اعلانات
اعلانات     اعلانات
 


بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ : روى الإمام مسلم عن أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مَن صام رمضان ثم أتبَعَه ستًّا من شوَّال، كان كصيام الدهر))؛ وروى الإمام الطبراني عن عبدالله ابن عمررضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صام رمضانَ وأتبعه ستًّا من شوَّالٍ خرج من ذنوبِه كيومِ ولدته أمُّه ) .

اللهم ربنا تقبل منا الصيام والصلاة والقرآن والقيام والدعاء وسائر صالح الأعمال ،وأجعلنا ممن قام ليلة القدر واجعلنا فيها من الفائزين المقبولين وكل عام ونحن وجميع المسلمين في خيرورخاء وصحة وعافية وسعادة وأمن وأمان .


           :: جنوب إفريقيا: شعوذة وسحر لربح مباريات كرة القدم . (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر في أمم إفريقيا.. الشرطة تشارك وزملاء يهاجمون بعضهم . (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر في الكرة الإفريقية داء أم دواء وهمي ؟ (آخر رد :ابن الورد)       :: رحلتي الخطيرة في إستكشاف السحر الأسود في أدغال أفريقيا - التوجو . (آخر رد :ابن الورد)       :: شاهد عيان .. سحر في أفريقيا . (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر والشعوذة تجارة رائجة في أفريقيا . (آخر رد :ابن الورد)       :: قبائل تعيش على السحر الأسود: ترقص مع الشياطين؟ (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر والشعوذة.. على كل شكل ولون في إفريقيا . (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر فى أفريقيا.. طريقة لتفسير الحياة والدين والفوز فى مباريات كرة القدم (آخر رد :ابن الورد)       :: حلم (آخر رد :ابن الورد)      

 تغيير اللغة     Change language
Google
الزوار من 2005:
Free Website Hit Counter

طب الأعشاب . علمها وطبها وفوائدها Department of Herbal Medicine. Flag and Dobaa and benefits كل ماجُرب فنفع مع خلو مسؤولية الموقع عن أى وصفة غير معتمدة من قبل المختصين فى الموقع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04 Apr 2010, 02:37 AM   #11
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها؟

ومنها: أن المعاصي تفسد العقل فإن للعقل نورا والمعصية تطفيء نور العقل ولابد وإدا طفئ نوره ضعف ونقص

ص -68- فصل:
وقال بعض السلف: ما عصى الله أحد حتى يغيب عقله وهذا ظاهر فإنه لو حضره عقله لحجزه عن المعصية وهو في قبضة الرب تعالى أو قهره هو مطلع عليه وفي داره وعلى بساطه وملائكته شهود عليه ناظرون إليه وواعظ القرآن ينهاه وواعظ الإيمان ينهاه وواعظ الموت ينهاه وواعظ النار ينهاه والذي يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما يحصل له من السرور واللذة بها فهل يقدم على الاستهانة بذلك كله والاستخفاف به ذو عقل سليم
فصل:
ومنها: أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين كما قال بعض السلف: في قوله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قال هو الذنب بعد الذنب
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب
وقال غيره: لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم
وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانا ثم يغلب حتى يصير طبعا وقفلا وختما فيصير القلب في غشاوة وغلاف فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.
فصل:
ومنها: أن الذنوب تدخل العبد تحت لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لعن على معاصي والتي غيرها أكبر منها فهي أولى بدخول فاعلها تحت اللعنة





ص -69- فلعن الواشمة والمستوشمة والواصلة والموصولة والنامصة والمتنمصة والواشرة والمستوشرة ولعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ولعن المحلل والمحلل له ولعن السارق ولعن شارب الخمر وساقيها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه ولعن من غير منار الأرض وهي أعلامها وحددوها ولعن من والديه ولعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا يرميه بسهم ولعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ولعن من ذبح لغير الله ولعن من أحدث حدثا أو آوى محدثا ولعن المصورين ولعن من عمل عمل قوم لوط ولعن من سب أباه وأمه ولعن من كمه أعمى عن الطريق ولعن من أتى بهيمة ولعن من وسم دابة في وجهها ولعن من ضار مسلما أو مكر به ولعن زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ولعن من أفسد امرأة على زوجها أو مملوكا على سيده ولعن من أتى امرأة في دبرها وأخبر أن من باتت مهاجرة لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ولعن من انتسب إلى غير أبيه وأخبر أن من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه ولعن من سب الصحابة
وقد لعن الله "في كتابه" من أفسد فى الأرض وقطع رحمه وآذاه وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم
ولعن من كتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى
ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة
ولعن من جعل سبيل الكافر أهدى من سبيل المسلم
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس





ص -70- لبسة الرجل ولعن الراشي والمرتشي والرائش وهو الواسطة في الرشوة ولعن على أشياء أخر غير هذه
فلو لم يكن في فعل ذلك إلا رضاء فاعله بأن يكون ممن يعلنه الله ورسوله وملائكته لكان في ذلك ما يدعو إلى تركه.
فصل:
ومنها: حرمان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوة الملائكة فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
فهذا دعاء الملائكة للمؤمنين التائبين المتبعين لكتابه وسنة رسوله الذين لا سبيل لهم غيرهما فلا يطمع غير هؤلاء بإجابة هذه الدعوة إذا لم يتصف بصفات المدعو له بها والله المستعان
فصل:
ومن عقوبات المعاصي ما رواه البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا فيقص عليه ما شاء الله أن يقص وإنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما انبعثا لي وإنهما قالا لي: انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة





ص -71- وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه ويشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ فقالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور وإذا فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضووا فقال: قلت لهم من هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر أحمر مثل الدم فإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما شاء الله أن يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيغفر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق فيسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فيغفر له فاه فيلقمه حجرا قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة أو كأكره راء رجلا مرأى وإذا هو عنده نار يحشها ويسعى حولها قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا حتى أتينا على روضة معتمة فيها من كل نور الربيع وإذا بين





ص -72- ظهراني الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط قال: قلت: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا إلى دوحة عظيمة لم أرى دوحة قط أعظم منها ولا أحسن قال: قالا لي: ارق فيها فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة قال: فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر منهم كأقبح ما أنت راء قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا وقد ذهب ذلك السوء عنهم قال: قالا لي: هذه جنة عدن وهاذاك منزلك قال: فسما بصري صعدا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء قال: قالا لي: هذا منزلك قلت لهما: بارك الله فيكما فذراني فأدخله قالا: أما الآن فلا وأنت داخلة قلت لهما: فإني رأيت منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك
أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلوة المكتوبة
وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق
وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا



ص -73- وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم
وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم
وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة وفي رواية البرقاني: ولد على الفطرة فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد المشركين
وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم
فصل:
ومن آثار الذنوب والمعاصي: أنها تحدث في الأرض أنواعا من الفساد في المياه والهوى والزروع والثمار والمساكن قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال مجاهد: إذا ولي الظالم سعى بالظلم "والفساد" فيحبس الله بذلك القطر فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ثم قرأ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر وقال عكرمة: ظهر الفساد في البر والبحر أما إني لا أقول لكم: بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء وقال قتادة: أما البر فأهل العمود وأما البحر فأهل القرى والريف
قلت: وقد سمى الله تعالى الماء العذب بحرا فقال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} وليس في





ص -74- العالم بحر حلو واقفا وإنما هي الأنهار الجارية والبحر المالح هو الساكن فتسمى القرى التي على المياه الجارية باسم تلك المياه وقال ابن زيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قال الذنوب
قلت: أراد أن الذنوب سبب الفساد الذي ظهر وإن أراد أن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها فيكون اللام في قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} لام العاقبة والتعليل وعلى الأول: فالمراد بالفساد والنقص والشر والآلام التي يحدثها الله فى الأرض بمعاصي العباد فكلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم عقوبة كما قال بعض السلف: كلما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة
والظاهر والله أعلم أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها ويدل عليه قوله تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ} فهذا حالنا وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا ولو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة
ومن تأثير المعاصي في الأرض: ما يحل بها من الخسف والزلازل ويمحق بركتها وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديار ثمود فمنعهم من دخول ديارهم إلا وهم باكون ومن شرب مياههم ومن الاستسقاء من أبارهم



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:38 AM   #12
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


حتى أمر أن يعلف العجين الذي عجن بمياههم لنواضح لتأثير شؤم المعصية في الماء وكذلك تأثير شؤم الذنوب في نقص الثمار وما ترى به من الآفات
وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده في ضمن حديث قال: "وجدت في خزائن بعض بني أمية حبة حنطة الحبة بقدر نواة التمرة وهي في صرة مكتوب عليها: هذا كان ينبت في زمن من العدل" وكثير من هذه الآفات أحدثها الله سبحانه وتعالى بما أحدث العباد من الذنوب



ص -75- وأخبرني جماعة من شيوخ الصحراء أنهم كانوا يعهدون الثمار أكبر مما هي الآن وكثير من هذه الآفات التي تصيبها لم يكونوا يعرفونها وإنما حدثت من قرب
وأما تأثير الذنوب في الصور والخلق فقد روى الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلق الله آدم وطوله في السماء ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن" فإذا أراد الله أن يطهر الأرض من الظلمة والفجرة والخونة يخرج عبدا من عباده من أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم فيملأ الأرض قسطا كما ملئت جورا ويقتل المسيح اليهود والنصارى ويقيم الدين الذي بعث الله به رسوله وتخرج الأرض بركتها وتعود كما كانت حتى إن العصابة من الناس ليأكلون الرمانة ويستظلون بقحفها ويكون العنقود من العنب وقر بعير وأن اللقحة الواحدة لتكفي الفئام من الناس وهذا لأن الأرض لما طهرت من المعاصي ظهرت فيها آثار البركة من الله تعالى التي محقتها الذنوب والكفر ولاريب أن العقوبات التي أنزلها الله في الأرض بقية آثارها سارية في الأرض تطلب ما يشاركها من الذنوب التي هي آثار تلك الجرائم التي عذبت بها الأمم فهذه الآثار في الأرض من آثار العقوبات كما أن هذه المعاصي من آثار الجرائم فتناسبت كلمة الله وحكمه الكوني أولا وآخرا وكان العظيم من العقوبة للعظيم من الجناية والأخف للأخف وهكذا يحكم سبحانه بين خلقه في دار البرزخ ودار الجزاء
وتأمل مقارنة الشيطان ومحله وداره فإنه لما قارن العبد واستولى عليه نزعت البركة من عمره وعمله وقوله ورزقه ولما أثرت طاعته في الأرض ما أثرت





ص -76- نزعت البركة من كل محل ظهرت فيه طاعته وكذلك مسكنه لما كان الجحيم لم يكن هناك شيء من الروح والرحمة والبركة
فصل:
ومن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن فالغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد وأشرف الناس وأعلاهم وهمة أشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغير الخلق على الأمة والله سبحانه أشد غيرة منه كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه والله أغير مني"
وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:في خطبة الكسوف: "يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته"0
وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال: "لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه" فجمع في هذا الحديث بين الغيرة التي أصلها كراهة القبائح وبغضها وبين محبة العذر الذي يوجب كمال العدل والرحمة والإحسان والله سبحانه مع شدة غيرته يحب أن يعتذر إليه عبده ويقبل عذر من اعتذر إليه وإنه لا يؤاخذ عبيده بارتكاب ما يغار من ارتكابه حتى يعذر إليهم ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه إعذارا وإنذارا وهذا غاية المجد والإحسان ونهاية الكمال فإن كثيرا ممن تشتد غيرته من المخلوقين يحمله شدة الغيرة على سرعة الإيقاع والعقوبة من غير إعذار منه ومن غير قبول لعذر من





