اعلانات
اعلانات     اعلانات
 


بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ : روى الإمام مسلم عن أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مَن صام رمضان ثم أتبَعَه ستًّا من شوَّال، كان كصيام الدهر))؛ وروى الإمام الطبراني عن عبدالله ابن عمررضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صام رمضانَ وأتبعه ستًّا من شوَّالٍ خرج من ذنوبِه كيومِ ولدته أمُّه ) .

اللهم ربنا تقبل منا الصيام والصلاة والقرآن والقيام والدعاء وسائر صالح الأعمال ،وأجعلنا ممن قام ليلة القدر واجعلنا فيها من الفائزين المقبولين وكل عام ونحن وجميع المسلمين في خيرورخاء وصحة وعافية وسعادة وأمن وأمان .


           :: جنوب إفريقيا: شعوذة وسحر لربح مباريات كرة القدم . (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر في أمم إفريقيا.. الشرطة تشارك وزملاء يهاجمون بعضهم . (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر في الكرة الإفريقية داء أم دواء وهمي ؟ (آخر رد :ابن الورد)       :: رحلتي الخطيرة في إستكشاف السحر الأسود في أدغال أفريقيا - التوجو . (آخر رد :ابن الورد)       :: شاهد عيان .. سحر في أفريقيا . (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر والشعوذة تجارة رائجة في أفريقيا . (آخر رد :ابن الورد)       :: قبائل تعيش على السحر الأسود: ترقص مع الشياطين؟ (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر والشعوذة.. على كل شكل ولون في إفريقيا . (آخر رد :ابن الورد)       :: السحر فى أفريقيا.. طريقة لتفسير الحياة والدين والفوز فى مباريات كرة القدم (آخر رد :ابن الورد)       :: حلم (آخر رد :ابن الورد)      

 تغيير اللغة     Change language
Google
الزوار من 2005:
Free Website Hit Counter

طب الأعشاب . علمها وطبها وفوائدها Department of Herbal Medicine. Flag and Dobaa and benefits كل ماجُرب فنفع مع خلو مسؤولية الموقع عن أى وصفة غير معتمدة من قبل المختصين فى الموقع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04 Apr 2010, 02:48 AM   #21
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ص -134- حله, فشرع الله سبحانه حله بالكفارة وسماها تحلة, وليست هذه الكفارة ماحية لهتك حرمة الإسم بالحنث, كما ظنه بعض الفقهاء, فان لحنث قد يكون واجبا, وقد يكون مستحبا, وقد يكون مباحا, وإنما الكفارة حل لما عقده.
النوع الثالث: ما تكون فيه جابرة لما فات, ككفارة قتل الخطأ, وإن لم يكن هناك إثم, وكفارة قتل الصيد خطأ, وإن لم يكن هناك إثم فإن ذلك من باب الجوابر, والنوع الأول من باب الزواجر, والنوع الأوسط من باب التحلة لما منعه العقد.
ولا يجتمع الحد والتعزير في معصية, بل إن كان فيها حد اكتفى به, وإلاّ اكتفى بالتعزير, ولا يجتمع الحد والكفارة في معصية, بل كان معصية فيها حد فلا كفارة فيها, وما فيه كفارة فلا حد فيه, وهل يجتمع التعزير والكفارة في المعصية التي لا حد فيها؟ فيه وجهان, وهذا كالوطء في الإحرام والصيام, ووطء الحائض, إذا أوجبنا فيه الكفارة, فقيل: يجب التعزير, لما انتهك من الحرمة بركوب الجناية, وقيل: لا تعزير في ذلك, اكتفاء بالكفارة, لأنها جابرة وماحية.
فصل:
وأما العقوبات القدرية فهي نوعان: نوع على القلوب والنفوس, ونوع على الأبدان والأموال.
والتي على القلوب نوعان, أحدهما: آلام وجودية يضرب بها القلب, والثاني: قطع المواد التي بها حياته وصلاحه عنه, وإذا قطعت عنه حصل له أضدادها, وعقوبة القلوب أشد العقوبتين, وهي أصل عقوبة الأبدان.
وهذه العقوبة تقوى وتتزايد, حتى تسري من القلب إلى البدن, كما يسري ألم البدن إلى القلب, فإذا فارقت النفس البدن صار الحكم متعلقا بها,



