر؛ والغالب أنها دليل على تقوى الباطن.
13 - ومن فوائد الآية: عموم علم الله سبحانه وتعالى بكل ما نعمل؛ لقوله تعالى: { بما تعملون عليم }؛ فإن { ما } اسم موصول؛ والاسم الموصول يفيد العموم، فيشمل كل ما نعمل من أعمال القلب، وأعمال الجوارح.
إذا قال قائل: ما فائدة التقديم هنا - إن قيل: لمراعاة الفواصل قلنا: فالنون تأتي في الفواصل كثيراً، مثل قوله تعالى: {إنه خبير بما تفعلون} [النمل: 88] ؛ وإن قيل: للحصر قلنا: لا يصح؛ لأن الله يعلم كل شيء؛ لا يختص علمه بما نعمل فقط؛ فلا وجه للحصر؛ إذاً ما الفائدة؟.
فالجواب: الفائدة شدة التحذير، والتنبيه، كأنه يقول: لو لم يعلم شيئاً - وحاشاه من ذلك - لكان عالماً بعملنا؛ فمن قوة التحذير والإنذار جاء الكلام على وجه الحصر الإضافي.
14 - إذا قال قائل: هل نستفيد من هذا أن من أسماء الله «العليم»؟ قلنا: ربما نقول ذلك؛ وقد لا نقوله؛ قد نقول: إن الاسم إذا قيد بمتعلِّق فإنه ينقلب إلى وصف، فيكون «عليم بكذا» ليس كقوله تعالى: {وهو السميع العليم} [البقرة: 137] ؛ لأن هذا قُيد: «عليم بـ...»، فكان وصفاً، وليس اسماً؛ أما لو قال تعالى: {وهو العليم الحكيم} [الزخرف: 84] لكان هذا اسماً بلا شك.
15 - ومن فوائد الآية: التحذير من المخالفة بكون الله سبحانه وتعالى عالماً بما نعمل؛ وجه التحذير: تقديم المعمول.
16 - ومنها: الرد على غلاة القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم بأفعال العباد إلا إذا وقعت؛ فإن قوله تعالى: { بما تعملون عليم } يتضمن ما قد عملناه بالفعل، وما سنعمله.

القرآن
)لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:284)
التفسير:
{ 284 } قوله تعالى: { لله ما في السموات وما في الأرض } جملة خبرية قُدِّم فيها الخبر لإفادة الحصر؛ يعني: أن كل شيء في السموات أو في الأرض فهو لله خلقاً، وملكاً، وتدبيراً؛ وليس لأحد غيره فيه ملك.
قوله تعالى: { وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه }؛ جملة شرطية جوابها: { يحاسبكم به الله }.
وقوله تعالى: { وإن تبدوا } أي وإن تظهروا؛ { ما في أنفسكم } أي ما في قلوبكم؛ { أو تخفوه } يعني تسرُّوه، فلا يطلع عليه أحد.
قوله تعالى: { يحاسبكم به الله } أي يُطْلِعكم عليه على وجه المحاسبة؛ ولا يلزم من المحاسبة العقوبة؛ ولهذا قال تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }.
قوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فيها قراءتان؛ قراءة بالسكون؛ وقراءة بالرفع؛ وجه قراءة السكون أنه معطوف على { يحاسبكم } الذي هو جواب الشرط؛ والمعطوف على المجزوم مجزوم؛ ووجه قراءة الرفع أنه على سبيل الاستئناف؛ فالفاء استئنافية تفيد قطع الجملة التي بعدها عما قبلها؛ و «المغفرة» ستر الذنب مع التجاوز عنه؛ لأن مادة «غفر» مأخوذة من المغفر - وهو ما يلبسه المقاتل على رأسه ليتقي بها السهام؛ وهو جامع بين ستر الرأس، والوقاية؛ و{ يعذب من يشاء } أي يعاقب.
قوله تعالى: { والله على كل شيء قدير } أي يوجد المعدوم، ويعدم الموجود بدون عجز؛ لقوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44] .
ولما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا! بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} ، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير؛ فلما اقترأها القوم ذَلَّت بها ألسنتهم فأنزل الله في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285] ؛ فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال تعالى: «نعم»؛ {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال تعالى: «نعم»؛ {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال تعالى: «نعم»؛ {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال تعالى: «نعم»(214).
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: عموم ملك الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { لله ما في السموات وما في الأرض }؛ وليس معلوماً لنا سوى السموات والأرض؛ ويدخل في السموات الكرسي، والعرش، والملائكة، وأرواح بني آدم التي تكون في السماء، كأرواح المؤمنين في الجنة؛ لأن المراد بذلك كل ما علا؛ بل ويشمل ما بين السماء والأرض من الأفلاك، والنجوم، وغير ذلك؛ لأنها داخلة في السموات؛ لأنها في جهتها؛ ويدخل في الأرض العاقل، وغير العاقل؛ فيشمل بني آدم، والجن، ويشمل الحيوانات الأخرى، ويشمل الأشجار، والبحار، والأنهار، وغير ذلك.
2 - ومن فوائد الآية: أن الله عز وجل هو القائم على هذه السموات والأرض يدبرها كما يشاء؛ لأنها ملكه.
3 - ومنها: أن الله لا شريك له في ذلك الملك؛ يستفاد ذلك من تقديم الخبر الذي حقه التأخير؛ وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ و«الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 16 Mar 2010, 06:45 AM   #170
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