ص -77- اعتذر إليه بل يكون له في نفس الأمر عذر ولا تدعه شدة الغيرة أن يقبل عذره وكثير ممن تقبل المعاذير يحمله على قبولها قلة الغيرة حتى يتوسع في طرق المعاذير ويرى عذرا ما ليس بعذر حتى يعذر كثير منهم بالقذر وكل منهما غير ممدوح على الإطلاق
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من الغيرة ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله فالتي يبغضها الله الغيرة في غير ريبة" وذكر الحديث
وإنما الممدوح اقتران الغيرة بالعذر فيغار في محل الغيرة ويعذر في موضع العذر ومن كان هكذا فهر الممدوح حقا
ولما جمع سبحانه صفات الكمال كلها كان أحق بالمدح من كل أحد ولايبلغ أحد أن يمدحه كما ينبغي له بل هو كما مدح نفسه وأثنى على نفسه فالغيور قد وافق ربه سبحانه في صفة من صفاته ومن وافق الله في صفه من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه وأدخلته على ربه وأدنته منه وقربته من رحمته وصيرته محبوبا له فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء كريم يحب الكرماء عليم يحب العلماء قوي يحب المؤمن القوي وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف حييٌ يحب أهل الحياء جميل يحب أهل الجمال وتر يحب أهل الوتر
ولو لم يكن في الذنوب والمعاصي إلا أنها توجب لصاحبها ضد هذه الصفات وتمنعه من الاتصاف بها لكفى بها عقوبة فإن الخطرة تنقلب وسوسة والوسوسة تصير إرادة والإرادة تقوى فتصير عزيمة ثم تصير فعلا ثم تصير صفة لازمة وهيئة ثابتة راسخة وحينئذ يتعذر الخروج منها كما يتعذر الخروج من صفاته القائمة به
والمقصود أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على





ص -78- نفسه وأهله وعموم الناس وقد تضعف في القلب جدا حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح بل يحسن الفواحش والظلم لغيره ويزينه له ويدعوه إليه ويحثه عليه ويسعى له في تحصيله ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة حرام عليه وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه له فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة
وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فتدفع السوء والفواحش وعدم الغيرة تميت القلب فتموت الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة ومثل الغيرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه فإذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلا ولم يجد دافعا فتمكن فكان الهلاك
ومثلها مثل صياصي الجاموس التي يدفع بها عن نفسه وولده فإذا كسرت طمع فيه عدوه.
فصل:
ومن عقوباتها ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وهو أصل كل خير وذهابه ذهاب الخير أجمعه
وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحياء خير كله"
وقال" إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وفيه تفسيران:



ص -79- أحدهما: أنه على التهديد والوعيد والمعنى من لم يستح فإنه يصنع ما شاء من القبائح إذ الحامل على تركها الحياء فإذا لم يكن هناك حياء يردعه عن القبائح فإنه يواقعها وهذا تفسير أبي عبيدة
والثاني: أن الفعل إذا لم تستح من الله فافعله وإنما الذي ينبغي تركه هو ما يستحي منه من الله وهذا تفسير الإمام أحمد في رواية ابن هانئ
فعلى الأول يكون تهديدا كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وعلى الثاني يكون إذنا وإباحة
فإن قيل: فهل من سبيل إلى حمله على المعنيين؟
قلت: لا ولا على قول من يحمل المشترك على جميع معانيه لما بين الإباحة والتهديد من المنافاة ولكن اعتبار أحد المعنيين يوجب اعتبار الآخر
والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية حتى إنه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعل والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة لم يبق في صلاحه مطمع


وإذا رأى إبليس طلعة وجهه حياء وقال فديت من لايفلح

والحياء مشتق من الحياة والغيث يسمى حيا بالقصر لأن به حياة الأرض والنبات والدواب وكذلك سميت بالحياء حياة الدنيا والآخرة فمن لا حياء فهو ميت في الدنيا شقي في الآخرة وبين الذنوب وبين قلة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطرفين وكل منهما يستدعي الآخر ويطلبه حثيثا ومن استحي من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه ومن لم يستح من الله تعالى من معصيته لم يستح الله من عقوبته.

ص -80- فصل:
ومن عقوبات الذنوب: أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله وتضعف وقاره في قلب العبد ولابد شاء أم أبى ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه وربما اغتر المغتر وقال: إنما يحملني على المعاصي حسن الرجاء وطمعي في عفوه لا ضعف عظمته في قلبي وهذا من مغالطة النفس فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد "تقتضي تعظيم حرماته" وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حق قدره وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه و يكبره و يرجو وقاره ويجله من يهون عليه أمره ونهيه؟ هذا من أمحل المحال وأبين الباطل وكفى بالعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله وتعظيم حرماته ويهون عليه حقه
ومن بعض عقوبة هذا: أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم ويستخفون به كما هان عليه أمره واستخف به فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس وعلى قدر خوفه من الله يخافه الخلق وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظمه الناس وكيف ينتهك عبد حرمات الله ويطمع أن لا ينتهك الناس حرماته؟ أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟ أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق
وقد أشار سبحانه إلى هذا في كتابه عند ذكر عقوبات الذنوب وأنه أركس أربابها بما كسبوا وغطى على قلوبهم وطبع عليها بذنوبهم وأنه نسيهم كما نسوه وأهانهم كما أهانوا دينه وضيعهم كما ضيعوا أمره ولهذا قال تعالى في آية سجود المخلوقات له: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} فإنهم لما هان عليهم السجود له واستخفوا به ولم يفعلوه أهانهم الله فلم يكن

ص -81- لهم من مكرم بعد أن أهانهم الله ومن ذا يكرم من أهانه الله أو يهن من أكرمه الله.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تستدعى نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه وهناك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فأمر بتقواه ونهي أن يتشبه عباده المؤمنون بمن نسيه بترك تقواه وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه أي أنساه مصالحها وما ينجيها من عذابه وما يوجب له الحياة الأبدية وكمال لذتها وسرورها ونعيمها فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه والقيام بأمره فترى العاصي مهملا لمصالح نفسه مضيعا لها وقد أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا قد انفرطت عليه مصالح دنياه وآخرته وقد فرط في سعادته الأبدية واستبدل بها أدني ما يكون من لذة إنما هي سحابة صيف أو خيال طيف كما قيل:

أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:39 AM   #13
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


وأعظم العقوبات نسيان العبد لنفسه وإهمال لها وإضاعته حظها ونصيبها من الله وبيعه ذلك بالغبن والهوان وأبخس الثمن فضيع من لا غنى له عنه ولا عوض له منه واستبدل به من عنه كل الغنى أو منه كل العوض.

من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض

فالله سبحانه يعوض كل ما سواه ولا يعوض منه شيء ويغني عن

ص -82- كل شيء ولا يغني عنه شيء ويجير من كل شيء ولا يجير منه شيء ويمنع من كل شيء ولا يمنع منه شيء فكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين؟ وكيف ينسى ذكره ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه فيخسرها ويظلمها أعظم الظلم؟ فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه وما ظلمه ربه ولكن هو الذي ظلم نفسه
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تخرج العبد من دائرة الإحسان وتمنعه ثواب المحسنين فإن الإحسان إذا باشر القلب منعه عن المعاصي فإن من عبد الله كأنه يراه لم يكن ذلك إلا لاستيلاء ذكره ومحبته وخوفه ورجائه على قلبه بحيث يصير كأنه يشاهده وذلك يحول بينه وبين إرادة المعاصي فضلا عن مواقتها فإذا خرج من دائرة الإحسان فإنه صحةه رفقته الخاصة وعيشهم الهنيء ونعيمهم التام فإن أراد الله به خيرا أقره في دائرة عموم المؤمنين فإن عصاه بالمعاصي التي تخرجه من دائرة الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربه وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن" فإياكم إياكم والتوبة معروضة بعد.
فصل:
ومن فاته رفقة المؤمنين وحسن دفاع الله عنهم فإن الله يدافع عن الذين آمنوا وفاته كل خير رتبه الله في كتابه على الإيمان وهو نحو مائة خصلة





ص -83- كل خصلة منها خير من الدنيا وما فيها
فمنها الأجر العظيم: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً}
ومنها الدفع عنهم شرور الدنيا والآخرة: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}
ومنها استغفار الملائكة حملة العرش لهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}
ومنها موالاة الله لهم ولا يذل من مولاه الله قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}
ومنها أمره ملائكته بتثبيتهم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}
ومنها أن لهم الدرجات عند ربهم والمغفرة والرزق الكريم
ومنها العزة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}
ومنها معية الله لأهل الإيمان: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}
ومنها الرفعه في الدنيا والآخرة: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
ومنها إعطاؤهم كفلين من رحمته وإعطاؤهم نورا يمشون به ومغفرة ذنوبهم
ومنها الود الذي يجعله سبحانه لهم وهو أنه يحبهم يحببهم إلى ملائكته وأنبيائه وعباده الصالحين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}.



ص -84- ومنها أمانهم من الخوف يوم يشتد الخوف: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
ومنها: أنهم المنعم عليهم الذين أمرنا أن نسأله أن يهدينا إلى صراطهم في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة
ومنها أن القرآن إنما هو هدى لهم وشفاء: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}
والمقصود أن الإيمان سبب جالب لكل خير وكل خير في الدنيا والآخرة فسببه الإيمان وكل شرر في الدنيا فسببه عدم الإيمان فكيف يهون على العبد أن يرتكب شيئا يخرجه من دائرة الإيمان ويحول بينه وبينه ولكن لا يخرج من دائرة عموم المسلمين؟ فإن استمر على الذنوب وأصر عليها خيف عليه أن يرين قلبه فيخرجه عن الإسلام بالكلية ومن هاهنا اشتد خوف السلف كما قال بعضهم: أنتم تخافون الذنوب وأنا أخاف الكفر.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة أو تعوقه أوتوقفه وتقطعه عن السير فلا تدعه يخطوا إلى الله خطوة هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه فالذنب يحجب الواصل ويقطع السائر وينكس الطالب والقلب إنما يسير إلى الله بقوته فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيره فإن زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه والله المستعان
فالذنب إما أن يميت القلب أو يمرضه مرضا مخوفا أو يضعف قوته ولا بد حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي صلى الله





ص -85- عليه وسلم وهي: "الهم والحزن والكسل والعجز والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجل" وكل اثنين منها قرينان
فالهم والحزن قرينان فإن المكروه الوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقعه أحدث الهم وإن كان من أمر ماض قد وقع أحدث الحزن
والعجز والكسل قرينان فإن تخلف العبد عن أسباب الخير والفلاح إن كان لعدم قدرته فهو العجز وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل
والجبن والبخل قرينان فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن وإن كان بماله فهو البخل
وضلع الدين وقهر الرجال قرينان فإن استعلاء الغير عليه إن كان بحق فهو من ضلع الدين وإن كان بباطل فهو قهر الرجال
والمقصود أن الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة: "لجهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء" ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله تعالى وتقدس وتحول عافيته إلى نقمته وتجلب جميع سخطه.
فصل:
ومن عقوبات الذنوب: أنها تزيل النعم وتحل النقم فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب ولا حلت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة" وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}





ص -86- وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
فأخبر الله تعالى أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه فيغير طاعة الله بمعصيته وشكره بكفره وأسباب رضاه بأسباب سخطه فإذا غير غُير عليه جزاء وفاقا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فإن غير المعصية بالطاعة غير الله عليه العقوبة بالعافية والذل بالعز وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}
وفي بعض الآثار الإلهية عن الرب تبارك وتعالى أنه قال: "وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب ثم ينتقل عنه إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يجب إلى ما يكره ولا يكون عبد من عبيدي على ما أكره ثم ينتقل عنه إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب"
ولقد أحسن القائل:

إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم

وخطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم

وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم

وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم

فتلك مساكنهم بعدهم شهود عليهم ولاتتهم

وما كان شيء عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم

فكم تركوا من جنان ومن قصور وأخرى عليهم أطم

صلوا بالجحيم وفات النعيم وكان الذي نالهم كالحلم



ص -87- فصل:
ومن عقوباتها: ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفا مرعوبا فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أمانا ومن عصاه انقلبت مأمنه مخاوف فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر إن حركت الريح الباب قال: جاء الطلب وإن سمع وقع قدم خاف أن يكون نذيرا بالعطب يحسب أن كل صيحة عليه وكل مكروه قاصد إليه فمن خاف الله آمنه من كل شيء ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء:

بذا قضاء الله بين الخلق مذ خلقوا إن المخاوف والإجرام في قرن

ومن عقوباتها: أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب فيجد المذنب نفسه مستوحشا قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه وبينه وبين الخلق وبينه وبين نفسه وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة وأمرُّ العيش عيش المستوحشين الخائفين وأطيب العيش عيش المستأنسين فلو نظر العاقل ووازن بين لذة المعصية وما توقعه من الخوف والوحشة لعلم سوء حاله وعظيم غبنه إذ باع أنس الطاعة وأمنها وحلاوتها بوحشة المعصية وما توجبه من الخوف والضرر الداعي له كما قيل:

فإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس

وسر المسألة أن الطاعة توجب القرب من الرب سبحانه فكلما اشتد القرب قوى الأنس والمعصية توجب البعد من الرب وكلما زاد البعد قويت الوحشة ولهذا يجد العبد وحشة بينه وبين عدوه للبعد الذي بينهما وإن كان ملابسا له

ص -88- قريبا منه ويجد أنسا وقربا بينه وبين من يجب وإن كان بعيدا عنه والوحشة سببها الحجاب وكلما غلظ الحجاب زادت الوحشة فالغفلة توجب الوحشة وأشد منها وحشة المعصية وأشد منها وحشة الشرك والكفر


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:40 AM   #14
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ولا تجد أحدا ملابس شيئا من ذلك إلا ويعلوه من الوحشة بحسب ما لابسه منه فتعلو الوحشة وجهه وقلبه فيستوحش ويستوحش منه.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه فلا يزال مريضا معلولا لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان بل الذنوب أمراض القلوب وداؤها ولا دواء لها إلا تركها وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تعطي مناها حتى تصل إلى مولاها ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير نفس دوائها ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها فهواها مرضها وشفاؤها مخالفته فإن استحكم المرض قتل أو كاد وكما أن من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نعيما البتة بل التفاوت الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة وهذا أمر لا يصدق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا ولا تحسب أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة هم كذلك أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله





ص -89- وانقطاعه عن الله بكل واد منه شعبة؟ وكل من تعلق به وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب فكل من أحب شيئا غير الله عذب به ثلاث مرات في هذه الدار فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته والتنغيض والتنكيد عليه وأنواع من العذاب في هذه المعارضات فإذا سلبه اشتد عليه عذابه فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار
وأما في البرزخ: فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجو عوده وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده وألم الحجاب عن الله وألم الحسرة التي تقطع الأكباد فالهم والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه طربا وفرحا وأنسا بربه واشتياقا إليه وارتياحا بحبه وطمأنينة بذكره؟ حتى يقول بعضهم في حال نزعه: واطرباه ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب ويقول الآخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها ويقول الآخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ويقول الآخر: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة فيا من باع حظه الغالي بأبخس الثمن وغبن كل الغبن في هذا العقد وهو يرى أنه قد غبن إذا لم يكن لك خبرة بقيمة السلعة فسل المقوِّمين.
فيا عجبا من بضاعة معك الله مشتريها وثمنها جنة المأوى والسفير الذي جرى على يديه عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بعتها بغاية الهوان كما قيل:



ص -90- إذا كان هذا فعل عبد نفسه فمن ذا له من بعده ذلك يكرم

{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره وتسد طرق العلم وتحجب مواد الهداية
وقد قال مالك للشافعي رحمهما الله تعالى لما اجتمع به ورأى تلك المخايل إني أرى الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمه المعصية
ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحل وظلام المعصية يقوى حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم فكم من مهلك يسقط فيه وهو لا يبصره كأعمى خرج بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب فيا عزة السلامة ويا سرة العطب ثم تقوى تلك الظلمات وتفيض من القلب إلى الجوارح فيغشى الوجه منها سواد بحسب قوتها وتزايدها فإذا كان عند الموت ظهرت في البرزخ فامتلأ القبر ظلمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة وإن الله منورها بصلاتي عليهم" فإذا كان يوم المعاد وحشر العباد علت الظلمة الوجوه علوا ظاهرا يراه كل أحد حتى يصير الوجه أسود مثل الحممه فيا لها من عقوبة لا توازن لذات الدنيا بأجمعها من أولها إلى آخرها فكيف يقسط العبد المنغص المنكد المتعب في زمن؟ إنما هو ساعة من حلم! والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تصغر النفس وتقمعها وتدسيها وتحقرها حتى تكون

ص -91- أصغر كل شيء وأحقره كما أن الطاعة تنميها وتزكيها وتكبرها قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} والمعنى: قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله
وأصل التدسية: الإخفاء ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} فالعاصي يدس نفسه في المعصية ويخفي مكانها يتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به قد انقمع عند نفسه وانقمع عند الله وانقمع عند الخلق فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاه وأعلاه ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو فما صغر النفس مثل معصية الله وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.
فصل:
ومن عقوباتها: أن العاصي دائما في أسر شيطانه وسجن شهواته وقيود هواه فهو أسير مسجون مقيد ولا أسير أسوء حالا من أسير أسره أعدى عدو له ولا سجن أضيق من سجن الهوى ولا قيد أصعب من قيد الشهوة فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟ وكيف يخطو خطوة واحدة؟ وإذا قيد القلب طرقته الآفات من كل جانب بحسب قيوده ومثل القلب مثل الطائر كلما علا بعد عن الآفات وكلما نزل احتوشته الآفات وفي الحديث: "الشيطان ذئب الإنسان" وكما أن الشاة التي لا حافظ لها وهي بين الذئاب سريعة العطب فكذا العبد إذا لم يكن عليه حافظ من الله فذئبه مفترسه ولا بد وإنما يكون عليه حافظ من الله بالتقوى فهي وقاية وجنة حصينة بينه وبين ذئبه كما هي وقاية بينه وبين عقوبة الدنيا والآخرة وكلما كانت الشاة





ص -92- أقرب من الراعي كانت أسلم من الذئب وكلما بعدت عن الراعي كانت أقرب إلى الهلاك فأسلم ما تكون الشاة إذا قربت من الراعي وإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم وهي أبعد من الراعي
وأصل هذا كله: أن القلب كلما كان أبعد من الله كانت الآفات إليه أسرع وكلما كان أقرب من الله بعدت عنه الآفات والبعد من الله مراتب بعضها أشد من بعض فالغفلة تبعد القلب عن الله وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله.
فصل:
ومن عقوباتها: سقط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم وأقربهم منه منزلة أطوعهم له وعلى قدر طاعة العبد تكون له منزلة عنده فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه فأسقطه من قلوب عباده وإذا لم يبق له جاه عند الخلق وهان عليهم عاملوه على حسب ذلك فعاش بينهم أسوء عيش خامل الذكر ساقط القدر زريَّ الحال لا حرمة له فلا فرح له ولا سرور فإن خمول الذكر وسقوط القدر والجاه جالب كل غم وهم وحزن ولا سرور معه ولا فرح وأين هذا الألم من لذة المعصية لولا سكر الشهوة؟ ومن أعظم نعم الله على العبد: أن يرفع له بين العالمين ذكره ويعلى قدره ولهذا خص أنبياءه ورسله من ذلك بما ليس لغيرهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} أي خصصناهم بخصيصة وهو الذكر الجميل الذي يذكرون به في هذه الدار وهو لسان الصدق الذي سأله إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}





ص -93- وقال سبحانه وتعالى عنه وعن نبيه: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} فاتباع الرسل لهم نصيب من ذلك بحسب ميراثهم من طاعتهم ومتابعتهم وكل من خالفهم فإنه من ذلك بحسب مخالفتهم ومعصيتهم.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء الذم والصغار فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمنقي والمطيع والمنيب والولي والورع والمصلح والعابد والخائف والأواب والطيب والرضي ونحوها وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء والمفسد والخبيث والمسخوط والزاني والسارق والقاتل والكاذب والخائن واللوطي والغادر وقاطع الرحم وأمثالها فهذه أسماء الفسوق و:{بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} الذي يوجب غضب الديان ودخول النيران وعيش الخزي والهوان وتلك أسماء توجب رضاء الرحمان ودخول الجنان وتوجب شرف المسمى بها على سائر أنواع الإنسان فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل ناه عنها ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل أمر بها ولكن لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع ولا مقرب لمن باعد ولا مبعد لمن قرب {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل فلا تجد عاقلين أحدهما مطيع لله والآخر عاص إلا وعقل المطيع منهما أوفر وأكمل وفكره أصح





ص -94- ورأيه أسد والصواب قرينه ولهذا تجد خطاب القرآن إنما هو مع أولي العقول والألباب كقوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الأَلْبَابِ} ونظائر ذلك كثيرة
وكيف يكون عاقلا وافر العقل من يعصي من هو في قبضته وفي داره وهو يعلم أنه يراه ويشاهده؟ فيعصيه وهو بعينه غير متوار عنه ويستعين بنعمه على مساخطه ويستدعي كل وقت غضبه عليه ولعنته له وإبعاده من قربه وطرده عن بابه وإعراضه عنه وخذلانه له والتخلية بينه وبين نفسه وعدوه وسقوطه من عينه وحرمانه روح رضاه وحيب وقرة العين بقربه والفوز بجواره والنظر إلى وجهه في زمرة أوليائه إلى أضعاف أضعاف ذلك من كرامة أهل الطاعة وأضعاف أضعاف ذلك من عقوبة أهل المعصية
فأي عقل لمن آثر لذة ساعة أو يوم أو دهر ثم تنقضي كأنها حلم لم يكن على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم؟ بل هو سعادة الدنيا والآخرة ولولا العقل الذي تقوم عليه به الحجة لكان بمنزلة المجانين بل قد تكون المجانين أحسن حالا منه وأسلم عاقبة فهذا من هذا الوجه
وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيش فلولا الاشتراك في هذا النقصان لظهر لمطيعنا نقصان عقل عاصينا ولكن الجائحة عامة والجنون فنون
ويا عجبا لو صحت العقول لعلمت أن طريق تحصيل اللذة والفرحة والسرور وطيب العيش إنما هو في رضاء من النعيم كله في رضاه والألم والعذاب كله في سخطه وغضبه ففي رضاه قرة العيون وسرور النفوس وحياة القلوب ولذة



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:42 AM   #15
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ص -95- الأرواح وطيب الحياة ولذة العيش وأطيب النعيم مما لو وزن منه مثقال ذرة بنعيم الدنيا لم يف به بل إذا حصل للقلب من ذلك أيسر نصيب لم يرض بالدنيا وما فيها عوضا منه ومع هذا فهو يتنعم بنصيبه من الدنيا أعظم من تنعم المترفين فيها ولا يشوب تنعمه بذلك الحظ اليسير ما يشوب تنعم المترفين من الهموم والغموم والأحزان والمعارضات بل قد حصل له على النعيمين وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما وما يحصل له في خلال ذلك من الآلام فالأمر كما قال سبحانه: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} فلا إله إلا الله ما أنقص عقل من باع الدُّرَّ بالبعر والمسك بالرجيع ومرافقة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بمرافقة الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدلهم جهنم وساءت مصيرا.
فصل:
ومن أعظم عقوباتها: أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير واتصلت به أسباب الشر فأي فلاح وأي رجاء وأي عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير وقطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى عنه طرفة عين ولا بدل له منه ولا عوض له عنه واتصلت به أسباب الشر ووصل ما بينه وبين أعدى عدو له فتولاه عدوه وتخلى عنه وليه؟ فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع والاتصال من أنواع الآلام وأنواع العذاب
قال بعض السلف: رأيت العبد ملقى بين الله سبحانه وبين الشيطان فإن أعرض الله عنه تولاه الشيطان وإن تولاه الله لم يقدر عليه الشيطان وقد قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ





ص -96- فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} يقول سبحانه لعباده: أنا أكرمت آباكم ورفعت قدره وفضلته على غيره فأمرت ملائكتي كلهم أن يسجدوا له تكريما وتشريفا فأطاعوني وأبى عدوي وعدوه فعصى أمري وخرج عن طاعتي فكيف يحسن بكم بعد هذا أن تتخذونه وذريته أولياء من دوني فتطيعونه في معصيتي وتوالونه في خلاف مرضاتي وهم أعدا عدو لكم؟ فواليتم عدوي وقد أمرتكم بمعاداته ومن والى أعداء الملك كان هو وأعداؤه عنده سواء فإن المحبة والطاعة لا تتم إلا بمعاداة أعداء المطاع وموالاة أوليائه وأما أن توالي أعداء الملك ثم تدعي أنك موال له فهذا محال هذا لو لم يكن عدو الملك عدوا لكم فكيف إذا كان عدوكم على الحقيقة والعداوة التي بينكم وبينه أعظم من العداوة التي بين الشاة وبين الذئب؟ فكيف يليق بالعاقل أن يوالي عدوه وعدو وليه ومولاه الذي مولى له سواه؟ ونبه سبحانه على قبح هذه الموالاة بقوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} كما نبه على قبحها بقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فتبين أن عداوته لربه وعداوته لنا كل منهما سبب يدعو إلى معاداته فما هذه الموالاة؟ وما هذا الاستبدال بئس للظالمين بدلا.
ويشبه أن يكون تحت هذا الخطاب نوع من العتاب لطيف عجيب وهو أني عاديت إبليس إذ لم يسجد لأبيكم آدم مع ملائكتي فكانت معاداته لأجلكم ثم كان عاقبة هذه المعاداة أن عقدتم بينكم وبينه عقدا المصالحة.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة.
وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه





ص -97- ودنياه ممن عصى الله وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وفي الحديث: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته وإن الله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".
وقد تقدم الأثر الذي ذكره أحمد في كتاب الزهد "أنا الله إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ولعنتي تدرك السابع من الولد" وليست سعة الرزق والعمل بكثرته ولا طول العمر بكثرة الشهور والأعوام ولكن سعة الرزق والعمر بالبركة فيه.
وقد تقدم أن عمر العبد هو مدة حياته ولا حياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغيره بل حياة البهائم خير من حياته فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده أو الإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأُُنس بقربه ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله ولو تعوض عنها بما تعوض مما في الدنيا بل ليست الدنيا بأجمعها عوضا عن هذه الحياة فمن كل شيء يفوت العبد عوض وإذا فاته الله لم يعوض عنه شيء البتة وكيف يعوض الفقير بالذات عن الغنى بالذات والعاجز بالذات عن القادر بالذات والميت عن الحي الذي لا يموت والمخلوق عن الخالق ومن لا وجود له ولا شيء





ص -98- له من ذاته البتة عمن غناه وحياته وكماله ووجوده ورحمته من لوازم ذاته؟ وكيف يعوض من لا يملك مثقال ذرة عمن له ملك السموات والأرض؟
وإنما كانت معصية الله سببا لمحق بركة الرزق والأجل لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها فسلطانه عليهم وحوالته على هذا الديون وأهله وأصحابه وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه فبركته ممحوقة ولهذا شرع ذكر اسم الله تعالى عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع لما في مقارنة اسم الله من البركة وذكر اسمه يطرد الشيطان فتحصل البركة ولا معارض لها وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة فإن الرب هو الذي يبارك وحده والبركة كلها منه وكل ما نسب إليه مبارك فكلامه مبارك ورسوله مبارك وعبده المؤمن النافع لخلقه مبارك وبيته الحرام مبارك وكنانته من أرضه وهى الشام أرض البركة وصفها بالبركة في ست آيات من كتابه فلا مبارك إلا هو وحده ولا مبارك إلا ما نسب إليه أعني إلى ألوهيته ومحبته ورضاه وإلا فالكون كله منسوب إلى ربوبيته وخلقه وكل ما باعده من نفسه من الأعيان والأقوال والأعمال فلا بركة فيه ولا خير فيه وكل ما كان قريبا من ذلك ففيه من البركة على حسب قدر قربه منه.
وضد البركة اللعنة فأرض لعنها الله أو شخص لعنه الله أو عمل لعنه الله أبعد شيء من الخير والبركة وكلما اتصل بذلك وارتبط به وكان منه بسبيل فلا بركة فيه البتة وقد لعن عدوه إبليس وجعله أبعد خلقه منه فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه واتصاله به فمن هاهنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة العمر والرزق والعلم والعمل وكل وقت عصيت الله فيه أو مال عصي الله به أو بدن أو جاه أو علم أو عمل فهو على صاحبه ليس له فليس له من عمره وماله وقوته وجاهه وعلمه وعمله إلا ما أطاع الله به.



ص -99- ولهذا فمن الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها ويكون عمره لايبلغ عشرة سنين أو نحوها كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها وهكذا الجاه والعلم.
وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله" هذا هو الذي فيه البركة خاصة والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيئا لأن يكون من العلية فإن الله خلق خلقه قسمين: علية وسفلة وجعل عليين مستقر العلية وأسفل سافلين مستقر السفلة وجعل أهل طاعته الأعلين في الدنيا والآخرة وأهل معصيته الأسفلين في الدنيا والآخرة كما جعل أهل طاعته أكرم خلقه عليه وأهل معصيته أهون خلقه عليه وجعل العزة لهؤلاء والذلة والصغار لهؤلاء كما في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي بين يدي رمحي وجعلت الذل والصغار على من خالف أمري" فكلما عمل العبد معصية نزل إلى أسفل درجة ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه والنزول من وجه وأيهما كان أغلب عليه كان من أهله فليس من صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة كمن كان بالعكس.
ولكن يعرض هاهنا للنفوس غلط عظيم وهو أن العبد قد ينزل نزولا بعيدا





ص -100- أبعد مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض فلا يفي صعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة ولا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب"
فأي صعود يوازي هذه المنزلة؟ والنزول أمر لازم للإنسان ولكن من الناس من يكون نزوله إلى غفلة فهذا متى استيقظ من غفلته عاد إلى درجته أو إلى أرفع منها بحسب يقظته.ومنهم من يكون نزوله إلى مباح لا ينوي به الاستعانة على الطاعة فهذا متى رجع إلى الطاعة فقد يعود إلى درجته وقد لا يصل إليها وقد يرتفع عنها فإنه قد يعود أعلى همة مما كان وقد يكون أضعف همة وقد تعود همته كما كانت.
ومنهم من يكون نزوله إلى معصية إما صغيرة أو كبيرة فهذا يحتاج في عودة إلى توبة نصوح وإنابة صادقة.
واختلف الناس: هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم يكن أو لا يعود بناء على أن التوبة تأثيرها في إسقاط العقوبة وأما الدرجة التي فاتته فإنه لا يصل إليها.
قالوا: وتقرير ذلك أنه كان مستعدا باشتغاله بالطاعة في الزمن الذي عصى فيه لصعود آخر وارتفاعه تحمله أعماله السالفة بمنزلة كسب الرجل كل يوم بجملة ماله الذي يملكه وكلما تضاعف المال تضاعف الربح فقد راح عليه في زمن المعصية ارتفاع وربح بجملة أعماله فإذا استأنف العمل استأنف صعودا من نزول وكان قبل ذلك صاعدا من أسفل إلى أعلى وبينهما بون عظيم.





ص -101- قالوا: ومثل ذلك رجلان يرتقيان في سلمين لا نهاية لهما وهما سواء فنزل أحدهما إلى أسفل ولو درجة واحدة ثم استأنف الصعود فإن الذي لم ينزل يعلو عليه ولا بد.
وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما مقبولا فقال: التحقيق أن من التائبين من يعود إلى أرفع من درجته ومنهم من يعود إلى من مثل درجته ومنهم من لا يصل إلى درجته ومنهم من يعود إلى درجته.
قلت: وهذا بحسب قوة التوبة وكمالها وما أحدثته المعصية للعبد من الذل والخضوع والإنابة والحذر والخوف من الله والبكاء من خشية الله فقد تقوى هذه الأمور حتى يعود التائب إلى أرفع من درجته ويصير بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة فهذا قد تكون الخطيئة في حقه رحمة فإنها نفت عنه داء العجب وخلصته من ثقته بنفسه وإدلاله بأعماله ووضعت خد ضراعته وذله وانكساره على عتبة باب سيده ومولاه وعرفته قدره وأشهدته فقره وضرورته إلى حفظ سيده ومولاه له وإلى عفوه عنه ومغفرته له وأخرجت من قلبه صولة الطاعة وكسرت أنفه من أن يشمخ بها أو يتكبر بها أو يرى نفسه بها خيرا من غيره وأوقفته بين يدي ربه موقف الخطائين المذنبين ناكس الرأس بين يدي ربه مستحييا منه خائف وجلا محتقرا لطاعته مستعظما لمعصيته عرف نفسه بالنقص والذم وربه متفرد بالكمال والحمد والوفاء كما قيل:


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:44 AM   #16
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue



استأثر الله بالوفاء وبال حمد وولىّ الملامة الرجلا

فأي نعمة وصلت من الله إليه استكثرها على نفسه ورأى نفسه دونها ولم يرها أهلا لها وأي نقمة أو بلية وصلت إليه رأي نفسه أهلا لما هو أكبر منها ورأى مولاه قد أحسن إليه إذا لم يعاقبه على قدر جرمه ولا شطره ولا أدنى جزء منه فإن ما يستحقه من العقوبة لا تحمله الجبال الراسيات فضلا عن



ص -102- هذا العبد الضعيف العاجز فإن الذنب وإن صغر فإن مقابله العظيم الذي لاشيء أعظم منه الكبير الذي لاشيء أكبر منه الجليل الذي لا أجل منه ولا أجمل المنعم بجميع أصناف النعم دقيقها وجليلها من أقبح الأمور وأفظعها وأشنعها فإن مقابلة العظماء والأجلاء وسادات الناس بمثل ذلك يستقبحه كل أحد مؤمن وكافر وأرذل الناس وأسقطهم مروءة من قابلهم بالرذائل فكيف بعظيم السموات والأرض وملك السموات والأرض وإله السموات والأرض؟ ولولا أن رحمته غلبت غضبه ومغفرته سبقت عقوبته وإلا لتدكدكت الأرض بمن قابله بما لا يليق مقابلته به ولولا حلمه ومغفرته لزلزلت السموات والأرض من معاصي العباد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
فتأمل ختم هذه الآية باسمين من أسمائه وهما "الحليم والغفور" كيف تجد تحت ذلك أنه لولا حلمه عن الجناة ومغفرته للعصاة لما استقرت السموات والأرض؟
وقد أخبر سبحانه عن كفر بعض عباده أنه {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}.
وقد أخرج الله سبحانه الأبوين من الجنة بذنب واحد ارتكباه وخالفا فيه نهيه ولعن إبليس وطرده وأخرجه من ملكوت السموات والأرض بذنب واحد ارتكبه وخالف فيه أمره ونحن معاشر الحمقى كما قيل:

نصل الذنوب إلى الذنوب ونرتجى درج الجنان لذي النعيم الخالد

لقد علمنا أخرج الأبوين من ملكوتها الأعلى بذنب واحد

والمقصود: أن العبد قد يكون بعد التوبة خيرا مما كان قبل الخطيئة وأرفع



ص -103- درجة وقد تضعف الخطيئة همته وتوهن عزمه وتمرض قلبه فلا يقوى دواء التوبة إعادته إلى الصحة الأولى فلا يعود إلى درجته وقد يزول المرض بحيث تعود الصحة كما كانت ويعود إلى مثل عمله فيعود إلى درجته.
هذا كله إذا كان نزوله إلى معصية فإن كان نزوله إلى أمر يقدح في أصل إيمانه مثل الشكوك والريب والنفاق فذاك نزول لا يرجى لصاحبه صعود إلا بتجديد إسلامه.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تجترئ على العبد من لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات فتجترئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتحزين وإنسائه ما به مصلحته في ذكره ومضربه في نسيانه فتجترئ عليه الشياطين حتى تؤزه إلى معصية الله أزا وتجترئ عليه شياطين الإنس بما تقدر عليه من الأذى في غيبته وحضوره وتجترئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم.
قال بعض السلف: إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي وكذلك يجترئ عليه أولياء بالعقوبة التي إن عدلوا فيها أقاموا عليه حدود الله وتجترئ عليه نفسه فتتأسد عليه وتستضعف عليه فلو أرادها لخير لم تطاوعه ولم تنقد له وتسوقه إلى ما فيه هلاكه شاء أم أبى وذلك أن الطاعة حصن الرب تبارك وتعالى الذي من دخله كان من الآمنين فإذا فارق الحصن اجترأ عليه قطاع الطريق وغيرهم وعلى حسب اجترائه على معاصي الله يكون اجتراء هذه الآفات والنفوس عليه وليس شيء يرد عنه فإن ذكر الله وطاعته والصدقة وإرشاد الجاهل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر





ص -104- وقاية ترد عن العبد بمنزلة القوة التي ترد المرض وتقاومه فإذا سقطت القوة غلب وارد المرض فكان الهلاك فلا بد للعبد من شيء يرد عنه فإن موجب السيئات والحسنات تتدافع ويكون الحكم للغالب كما تقدم وكلما قوى جانب الحسنات كان الرد أقوى كما تقدم فإن الله يدافع عن الذين آمنوا والإيمان قول وعمل فبحسب قوة الإيمان يكون الدفع والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه فإن كل أحد يحتاج إلى معرفة ما ينفعه وما يضره في معاشه ومعاده وأعلم الناس أعرفهم بذلك على التفصيل وأقواهم وأكيسهم من قوى على نفسه وإرادته فاستعملها فيما ينفعه وكفها عما يضره وفي ذلك تفاوت معارف الناس وهممهم ومنازلهم فأعرفهم من كان عارفا بأسباب السعادة والشقاوة وأرشدهم من آثر هذه على هذه كما أن أسفههم من عكس الأمر والمعاصي تخون العبد أحوج ما كان إلى نفسه في تحصيل هذا العلم وإيثار الحظ الأشرف العالي الدائم على الحظ الخسيس الأدنى المنقطع فتحجبه الذنوب عن كمال هذا العلم وعن الاشتغال بما هو أولى به وأنفع له في الدارين فإذا وقع مكروه واحتاج إلى التخلص منه خانه قلبه ونفسه وجوارحه وكان بمنزلة رجل معه سيف قد غشيه الصدأ ولزم قرابه بحيث لا ينجذب مع صاحبه إذا جذبه فعرض له عدو يريد قتله فوضع يده على قائم سيفه واجتهد ليخرجه فلم يخرج معه فدهمه العدو وظفر به كذلك القلب يصدأ بالذنوب ويصير مثخنا بالمرض فإذا احتاج إلى محاربة العدو لم يجد معه منه شيئا والعبد إنما يحارب ويصاول ويقدم بقلبه والجوارح تبع للقلب فإذا لم يكن عند ملكها قوة يدفع به فما الظن بها؟
وكذلك النفس فإنها تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف وأعني النفس





ص -105- المطمئنة وإن كانت الأمارة تقوى وتتأسد وكلما قويت هذه ضعفت تلك فبقي الحكم والتصرف للأمارة وربما ماتت نفسه المطمئنة موتا ليرجي معه حياة فهذا ميت في الدنيا ميت في البرزخ غير حي في الآخرة حياة ينتفع بها بل حياته حياة يدرك بها الألم فقط.
والمقصود: أن العبد إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى والإنابة إليه والجمعية عليه والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه ولا يطاوعه لسانه لذكره وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه فلا ينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر فيه الذكر ولا ينحبس اللسان المذكور بل إن ذكر أو دعا ذكر بقلب غافل لاه ساه غافل ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي كمن له جند يدفعون عنه الأعداء فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم وقطع أخبارهم ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة هذا وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى منه وأمر وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى فربما تعذر عليه النطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين أصابهم ذلك حتى قيل لبعضهم: قل "لا إله إلا الله" فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها وقيل لآخر: قل "لا إله إلا الله" فقال: شاه رخ غلبنك ثم قضى وقيل لآخر: قل "لا إله إلا الله" فقال:

يارب قائلة يوما وقد تعبت: كيف الطريق إلى حمام منجاب

ثم قضى وقيل لآخر: قل "لا إله إلا الله" فجعل يهذي بالغناء ويقول:



ص -106- تاتا ننتنتا حتى قضى وقيل لآخر ذلك فقال: وما ينفعني ما تقول ولم أدع معصية إلا ركبتها ثم قضى ولم يقلها وقيل لآخر: ذلك فقال: وما يغني عني وما أعرف أني صليت لله تعالى صلاة؟ ثم قضى ولم يقلها وقيل لآخر: ذلك فقال: هو كافر بما تقول وقضى وقيل لآخر ذلك فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها وأخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته فجعل يقول لله فلس لله فلس حق قضى وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه "لا إله إلا الله" وهو يقول: هذه القطعة رخيصة هذا مشتري جيد هذه كذا حتى قضى.
وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من معاصي الله وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وعطل لسانه من ذكره وجوارحه عن طاعته فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع؟ وجمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته فإن ذلك آخر العمل فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت وأضعف ما يكون هو في تلك الحال فمن ترى يسلم على ذلك فهناك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}
فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا؟ فبعيد من قلبه من الله تعالى غافل عنه متعبد لهواه أسير لشهواته ولسانه يابس من ذكره وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصيته أن يوفق للخاتمة بالحسنى.



ص -107- ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعا بالأمان {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} كما قيل:

يا آمنا من قبح الفعل منه أهل أتاك توقيع أمن أنت تملكه؟

جمعت شيئين أمنا واتباع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكه

والمحسنون على درب المخاوف قد ساروا وذلك درب لست تسلكه

فرطت في الزرع وقت البذر من سفه فكيف عند حصاد الناس تدركه؟

هذا وأعجب شيء فيك زهدك في دار البقاء بعيش سوف تتركه

من السفيه إذا بالله؟ أنت أم ال مغبون في البيع غبنا سوف تدركه؟

فصل:
ومن عقوباتها: أنها تعمي القلب فإن لم تعمه أضعفت بصيرته ولا بد وقد تقدم بيان أنها تضعفه ولابد فإذا عمي القلب وضعف فاته من معرفة الهدى وقوته على تنفيذه في نفسه وفي غيره بحسب ضعف بصيرته وقوته فإن الكمال الإنساني مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل وإيثاره عليه وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين وهما اللذان أثنى الله سبحانه على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بهما في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} فالأيدي: القوة في تنفيذ الحق والأبصار: البصائر في الدين فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله تعالى.
القسم الثاني: عكس هؤلاء من لا بصيرة له في الدين ولا قوة على


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:44 AM   #17
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue



ص -108- تنفيذ الحق وهم أكثر هذا الخلق وهم الذين رؤيتهم قذى للعيون وحمى الأرواح وسقم القلوب يضيقون الديار ويغلون الأسعار ولا يستفاد بصحبتهم إلا العار والشنار.
القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى ومعرفة به لكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه ولا الدعوة إليه وهذا حال المؤمن الضعيف والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله منه.
القسم الرابع: من له قوة وهمة وعزيمة لكنه ضعيف البصيرة في الدين لا يكاد يميز بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بل يحسب كل سوداء تمرة وكل بيضاء شحمة يحسب الورم شحما والدواء النافع سما.
وليس في هؤلاء من يصلح للإمامة في الدين ولا هو موضعا لها سوى القسم الأول قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فأخبر سبحانه أن بالصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه من جملة الخاسرين وأقسم بالعصر الذي هو زمن سعى الخاسرين والرابحين على أن من عداهم فهو من الخاسرين فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ولم يكتف منهم بمعرفة الحق والصبر عليه حتى يوصي بعضهم بعضا به ويرشده إليه ويحثه عليه.
وإذا كان من عدا هؤلاء خاسرا فمعلوم أن المعاصي والذنوب تعمي بصيرة القلب فلا يدرك الحق كما ينبغي وتضعف قوته وعزيمته فلا يصبر عليه بل قد تتوارد على القلب حتى ينعكس إدراكه حتى ينعكس سيره فيدرك سيره





ص -109- فيدرك الباطل حقا والحق باطلا والمعروف منكرا والمنكر معروفا فينتكس في سيره ويرجع عن سفره إلى الله والدار الآخرة إلى سفره إلى مستقر النفوس المبطلة التي رضيت بالحياة الدنيا واطمأنت لها وغفلت عن الله وآياته وتركت الاستعداد للقائه ولو لم يكن في عقوبة الذنوب إلا هذه العقوبة وحدها لكانت كافية داعية إلى تركها والبعد منها والله المستعان.
وهذا كما أن الطاعة تنور القلب وتجلوه وتصقله وتقويه وتثبته حتى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها وصفائها فيتملىء نورا فإذا دنا الشيطان منه أصابه من نور ما يصيب مسترق السمع من الشهب الثواقب فالشيطان يفرق من هذا القلب أشد من فرق الذئب من الأسد حتى إن صاحبه ليصرع الشيطان فيخر صريعا فيجتمع عليه الشياطين فيقول بعضهم لبعض: ما شأنه؟ فتقول: أصابه إنسي وبه نظرة من الإنس:

فيا نظرة من قلب حر منور يكاد لها الشيطان بالنور يحرق

أفيستوي هذا القلب وقلب مظلم أرجاؤه مختلفة أهواؤه قد اتخذه الشيطان وطنه وأعده مسكنه إذا تصبَّح بطلعته حياه وقال: فديت من لا يفلح في دنياه ولا في أخراه؟ :

أنا قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدهافأنت قرين لي بكل مكان

فإن كنت في دار الشقاء فإنني وأنت جميعا في شقا وهوان

قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}



ص -110- فأخبر سبحانه أنه من عشا عن ذكره وهو كتابه الذي أنزل على رسول صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه وعمى عنه وغشت بصيرته عن فمه وتدبره ومعرفة مراد الله منه قيض الله له شيطانا عقوبة له بإعراضه عن كتابه فهو قرينه الذي لا يفارقه لا في الإقامة ولا في السير ومولاه وعشيره الذي هو بئس المولى وبئس العشير.

رضيعا لبان ثدي أن تقاسما بأسحم داج عوض لا يتفرق

ثم أخبر سبحانه أن الشيطان يصد قرينه ووليه عن سبيله الموصل إليه وإلى جنته ويحسب هذا الضال المضل المصدود أنه على طريق هدى حتى إذا جاء القرينان يوم القيامة يقول أحدهما للآخر: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين كنت لي في الدنيا أضللتني عن الهدى بعد إذ جاءني وصددتنى عن الحق وأغويتني حتى هلكت وبئس القرين أنت لي اليوم.
ولما كان المصاب إذا شاركه غيره في مصيبته حصل له بالتأسي نوع تخفيف وتسلية أخبر الله سبحانه أن هذا غير موجود وغير حاصل في حق المشتركين في العذاب وأن القرين لا يجد راحة ولا أدنى فرح بعذاب قرينه معه وإن كانت المصائب في الدنيا إذا عمت صارت مسلاة كما قالت الخنساء في أخيها صخر:

فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي

فمنع الله سبحانه هذا القدر من الراحة على أهل النار فقال: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}



ص -111- فصل:
ومن عقوباتها: أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه وجيش يقويه به على حربه وذلك أن الله سبحانه ابتلى هذا الإنسان بعدو لا يفارقه طرفة عين ولا ينام عنه ولا يغفل عنه يراه هو وقبيله من حيث لا يراه يبذل جهده في معاداته في كل حال ولا يدع أمر يكيده به يقدر على إيصاله إليه إلا أوصله ويستعين عليه ببني جنسه من شياطين الجن: وغيرهم من شياطين الإنس: فقد نصب له الحبائل وبغى له الغوائل ومدحوله الأشراك ونصب له الفخاخ والشباك وقال لأعوانه: دونكم عدوكم وعدو أبيكم لا يفوتكم ولا يكون حظه الجنة وحظكم النار ونصيبه الرحمة ونصيبكم اللعنة وقد علمتم أن ما جرى عليّ وعليكم من الخزي واللعن والإبعاد من رحمة الله بسببه ومن أجله فابذلوا جهدكم أن يكونوا شركاءنا في هذه البلية إذ فاتتنا شركة صالحيهم في الجنة وقد أعلمنا الله سبحانه بذلك كله من عدونا وأمرنا أن نأخذ له أهبته ونعد له عدته.
ولما علم سبحانه أن آدم وبنيه قد بلوا بهذا العدو وقد سلط عليهم أمدهم بعساكر وجند يلقونه بها وأمد عدوهم أيضا بجند وعساكر يلقاهم به وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنفس واحد من أنفاسها واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وأخبر أن ذلك وعد مؤكد عليه في أشرف كتبه وهي التوارة والإنجيل والقرآن وأخبر أنه لا أوفى بعهده منه سبحانه ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر إلى المشتري من هو؟ وإلى الثمن المبذول في هذه السلعة وإلى من جرى على يديه هذا العقد فأي فوز أعظم من هذا؟ وأي تجارة أربح منه؟