ص -135- فظهرت القلب حينئذ وصارب علانية ظاهرة, وهي المسماة بعذاب القبر, ونسبته إلى البرزخ كنسبة عذاب الأبدان إلى هذه الدار
فصل:
والتي على الأبدان أيضا نوعان: نوع في الدنيا, ونوع في الآخرة, وشدتها ودوامها بحسب مفاسد ما رتبت عليه في الشدة والخفة, فليس في الدنيا والآخرة شر أصلا إلاّ الذنوب وعقوباتها, فالشر إسم لذلك كله, وأصله من شر النفس وسيئات الأعمال, وهما الأصلان اللذان كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منها في خطبته بقوله"ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا"وسيئات الأعمال: من شرور النفس, فعاد كله إلى شر النفس, فإن سيئات الأعمال من فروعه وثمراته.
وقد اختلف في معنى قوله"ومن سيئات أعمالنا"هل معناه السيء من أعمالنا, فيكون من باب إضافة الفرع إلى جنسه؟ أو تكون بمعنى"من"بيانية, وقيل: معناه من عقوباتها التي تسوء, فيكون التقرير: ومن عقوبات أعمالنا التي تسوؤنا, ويرجح هذا القول: أن الاستعاذة تكون قد تضمنت جميع الشر فإن شرور الأنفس تستلزم الأعمال السيئة, وهي تستلزم العقوبات السيئة فنبه بشرور الأنفس على ما تقتضيه من قبح الأعمال, واكتفى بذكرها منه, إذ هو أصله, ثم ذكر غاية الشر ومنتهاه, فهو السيئات التى تسوء العبد عن عمله, من العقوبات والآلام, فتضمنت هذه الأستعاذة أصل الشر وفرعه وغايته ومقتضاه, ومن دعاء الملائكة للمؤمنين قولهم: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} فهذا يتضمن طلب وقايتهم من سيئات الأعمال وعقوباتها التي تسوء صاحبها فإنه سبحانه متى وقاهم عمل السيئ وقاهم جزاء





ص -136- السيئ, وإن كان قوله {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أظهر في عقوبات الأعمال المطلوب وقايتها يومئذ.
فإن قيل: فقد سألوه سبحانه أن يقيهم عذاب الجحيم, وهذا هو وقاية العقوبات السيئة, فدل على أن المراد السيئة التي سألوا وقايتها: الأعمال السيئة, ويكون الذي سأله الملائكة نظير ما ستعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يرد على هذا قوله{يَوْمَئِذٍ} فإن المطلوب وقل شرور سيئات الأعمال ذلك اليوم, وهي سيئات في أنفسها.
قيل: وقاية السيئات نوعان: أحدهما: وقاية فعلها بالتوفيق فلا تصدر منه, والثاني: وقاية جزائها بالمغفرة, فلا يعاقب عليها.فتضمنت الآية سؤال الأمرين, والظرف تقييد للجملة الشرطية لا للجملة الطلبية.
وتأمل ما تضمنه هذا الخبر عن الملائكة من مدحهم بالإيمان, والعمل الصالح, والإحسان إلى المؤمنين بالإستغفار لهم, وقدموا بين استغفارهم توسلهم إلى الله سبحانه بسعة علمه, وسعة رحمته, فسعة علمه تتضمن علمه بذنوبهم وأسبابها وضعفهم عن العصمة, واستيلاء عدوهم وأنفسهم, وهواهم وطباعهم, وما زين لهم من الدنيا وزينتها, وعلمه بهم, إذا أنشأهم من الأرض, وإذا هم أجنة في بطون أمهاتهم, وعلمه السابق بأنهم لا بد أن يعصوه, وأنه يحب العفو والمغفرة, وغير ذلك من سعة علمه الذي لا يحيط به أحد سواه, وسعة رحمته تتضمن أنه لا يهلك عليه أحد من المؤمنين به أهل توحيده ومحبته, فإنه واسع الرحمة لا يخرج عن دائرة رحمته إلاّ الأشقياء, ولا أشقى ممن لم تسعه رحمته التي وسعت كل شيء, ثم سألوه أن يغفر للتائبين الذين اتبعوا سبيله, وهو صراطه الموصل إليه الذي هو معرفته ومحبته وطاعته, فتابوا مما يكره, واتبعوا السبيل الذي يحبها, ثم سألوه أن يقيهم عذاب الجحيم, وأن يدخلهم والمؤمنين من