4 - ومنها: وجوب إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية؛ لأن الإقرار بالربوبية يستلزم الإقرار بالألوهية - ولابد؛ ولهذا قال الله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] ؛ فجعل الربوبية موجباً لعبادته؛ وفي سورة النمل قال تعالى: {أمن خلق السموات والأرض...} [النمل: 60] إلى آخر الآيات التي فيها تختم كل آية بقوله تعالى: {أإله مع الله} [النمل: 60] يعني: فإذا كان هو المنفرد بما ذُكِر فإنه المنفرد بالألوهية.
5 - ومن فوائد الآية: إثبات صفات الكمال لله عز وجل؛ لأننا إذا تأملنا في هذا الملك الواسع العظيم، وأنه يدبَّر بانتظام لا مثيل له علمنا بأن الذي يدبره كامل الصفات؛ فيؤخذ منه كل صفة كمال لله، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، والعزة، والحكمة، وغير ذلك من صفاته عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يقوم بملك هذه الأشياء العظيمة إلا من هو متصف بصفات الكمال.
6 - ومنها: إثبات أن السموات أكثر من واحدة؛ وهي سبع بنص القرآن، والسنة، والإجماع؛ أما القرآن فمثل قوله تعالى: {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} [المؤمنون: 86] ، وقوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} [الطلاق: 12] ؛ وأما السنة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الرياح وما ذرين...»(215) الحديث؛ وأما الأرض فإنها جاءت بلفظ الإفراد في القرآن، وجاءت في السنة بلفظ الجمع؛ وعددها سبع: جاء ذلك في صريح السنة، وفي ظاهر القرآن؛ ففي ظاهر القرآن: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] ؛ لأن المماثلة في الوصف متعذرة؛ فلم يبق إلا العدد؛ وأما في السنة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين»(216).
7 - ومن فوائد الآية: عموم علم الله وسعته؛ لقوله تعالى: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }؛ ولا محاسبة إلا من بعد علم.
8 - ومنها: تحذير العبد من أن يخفي في قلبه ما لا يرضاه الله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا علم بأن الله عالم بما يبدي وبما يخفي فسوف يراقب الله سبحانه وتعالى خوفاً من أن يحاسَب على ما أخفاه كما يحاسَب على ما أبداه.
9 - ومنها: إثبات أن العبد يحاسب على ما في نفسه؛ وظاهره العموم؛ لقوله تعالى: { ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }؛ ولكن جاءت النصوص الأخرى بالتفصيل في ذلك على النحو التالي:
الأول: أن يكون ما يطرأ على النفس وساوس لا قرار لها، ولا ركون إليها؛ فهذه لا تضر؛ بل هي دليل على كمال الإيمان؛ لأن الشيطان إذا رأى من قلب الإنسان إيماناً ويقيناً حاول أن يفسد ذلك عليه؛ ولهذا لما شكا الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجدونه في أنفسهم من هذا قال صلى الله عليه وسلم: «وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم؛ قال: ذاك صريح الإيمان»(217)؛ وفي حديث آخر: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»(218).
الثاني: أن يهمّ بالشيء المحرم، أو يعزم عليه، ثم يتركه؛ وهذا أنواع:
النوع الأول: أن يتركه لله؛ فيثاب على ذلك، كما جاءت به السنة فيمن همّ بسيئة فلم يعملها أنها تكتب حسنةً كاملة؛ قال الله تعالى: «لأنه تركها من جرّائي»(219)، أي من أجلي.
النوع الثاني: أن يهمّ بها، ثم يتركها عزوفاً عنها؛ فهذا لا له، ولا عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات؛ وإنما لكل امرئ ما نوى»(220).
النوع الثالث: أن يتمناها، ويحرص عليها؛ ولكن لا يعمل الأسباب التي يحصِّلها بها؛ فهذا يعاقب على نيته دون العقاب الكامل، كما جاء في الحديث في فقير تمنى أن يكون له مثل مال غني كان ينفقه في غير مرضاة الله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهو بنيته؛ فهما في الوزر سواء»(221).
النوع الرابع: أن يعزم على فعل المعصية، ويعمل الأسباب التي توصل إليها؛ ولكن يعجز عنها؛ فعليه إثم فاعلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه»(222).
10 - ومن فوائد الآية: إثبات محاسبة العبد؛ لقوله تعالى: { يحاسبكم به الله }؛ ولهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»(223)؛ فينبغي للإنسان أن يكون كيساً يحاسب نفسه قبل أن يحاسَب؛ وإني لأعجب أن كثيراً من الناس إذا كان له تجارة دنيوية فإنه لا ينام حتى ينظر في الدفاتر: ما الذي خرج؟ وما الذي دخل؟ وما الذي بقي في ذمم الناس؟ وما الذي بيع؟ وما الذي اشتري؟ إما بنفسه؛ وإما بمن يجعلهم على هذا؛ ولكننا في أعمالنا الأخروية عندنا تفريط - يعني يندر يوماً من الأيام أن تقول: ماذا عملت اليوم؟ وتستغفر مما أسأت فيه، أو فرطت؛ وتحمد الله على ما قمت به من طاعته.
11 - ومن فوائد الآية: أن الله سبحانه وتعالى لم يصرح بالمعاقبة؛ ولا يلزم من المحاسبة المؤاخذة؛ لقوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }؛ ويؤيده ما ثبت في الصحيح أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، فيقرره بذنوبه، ويقول: «عملت كذا في يوم كذا» حتى يقر؛ فإذا رأى أنه قد هلك يقول الله عز وجل: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»(224).
12 - ومنها: سعة علم الله عز وجل، وكان من أسمائه: «الواسع» أي ذو السعة في جميع صفاته.
13 - ومنها: إثبات المشيئة لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }؛ ومشيئته تعالى مقرونة بالحكمة؛ لقوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] ؛ كل شيء أضافه الله إلى مشيئته فاعلم أنه مقرون بحكمة؛ لا يشاء شيئاً إلا لحكمة - أياً كان هذا الشيء.
14 - ومنها: أنه بعد المحاسبة إما أن يغفر للإنسان؛ وإما أن يعذبه؛ لقوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فإن كان كافراً عذب؛ وإن كان مسلماً كان تحت المشيئة، كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] .
15 - ومنها: إثبات القدرة لله، وعمومها في كل شيء؛ لقوله تعالى: { والله على كل شيء قدير }؛ فلا أحد يقدر على كل شيء إلا الله عز وجل؛ وأما المخلوق فقدرته محدودة.
فإن قيل: لماذا ختم الآية بالقدرة من بعد قوله تعالى: { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء }؛ ولم يختمها بالرحمة، ولا بالعقوبة؟
فالجواب: أن المحاسبة تكون بعد البعث؛ والبعث يدل على القدرة؛ كما قال تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} [الأحقاف: 33] ، وقال تعالى: {إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} [فصلت: 39] .
وجه آخر: لو ختمت الآية بما يقتضي الرحمة وفيها التعذيب لم يكن هناك تناسب؛ ولو ختمت بما يقتضي التعذيب وفيها مغفرة لم يكن هناك تناسب؛ والقدرة تناسب الأمرين: تناسب المغفرة، وتناسب التعذيب؛ لأن المغفرة، والتعذيب كلٌّ لا يكون إلا بقدرة الله عز وجل.