ص -112- ثم أكد سبحانه هذا الأمر بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يسلط سبحانه هذا العدو على عبده المؤمن الذي هو أحب المخلوقات إليه إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه وأهله أرفع الخلق عنده درجات وأقربهم إليه وسيلة فعقد سبحانه لواء هذا الحرب لخلاصة مخلوقاته وهو القلب الذي محل معرفته ومحبته وعبوديته والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه فولاه أمر هذا الحرب وأيده بجند من الملائكة لا يفارقونه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يعقب بعضهم بعضا كلما ذهب بدل جاء بدل آخر يثبتونه ويأمرونه بالخير ويحضونه عليه ويعدونه بكرامة الله ويصبرونه ويقولون: إنما هو صبر ساعة وقد استرحت راحة الأبد.
ثم أمده سبحانه بجند آخر من وحيه وكلامه فأرسل إليه رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل إليه كتابه فازداد قوة إلى قوته ومددا إلى مدده وعدة إلى عدته وأيده مع ذلك بالعقل وزيرا له ومدبرا وبالمعرفة مشيرة عليه ناصحة له وبالإيمان مثبتا له ومؤيدا وناصرا وباليقين كاشفا له عن حقيقة الأمر حتى كأنه يعاين ما وعد الله تعالى أولياءه وحزبه على جهاد أعدائه فالعقل يدبر أمر جيشه والمعرفة تصنع له أمور الحرب وأسبابها ومواضعها اللائقة بها والإيمان يثبته ويقويه ويصبره واليقين يقدم به ويحمل به الحملات الصادقة ثم أمد سبحانه القائم بهذا الحرب بالقوى الظاهرة والباطنة فجعل العين





ص -113- طليعته والأذن صاحب خبرة واللسان ترجمانه واليدين والرجلين أعوانه وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له ويسألون له أن يقيه السيئات ويدخله الجنات وتولى سبحانه الدفع والدفاع عنه بنفسه وقال: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ إلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهؤلاء جندي {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.
وعلم سبحانه عباده كيفية هذا الحرب والجهاد فجمعها لهم في أربع كلمات فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة فلا يتم له الصبر إلا بمصابرة العدو وهو مقاومته ومنازلته فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر وهو المرابطة وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل معه العدو ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل فهذه الثغور منها يدخل العدو فيجوس خلال الديار ويفسد ما قدر عليه فالمرابطة لزوم هذه الثغور ولا يخلي مكانها فيصادف العدو والثغر خاليا فيدخل منه.
فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الخلق بعد النبيين والمرسلين وأعظمهم حماية وحراسة من الشيطان وقد أخلوا المكان الذي أمروا بلزومه يوم أحد فدخل منه العدو فكان ما كان.
وجماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به هو تقوى الله تعالى فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى ولا تقوم التقوى على ساق الصبر.
فانظر الآن فيك إلى التقاء الجيشين واصطدام العسكرين وكيف تدال مرة ويدال عليك مرة أخرى؟ أقبل ملك الكفرة وعساكره فوجد القلب في





ص -114- حصنه جالسا على كرسي مملكته أمره نافذ في أعوانه وجنده قد حفوا به يقاتلون عنه ويدافعون عن حوزته فلم يمكنه الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه فسأل عن أخص الجند به وأقربهم منه منزلة فقيل له: هي النفس فقال لأعوانه: ادخلوا عليها من مرادها وانظروا مواقع محبتها وما هو محبوبها فعدوها به ومنوها إياه وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها فإذا اطمأنت إليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها ثم جروها بها إليكم فإذا خامرت على القلب وصارت معكم عليه ملكتم ثغور العين والأذن واللسان والفم واليد والرجل فرابطوا على هذه الثغور كل المرابطة فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيل أو أسير أو جريح مثخن بالجراحات ولا تخلوا هذه الثغور ولا تمكنوا سرية تدخل منها إلى القلب فتخرجكم منها وإن غلبتم


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:45 AM   #18
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


فاجتهدوا في إضعاف السرية ووهنها حتى لاتصل إلى القلب وإن وصلت إليه وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئا فإذا استوليتم على هذه الثغور فامنعوا ثغر العين أن يكون نظره اعتبارا بل اجعلوا نظره تفرجا واستحسانا وتلهيا فإن استرق نظرة عبرة فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة والاستحسان والشهوة فإنه أقرب إليه وأعلق بنفسه وأخف عليه ودونكم ثغر العين فإن منه تنالون بغيتكم فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة ثم أسقيه بماء الأمنية ثم لا أزال أعده وأمنية حتى أقوي عزيمته وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من العصمة فلا تهملوا أمر هذا الثغر وأفسدوه بحسب استطاعتكم وهونوا عليه أمره وقولوا له: مقدار نظرة تدعوك إلى تسبيح الخالق والتأمل لبديع صنيعه وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه وما خلق الله لك





ص -115- العينين سدى وما خلق الله هذه الصورة ليحجبها عن النظر وإن ظفرتم به قليل العلم فاسد العقل فقولوا له: هذه "الصورة" مظهر من مظاهر الحق ومجلى من مجاليه فادعوه إلى القول بالاتحاد فإن لم يقبل فالقول بالحلول العام أو الخاص ولا تقنعوا منه بدون ذلك فإنه يصير به من إخوان النصارى فمروه حينئذ بالعفة والصيانة والعبادة والزهد في الدنيا واصطادوا عليه "وبه" الجهال فهذا من أكبر خلفائي وأكبر جندي بل أنا من جنده وأعوانه.
فصل:
ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر فاجتهدوا أن لا تدخلوا منه إلا الباطل فإنه خفيف على النفس تستحليه وتستحسنه تخيروا له أعذاب الألفاظ وأسحرها للألباب وامزجوه بما تهوى النفس مزجا وألقوا الكلمة فإن رأيتم منه إصغاء إليها فزجوه بأخوانها وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شىء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء فإن غلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء فحولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكير فيه والعظة به و إما بإدخال ضده عليه وإما بتهويل ذلك وتعظيمه وأن هذا أمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها إليه وهو حمل يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك وإما بإرخاصه على النفوس وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أغلى عند الناس وأعز عليهم وأغرب عندهم وزبونه القائلون له أكثر وأما الحق فهو مهجور وقائله به معرض نفسه للعدواة والربح بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك فتدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله ويخف عليه وتخرجون له الحق في كل قالب يكرهه ويثقل عليه.



ص -116- وإذا شئت أن تعرف ذلك فانظر إلى إخوانهم من شياطين الإنس كيف يخرجون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب كثرة الفضول وتتبع عثرات الناس والتعرض من البلاء لما لا يطيق وإلقاء الفتن بين الناس ونحو ذلك ويخرجون أتباع السنة ووصف الرب تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في قالب التجسيم والتشبيه والتكييف ويسمون علو الله على خلقه واستواءه على عرشه ومباينته لمخلوقاته تحيزا ويسمون نزوله إلى سماء الدنيا وقوله: "من يسألني فأعطيه" تحركا وانتقالا ويسمون ما وصف به نفسه من اليد والوجه أعضاء وجوارح ويسمون ما يقوم به من أفعاله حوادث وما يقوم من صفاته أعراضا ثم يتوصلون إلى نفي ما وصف به نفسه بنفي هذه الأمور ويوهمون الأغمار وضعفاء البصائر أن إثبات الصفات التي نطق بها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تستلزم هذه الأمور ويخرجون هذا التعطيل في قالب التنزيه والتعظيم وأكثر الناس ضعفاء العقول يقبلون الشيء بلفظ ويردونه بعينه بلفظ آخر قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} فسماه زخرفا وهو باطل لأن صاحبه يزخرفه ويزينه ما استطاع ويلقيه إلى سمع المغرور فيغتر به.
والمقصود: أن الشيطان قد لزم ثغر الأذن أن يدخل فيها ما يضر العبد ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه وإن دخل بغير اختياره أفسد عليه.
فصل:
ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان فإنه الثغر الأعظم وهو قبالة الملك فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه وامنعوه أن يجري عليه شيء مما





ص -117- ينفعه من ذكر الله تعالى واستغفاره وتلاوة كتابه ونصيحة عباده والتكلم بالعلم النافع ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان لا تبالون بأيهما ظفرتم:
أحدهما: التكلم بالباطل فإنما المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن أكبر جندكم وأعوانكم.
الثاني: السكوت عن الحق فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس كما أن الأول أخ ناطق وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم أما سمعتم قول الناصح: "المتكلم بالباطل شيطان ناطق والساكت عن الحق شيطان أخرس" فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن الباطل وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق وخوفوه من التكلم بالحق.بكل طريق.
واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم وأكبَّهم منه على مناخرهم في النار فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر؟
وأوصيكم بوصية فاحفظوها: لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة ويكون الآخر على لسان السامع فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها ويطلب من أخيه إعادتها وكونوا أعوانا على الإنس بكل طريق وادخلوا عليهم من كل باب واقعدوا لهم كل مرصد أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} أو ما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقه كلها فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له من طريق غيره حتى أصبت منه حاجتي أو بعضها و قد حذرهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: "إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها وقعد له بطريق الإسلام فقال: له أتسلم وتذر





ص -118- دينك ودين آبائك؟ فخالفه وأسلم فقعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ فخالفه وهاجر فقعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة فخالفه وجاهد" فكهذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة وقولوا له في نفسه أتخرج المال وتبقى مثل هذا السائل وتصير بمنزلته أنت سواء؟ أو ما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه فقال: هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم واقعدوا له بطريق الحج فقولوا: طريقه مخوفة مشقة يتعرض سالكها لتلف النفس والمال وهكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير منها وذكر صعوبتها وآفاتها ثم اقعدوا لهم على طريق المعاصي فحسنوها في عين بني آدم وزينوها في قلوبهم واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء فمن أبوابهن فادخلوا عليهم فنعم العون هن لكم.
ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين فامنعوها أن تبطش بما يضركم و تمشى فيه واعلموا أن أكثر أعوانكم على لزوم هذه الثغور مصالحة النفس الأمارة فأعينوها واستعينوا بها وأمدوها واستمدوا منها وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها وإبطال قواها ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع موادها عنها فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة وانطاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه واعزلوه عن مملكته وولوا مكانه النفس فإنها لا تأمر إلا بما تهوونه وتحبونه ولا تحيئكم بما تكرهونه البتة مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله فإن أحسستم من القلب منازعة إلى مملكته وأردتم الأمن من ذلك فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح فزينوها وجملوها وأروها إياه في أحسن صورة عروس توجد وقولوا له: ذق ة طعم هذا الوصال والتمتع بهذه





ص -119- العروس كما ذقت طعم الحرب وباشرت مرارة الطعن والضرب ثم وازن بين لذة هذه المسالمة ومرارة تلك المحاربة فدع الحرب تضع أوزارها فليست بيوم وتنقضي وإنما هو حرب متصل بالموت وقواك تضعف عن حرب دائم.
واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما:
أحدهما: جند الغفلة فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن إغوائه.
الثاني: جند الشهوات فزينوها في قلوبهم وحسنوها في أعينهم وصُولوا عليهم بهذين العسكرين فليس لكم من بني آدم أبلغ منهما واستعينوا على الغفلة بالشهوات وعلى الشهوات بالغفلة واقرنوا بين الغافلين ثم استعينوا بهما على الذاكر ولا يغلب واحد خمسة فإن مع الغافلين شيطانين صاروا أربعة وشيطان الذاكر معهم وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم من ذكر الله أو مذاكرة أمر ونهيه ودينه ولم تقدورا على تفريقهم فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الإنس البطالين فقربوهم منهم وشوشوا عليهم بهم.
وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها وأدخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته فساعدوه عليها وكونوا أعوانا له على تحصيلها وإذا كان الله قد أمرهم أن يصبروا لكم ويصابروكم ويرابطوا عليكم الثغور فاصبروا أنتم وصابروا ورابطوا عليهم بالثغور وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين.
واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور فخذوا عليه طريق الشهوة ودعوا طريق الغضب ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب فلا تخلوا طريق الشهوة عليه ولا تعطلوا ثغرها





ص -120- فإن من لم يملك نفسه عند الغضب فإنه بالحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة فزوجوا بين غضبة وشهوته وامزجوا أحدهما بالآخر وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب وإلى الغضب من طريق الشهوة.
واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب فبه قطعت أرحامهم وسفكت دماؤهم وبه قتل أحد بني آدم أخاه.
واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم والشهوة نار تثور من قلبه وإنما تطفأ النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة فإن ذلك يطفئ عنهم نار الغضب والشهوة وقد أمرهم نبيهم بذلك وقال: "إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بذلك فليتوضأ" وقال لهم: "إنما تطفأ النار بالماء" وقد أوصاهم الله أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة فحولوا بينهم وبين ذلك وأنسوهم إياه واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها الغفلة واتباع الهوى وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى فإذا رأيتم الرجل مخالفا لهواه فاهربوا من ظلمه ولا تدنوا منه.
والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداه ويعينهم بها على نفسه فيقاتلونه بسلاحه ويكون معهم على نفسه وهذا غاية الجهل قال:

ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:46 AM   #19
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ومن العجب أن العبد يسعى بنفسه في هوان نفسه وهو يزعم أنه لها مكرم ويجتهد في حرمانها أعلى حظوظها وأشرفها وهو يزعم أنه يسعى في حظها ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدسيتها وهو يزعم أنه يعليها ويرفعها ويكبرها.



ص -121- وكان بعض السلف يقول في خطبته: ألا رُبَّ مهين لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم ومذل لنفسه وهو يزعم أنه لها معزٌّ ومصغر لنفسه وهو يزعم أنه لها مكبر ومضيع لنفسه وهو يزعم أنه مراع لحفظها وكفى بالمرء جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه يبلغ منها بفعله مالا يبلغ منه عدوه والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تنسي العبد نفسه وإذا نسي نفسه أهملها وأفسدها وأهلكها.
فإن قيل: كيف ينسى العبد نفسه؟ وإذا نسي نفسه فأي شيء يذكر؟ وما معنى نسيانه نفسه؟
قيل: نعم ينسى نفسه أعظم نسيان قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فلما نسوا ربهم سبحانه نسيهم وأنساهم أنفسهم كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} فعاقب سبحانه من نسيه عقوبتين.
إحداهما: أنه سبحانه نسيه والثانية أنه أنساه نفسه.
ونسيانه سبحانه للعبد إهماله وتركه وتخليه عنه وإضاعته ونسيانه فالهلاك أدنى إليه من اليد للفم وأما إنساؤه نفسه فهو إنساؤه لحظوظها العالية وأسباب سعادتها وفلاحها وصلاحها وما تكمل به بنسيه ذلك كله جميعه فلا يخطره بباله ولا يجعله على ذكره ولا يصرف إليه همته فيرغب فيه فإنه لا يمر بباله حتى يقصده ويؤثره.
وأيضا فينسيه عيوب نفسه ونقصها وآفاتها فلا يخطر بباله إزالتها.



ص -122- وأيضا ينسيه أمراض نفسه وقلبه وآلامها فلا يخطر بقلبه مداواتها ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول بها إلى الفساد والهلاك فهو مريض مثخن بالمرض ومرضه مترام به إلى التلف ولا يشعر بمرضه ولا يخطر بباله مداواته وهذا من أعظم العقوبة للعامة والخاصة.
فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتهما وصلاحها وفلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم؟
ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن أكثر هذا الخلق قد نسوا أنفسهم حقيقة وضيعوها وأضاعوا حظها من الله وباعوها رخيصة بثمن بخس بيع الغبن وإنما يظهر لهم هذا عند الموت ويظهر كل الظهور يوم التغابن يوم يظهر للعبد أنه غبن في العقد الذي عقده لنفسه في هذه الدار والتجارة التي أتجر فيها لمعاده فان كل أحد يتجر في هذه الدنيا لآخرته.
فالخاسرون الذين يعتقدون أنهم أهل الربح والكسب اشتروا الحياة الدنيا وحظهم فيها فأذهبوا طيباتهم ولذاتهم بالآخرة وحظهم فيها في حياتهم الدنيا وحظهم فيها ولذاتهم بالآخرة واستمتعوا بها ورضوا بها واطمأنوا إليها وكان سعيهم لتحصيلها فباعوا واشتروا واتجروا وباعوا آجلا بعاجل ونسيئة بنقد وغائبا بناجز وقالوا: هذا هو الزهرة ويقول أحدهم:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
فكيف أبيع حاضرا نقدا مشاهدا في هذه الدار بغائب نسيئه في دار أخري غير هذه وينضم إلى ذلك ضعف الإيمان وقوة داعي الشهوة ومحبة العاجلة والتشبه ببني الجنس فأكثر الخلق في هذه التجارة الخاسرة التي قال: الله في أهلها {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ





ص -123- الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} وقال فيهم {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فإذا كان يوم التغابن ظهر لهم الغبن في هذه التجارة فتنقطع عليهم النفوس حسرات.
وأما الرابحون فإنهم باعوا فانيا بباق وخسيسا بنفيس وحقيرا بعظيم وقالوا ما مقدار هذه الدنيا من أولها إلى آخرها حتى نبيع حظنا من الله تعالي والدار الآخرة بها فكيف بما ينال العبد منها في هذا الزمن القصير الذي هو في الحقيقة كغفوة حلم لا نسبة له إلى الدار القرار البتة قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إلى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وقال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إلاّ يَوْماً} فهذه حقيقة هذه الدنيا عند موافاة يوم القيامة فلما علموا قلة لبثهم فيها وإن لهم دار غير هذه الدار دار الحيوان ودار البقاء رأوا من أعظم الغبن بيع دار البقاء بدار الفناء فاتجروا تجارة الأكياس ولم يغتروا بتجارة السفهاء من الناس, فظهر لهم يوم التغابن ربح تجارتهم ومقدار ماشتروه, وكل أحد في هذه الدنيا بائع مشتر متجر. وكل الناس يغدو فبائع نفسه, فمعتقها أو موبقها {إِنَّ اللَّهَ





ص -124- اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
فهذا أول نقد من ثمن هذه التجارة, فتاجروا أيها المفلسون, ويا من لا يقدر على هذا الثمن هاهنا ثمن آخر, فان كنت من أهل هذه التجارة فأعط هذا الثمن {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
والمقصود أن الذنوب تنسي العبد حظه من هذه التجارة الرابحة, وتشغله بالتجارة الخاسرة, وكفى بذلك عقوبة, والله المستعان.
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تزيل النعم الحاضرة, وتقطع النعم الواصلة, فتزيل الحاصل, وتمنع الواصل, فان نعم الله ما حفظ موجودها بمثل طاعته, ولا استجلب مفقودها بمثل طاعته, فأن ماعنده لا ينال إلاّ بطاعته, وقد جعل الله سبحانه لكل شيء سببا وآفة: سببا يجلبه, وآفة تبطله, فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته, وآفاتها المانعة منها معصيته, فاذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها, وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.
ومن العجيب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره, وسماعا لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه, وهو مقيم على معصية الله, كأنه





ص -125- مستثنى من هذه الجملة (أو) مخصوص من هذا العموم, وكأن هذا أمر جار على الناس لا عليه, وواصل إلى الخلق لا إليه.
فأي جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا؟ فالحكم لله العلى الكبير
فصل:
ومن عقوباتها: أنها تباعد عن العبد وليه, وأنفع الخلق له, وأنصحهم له, ومن سعادته في قربه منه: وهو الملك الموكل به, وتدنى منه عدوه, وأغش الخلق له, وأعظمهم ضررا له: وهو الشيطان, فان العبد إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية, حتى أنه يتباعد منه بالكذبة الواحدة مسافة بعيدة.
وفي بعض الآثار"إذا كذب العبد تباعد منه الملك ميلا من نتن ريحه". فإذا كان هذا تباعد الملك منه من كذبة واحدة, فماذا يكون قدر تباعده منه مما هو أكبر من ذلك, وأفحش منه؟
وقال بعض السلف: إذا ركب الذكرُ الذكرَ عجت الأرض إلى الله, وهربت الملائكة إلى ربها, وشكت إليه عظم ما رأت.
وقال بعض السلف: إذا أصبح ابن آدم ابتدره الملك والشيطان, فان ذكر الله وكبره وحمده وهلله طرد الملك الشيطان وتولاه, وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان.
ولا يزال الملك يقرب من العبد حتي يصير الحكم والطاعة والغلبة له, فتتولاه الملائكة في حياته وعند موته وعند مبعثه, كما قال: الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ إلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق له وأنفعهم وأبرهم له, فثبته وعلمه, وقوي جنانه, وأيده. قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي





ص -126- مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فيقول له الملك عند الموت:"لا تخف ولا تحزن وأبشر بالذى يسرك"ويثبته بالقول الثابت أحوج ما يكون إليه في الحياة الدنيا, وعند الموت. وفي القبر عند المسألة.
فليس أحد أنفع للعبد من صحبة الملك له, وهو وليه في يقظته ومنامه, وحياته وعند موته, وفي قبره. ومؤنسه في وحشته, وصاحبه في خلوته, ومحدثه في سره, ويحارب عنه عدوه, ويدافع عنه ويعينه عليه, ويعده بالخير ويبشره به, ويحثه على التصديق بالحق, كما جاء في الأثر الذي يروى مرفرعاً وموقوفا"إن للملك بقلب ابن آدم لمة"وللشيطان لمّة, فلمة الملك إبعاد بالخير وتصديق بالوعد, ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق".
وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه, وألقى على لسانه القول السديد, وإذا أبعد منه وقرب الشيطان من العبد تكلم على لسانه, قول الزور والفحش, حتى يرى الرجل يتكلم على لسانه الملك, والرجل يتكلم على لسانه الشيطان.
وفي الحديث"إن السكينة تنطق على لسان عمر رضي الله عنه وكان أحدهم يسمع الكلمة الصالحة من الرجل الصالح فيقول: ما ألقاها على لسانك إلاّ الملك, ويسمع ضدها فيقول: ما ألقاها على لسانك إلاّ الشيطان, فالملك يلقى بالقلب الحق, ويلقيه على اللسان, والشيطان يلقي الباطل في القلب, ويجريه على اللسان.
فمن عقوبة المعاصي: أنها تبعد من العبد وليه الذي سعادته في قربه ومجاورته وموالاته, وتدني منه عدوه الذي شقاؤه وهلاكه وفساده في قربه وموالاته, حتى أن الملك لينافح عن العبد, ويرد عنه إذا سفه عليه السفيه وسبه, "كما





ص -127- اختصم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فجعل أحدهما يسب الآخر, وهو ساكت فتكلم بكلمة يرد بها على صاحبه, فقام النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله لما رددت عليه بعض قوله قمت, فقال: كان الملك ينافح عنك, فلما رددت عليه جاءَ الشيطان فلم أكن لأجلس"وإذا دعا العبد المسلم في ظهر الغيب لأخيه أمّن الملك على دعائه, وقال:"لك بمثله"وإذا فرغ من قرأة الفاتحة أمنت الملائكة على دعائه, وإذا أذنب العبد المؤمن الموحد المتبع لسبيله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم استغفر له حملة العرش ومن حوله, وإذا نام العبد المؤمن على وضوءٍ بات في شعاره ملك, فملك المؤمن يرد عنه ويحارب ويدافع عنه, ويعلمه ويثبته ويشجعه,


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:47 AM   #20
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


فلا يليق به أن ينسى جواره ويبالغ في أذاه وطرده عنه وإبعاده, فانه ضيفه وجاره, وإذا كان إكرام الضيف من الادميين والإحسان إلى الجار من لزوم الإيمان وموجباته, فما الظن بإكرام أكرم الأضياف, وخير الجيران وأبرهم؟ وإذا آذى العبد الملك بأنواع المعاصى والظلم والفواحش دعا عليه ربه, وقال:"لاجزاك الله خيرا"كما يدعوا له إذا أكرمه بالطاعة والإحسان.
قال: بعض الصحابة رضي الله عنهم: "إن معكم من لا يفارقكم, فاستحيوا منهم وأكرموهم".
ولا ألأم ممن لا يستحي من الكريم العظيم القدر, ولا يجله يكرمه ولا يوقره, وقد نبه سبحانه على هذا المعني بقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} أي استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم, وأجلوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يريكم عليه من هو مثلكم, والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم, وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن