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سورة البقره كامله مكتوبه لناالله دراسات وأبحاث علم الرُقى والتمائم . الإدارة العلمية والبحوث Studies and science research spells and 8 15 Jun 2012 01:59 PM
حلمي بعد قراءة سورة البقره انا الورد ‎تعطير الأنام في تأويل الرؤى والأحلام - تفسير ابن الورد الحسني 1 12 Dec 2010 08:41 PM
عاجل وضروري (اقرأ سورة البقره) ام منار ‎تعطير الأنام في تأويل الرؤى والأحلام - تفسير ابن الورد الحسني 1 25 Jul 2007 02:39 PM
فضل سورة البقره مع شرح للايتان (الاولى والثانيه) ابرهيم الرفاعى منهج السلف الصالح . The Salafi Curriculum 0 21 Mar 2007 05:40 PM

 
مايُكتب على صفحات المركز يُعبّر عن رأى الكاتب والمسؤولية تقع على عاتقه


علوم الجان - الجن - عالم الملائكة - ابحاث عالم الجن وخفاياه -غرائب الجن والإنس والمخلوقات - فيديو جن - صور جن - أخبار جن - منازل الجن - بيوت الجن- English Forum
السحر و الكهانة والعرافة - English Magic Forum - الحسد والعين والغبطة - علم الرقى والتمائم - الاستشارات العلاجية - تفسير الرؤى والاحلام - الطب البديل والأعشاب - علم الحجامة

الساعة الآن 12:38 AM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2011-2012
جميع الحقوق محفوظة لمركز دراسات وأبحاث علوم الجان العالمي