ص -128- يفجر ويعصي بين يديه, وان كان قد يعمل مثله عمله, فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين؟ والله المستعان.
ومن عقوباتها: أنها تستجلب مواد هلاك العبد في دنياه وآخرته, فان الذنوب هي أمراض القلوب متى استحكمت قتلت ولا بد, وكما أن البدن لا يكون صحيحا إلاّ بغذاء يحفظ قوته, واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الردية التي متى غلبت عليه أفسدته, جميعه وحمية يمتنع بها من تناول مما يؤذيه ويخشى ضرره, فكذلك القلب لا تتم حياته إلاّ بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة تحفظ قوته, واستفراغ بالتوبة النصوح تستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الردية منه, وحمية توجب له حفظ الصحة وتجنب ما يضادها, وهي عبارة عن ترك استعمال ما يضاد الصحة, والتقوى: اسم يتناول هذه الأمور الثلاثة, فما فات منها فات من التقوى بقدره.
وإذا تبين هذا فالذنوب مضادة لهذه الأمور الثلاثة, فإنها يستجلب المواد المؤذية, وتوجب التخليط المضاد للحمية. وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح, فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الأخلاط ومواد المرض, وهو لا يستفرغها, ولا يحتمي لها, كيف تكون صحته وبقاؤه, ولقد أحسن القائل:

جسمك بالحمية أحصنته مخافة من ألم طاري

وكان أولى بك أن تحتمي من المعاصي خشية الباري

فمن حفظ القوة بامتثال الأوامر, واستعمل الحمية باجتناب النواهي واستفرغ التخليط بالتوبة النصوح, لم يدع للخير مطلبا, ولا من الشر مهربا, والله المستعان.
فصل:
فإن لم ترعك هذه العقوبات, ولم تجد لها تأثيرا في قلبك, فأحضره



ص -129- العقوبات الشرعية التي شرعها الله ورسوله على الجرائم, كما قطع اليد في سرقة السارق في ثلاثة دراهم, وقطع اليد والرجل في قطع الطريق على معصوم المال والنفس, وشق الجلد بالسوط على كلمة قذف بها المحصن, أو قطرة خمر يدخلها جوفه, وقتل بالحجارة أشنع قتلة في إيلاج الحشفة في فرج حرام, وخفف هذه العقوبة عمن لم تتم عليه نعمة الإحصان بمائة جلدة وينفي سنة عن وطنه وبلده إلى بلد الغربة, وفرق بين رأس العبد وبدنه إذا وقع على ذات حرم محرم منه, أو ترك الصلاة المفروضة, أو تكلم بكلمة كفر, وأمر بقتل من وطىء ذكرا مثله, وقتل المفعول به, وأمر بقتل من أتي بهيمة, وقتل البهيمة معه, وغرم على تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة, وغير ذلك من العقوبات التي رتبها الله على الجرائم, وجعلها حسب الدواعي إلى تلك الجرائم, وحسب الوازع عنها, فما كان الوازع عنها طبيعيا وما ليس في الطباع داع إليه اكتفى فيه بالتحريم مع التعزير, ولن يرتب عليه حدا, كأكل الرجيع, وشرب الدم, وأكل الميتة, وما كان في الطباع داع إليه رتب عليه من العقوبة بقدر مفسدته, وبقدر داع الطبع إليه.
ولهذا لما كان داع الطباع إلى الزنا من أقوى الدواعي كانت من عقوبته العظمى من أشنع القتلات وأعظمها, وعقوبته السهلة على أنواع الجلد مع زيادة التغريب, ولما كانت (جريمة) اللواط فيها الأمران كان حده القتل بكل حال, ولما كان داعي السرقة قويا ومفسدتها كذلك قطع فيها اليد.
وتأمل حكمته في إفساد العضو الذي باشربه الجناية, كما أفسد على قاطع الطريق يده ورجله اللتين هما آلة قعطه, ولم يفسد على القاذف لسانه الذي جنى به, إذ مفسدته تزيد على مفسدة الجناية ولا يبلغها, فاكتفى من ذلك بإيلام جميع بدنه بالجلد.



ص -130- فإن قيل: فهلا أفسد على الزاني فرجه الذي باشر به المعصية؟
قيل: لوجوه:
أحدها: أن مفسدة ذلك تزيد على مفسدة الجناية إذ فيه قطع النسل, وتعرضه للهلاك.
الثاني: أن الفرج عضو مستور لا يحصل بقطعه المقصود الحد من الردع والزجر لأمثاله من الجناة, بخلاف قطع اليد.
الثالث: أنه إذا قطع يده أبقى له يد أخرى تعوض عنها, بخلاف الفرج.
الرابع: أن لذة الزنا عمت جميع البدن, فكان الأحسن أن تعم العقوبة جميع البدن وذلك أولى من تخصيصها ببضعة منه.
فعقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه وأوفقها للعقل, وأقومها بالمصلحة.
والمقصود: أن الذنوب إنما تترتب عليها العقوبات الشرعية والقدرية, أو يجمعها الله للعبد, وقد يرفعهما عمن تاب وأحسن.
فصل:
وعقوبات الذنوب نوعان: شرعية, وقدرية, فإذا أقيمت الشرعية رفعت العقوبات القدرية أو خففتها, ولا يكاد الرب تعالى يجمع على العبد بين العقوبتين إلاّ إذا لم يف أحدهما برفع موجب الذنب, ولم يكن في زوال دائه وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية, وربما كانت أشد من الشرعية, وربما كانت دونها, ولكنها تعم, والشرعية تخص, فان الرب تبارك وتعالى لا يعاقب شرعا إلاّ من باشر الجناية أو تسبب إليها.



ص -131- وأما العقوبة القدرية فإنها تقع عامة وخاصة, فان المعصية إذا خفيت لم تضر إلاّ صاحبها, وإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة, وإذا رأي الناس المنكر فاشتركوا في ترك إنكاره أوشك أن يعمّم الله تعالى بعقابه.
وقد تقدم أن العقوبة الشرعية شرعها الله قدر مفسدة الذنب وتقاضي الطبع لها, وجعلها الله سبحانه ثلاثة أنواع: القتل, والقطع, والجلد, وجعل القتل بإزاء الكفر وما يليه ويقرب منه, وهو الزنا واللواط, فان هذا يفسد الأديان, وهذا يفسد (الأنساب, ونوع) الإنسان.
قال: الإمام أحمد رحمه الله:"لا أعلم بعد القتل ذنبا أعظم من الزنا"واحتج بحديث عبد الله بن مسعود أنه قال:"يا رسول الله, أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك, قال: قلت:ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك, قال: قلت: ثم أي, قال: أن تزني بحلية جارك"فأنزل تصديقها في كتابه {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} الآية.
والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر كل نوع أعلاه ليطابق جوابه سؤال السؤال سائل, فإنه سأله عن أعظم الذنب, فأجابه بما تضمن ذكر أعظم أنواعها, وما هو أعظم كل نوع.
فأعظم أنواع الشرك: أن يجعل العبد لله ندا.
وأعظم أنواع القتل: أن يقتل ولده خشية أن يشاركه في طعامه وشرابه.
وأعظم أنواع الزنى: أن يزني بحليلة جاره, فأن مفسدة الزنى تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق, فالزنى بالمرأة التي لها زوج أعظم إثماً وعقوبة من التي لا زوج لها, إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه, وتعليق نسب عليه لم يكن منه, وغير ذلك من أنواع أذاه: فهو أعظم إثماً وجرماً من الزنى بغير





ص -132- ذات البعل, فالزنى بمائة امرأة لا زوج لها أيسر عند الله من الزنى بامرأة الجار, فان كان زوجها جارا له انضاف إلى ذلك سوء الجوار, وإذا أجاره بأعلى أنواع الأذى, وذلك من أعظم البوائق.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"ولا بائقه أعظم من الزنى بامرأة الجار, فان كان الجار أخا له أو قريبا من أقاربه انضم إلى ذلك قطيعة الرحم, فيتضاعف الإثم, فان كان الجار غائبا في طاعة الله كالصلاة وطلب العلم والجهاد وتضاعف له الإثم, حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة ويقال: خذ من حسناته ما شئت, قال: النبي صلى الله عليه وسلم:"فما ظنكم؟"أي ما ظنكم أنه يترك له من حسنات قد حكِّم في أن يأخذ منها ما شاء؟ على شدة الحاجة إلى حسنة واحدة حيث لا يترك الأب لابنه ولا الصديق لصديقه حقا يجب عليه؟ فان اتفق أن تكون المرأة رحما منه انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها, فان اتفق أن يكون الزاني محصنا كان الإثم أعظم, فان كان شيخا كان أعظم إثماً, وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم, فان اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام, أو بلد حرام, أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلاة وأوقات الاجابة تضاعف الإثم, وعلى هذا فاعتبر مفاسد الذنوب وتضاعف درجاتها في الإثم والعقوبة, والله المستعان.
فصل:
وجعل سبحانه القطع بإزاء إفساد الأموال الذي لا يمكن الاحتراز منه, فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه, لأنه يأخذ الأموال في الاختفاء, وينقب الدور, ويتسور من غير الأبواب, فهو كالسِّنُّور والحية التي تدخل عليك من حيث.





ص -133- لا تعلم, فلم ترفع مفسدة سرقته إلى القتل, ولا تندفع بالجلد, فأحسن ما دفعت به مفسدته إبانة العضو الذي يتسلط به على الجناية, وجعل الجلد بإزاء إفساد العقول, وتمزيق الأعراض بالقذف. فدارت عقوباته سبحانه الشرعية على هذه الأنواع الثلاثة كما دارت الكفارات ثلاثة أنواع: العتق, وهو أعلاها, والإطعام, والصيام.
ثم إنه سبحانه جعل الذنوب ثلاثة أقسام:
قسما فيه الحد, فهذا لم يشرع فيه كفارة اكتفاء الحد.
وقسما لم يترتب عليه حدا, فشرع فيه الكفارة, كالوطء في نهار رمضان, والوطء في الإحرام, الظهار, وقتل الخطإ, والحنث في اليمين, وغير ذلك.
وقسما لم يترتب عليه حدا ولا كفارة, وهو نوعان:
أحدهما: ما كان الوازع عنه طبيعيا, كأكل العذرة, وشرب البول والدم.
والثاني: ما كانت مفسدته أدنى من مفسدة ما رتب عليه الحد, كالنظر والقبلة واللمس والمحادثة, وسرقة فلس, ونحو ذلك.
وشرع الكفارات في ثلاثة أنواع:
أحدها:ما كان مباح الأصل, ثم عرض تحريمه فباشره في الحالة التي عرض فيها التحريم, كالوطء في الإحرام والصيام, وطرده: الوطء في الحيض والنفاس, بخلاف الوطء في الدبر, ولهذا كان إلحاق بعض الفقهاء له بالوطء في الحيض لا يصح, فإنه لايباح في وقت دون وقت, فهو بمنزلة التلوط وشرب المسكر.
النوع الثاني: ما عقد لله من نذر أو ما الله من يمين, أو حرمه الله ثم أراد



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ضعف مراقبة الله في الخلوات ( الداء والدواء ) فخوره بحجابى مواضيع لاتدعها تفوتك !! Threads do not let them miss 6 05 Oct 2012 08:36 PM
الطب النبوي ... لأبن القيم محمد الغماري طب الأعشاب . علمها وطبها وفوائدها Department of Herbal Medicine. Flag and Dobaa and benefits 44 04 Apr 2010 02:03 AM
اخي اراقي:اين الجواب الكافي. نضال الدين اليمني إدارة الطب الإلهي والنبوي ـ االإستشارات العلاجية والإستشفاء ـ Department of Medicine and the Prophet 2 07 Apr 2008 10:12 PM
الداء والدواء .. مسك 2007 منهج السلف الصالح . The Salafi Curriculum 8 08 Mar 2008 08:51 PM
//--// الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي //--// نورالهدى منهج السلف الصالح . The Salafi Curriculum 2 03 May 2007 12:46 PM

 
مايُكتب على صفحات المركز يُعبّر عن رأى الكاتب والمسؤولية تقع على عاتقه


علوم الجان - الجن - عالم الملائكة - ابحاث عالم الجن وخفاياه -غرائب الجن والإنس والمخلوقات - فيديو جن - صور جن - أخبار جن - منازل الجن - بيوت الجن- English Forum
السحر و الكهانة والعرافة - English Magic Forum - الحسد والعين والغبطة - علم الرقى والتمائم - الاستشارات العلاجية - تفسير الرؤى والاحلام - الطب البديل والأعشاب - علم الحجامة

الساعة الآن 09:38 AM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2011-2012
جميع الحقوق محفوظة لمركز دراسات وأبحاث علوم الجان العالمي