ص -137- أصولهم وفروعهم وأزواجهم - جنات عدن التي وعدهم بها, وهو سبحانه وإن كان لا يخلف الميعاد, فإنه وعدهم بها بأسباب, من جملتها: دعاء الملائكة لهم أن يدخلهم إياها برحمته التي منها أن وفقهم لأعمالها, وأقام ملائكته يدعون لهم بها.
ثم أخبر سبحانه عن ملائكته أنهم قالوا عقيب هذه الدعوة: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي مصدر ذلك وسببه وغايته صادر عن كمال قدرتك وكمال علمك, فإن العزة كمال القدرة, والحكمة كمال العلم, وبهاتين الصفتين يقضي سبحانه وتعالى ما يشاء ويأمر وينهى, ويثيب ويعاقب, فهاتان الصفتان مصدر الخلق والأمر.
والمقصود: أن عقوبات السيئات تتنوع إلى عقوبات شرعية, وعقوبات قدرية, وهي إمّا في القلب, وإما في البدن, وإما فيهما, وعقوبات في دار البرزخ بعد الموت, وعقوبات يوم حشر الأجساد, في الدار الآخرة فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة, ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة, لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم, فإذا استيقظ وصحي أحسن بالألم, فترتب العقوبات على الذنوب كترتب الإحراق على النار, والكسر على الانكسار, والإغتراق على الماء, وفساد البدن على السموم, والأمراض على الأسباب الجالبة لها, وقد تقارن المضرة الذنب, وقد تتأخر عنه, إما يسير وإما مدة كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه, وكثيرا ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام ويذنب الذنب فلا يري أثره عقيبه, ولا يدري أنه يعمل وعمله على التدريج شيئا فشيئا, كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القذة بالقذة فإن تدارك العبد بالأدوية والاستفراغ والحمية, وإلاّ فهو صائر إلى الهلاك, هذا





ص -138- إذا كان ذنبا واحدا لم يتداركه بما يزيل أثره, فكيف بالذنب على الذنب كل يوم وكل ساعة؟ والله المستعان.
فصل:
فاستحضر بعض العقوبات التي رتبها الله سبحانه وتعالى على الذنوب, وجوز وصول بعضها إليك, واجعل ذلك داعيا للنفس إلى هجرانها, وأنا أسوق لك منها طرفا يكفي العاقل مع التصديق ببعضه.
فمنها: الختم على القلوب والإسماع, والغشاوة على الإبصار, والإقفال على القلوب, وجعل الأكنة عليها والرين عليها والطبع, وتقليب الأفئدة والإبصار, والحيلولة بين المرأء وقلبه وإغفال القلب عن ذكر الرب, وإنساء الإنسان نفسه وترك إرادة الله تطهير القلب, وجعل الصدر ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء, وصرف القلوب عن الحق, وزيادتها مرضا على مرضها, وإركاسها وإنكاسها, بحيث تبقى منكوسة كما ذكر الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال:"القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر, فذلك قلب المؤمن, وقلب أغلف, فذلك قلب الكافر, وقلب منكوس, فذلك قلب المنافق, وقلب تمده مادتان: مادة إيمان, ومادة نفاق, وهو لما غلب عليه منهما"
ومنها التثبط عن الطاعة, والإقعاد عنها.
ومنها: جعل القلب أصم لا يسمع الحق, أبكم لا ينطق به, أعمى لا يراه, فتصير النسبة بين القلب وبين الحق الذي لا ينفعه غيره, كالنسبة بين أذن.





ص -139- الأصم والأصوات, وعين الأعمى والألوان, ولسان الأخرس والكلام, وبهذا يعلم أن العمى والصمم والبكم للقلب بالذات والحقيقة, وللجوارح بالعرض والتبعية {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وليس المراد نفي العمى الحسي عن البصر, كيف وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ}. وقال {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}. وإنما المراد أن العمى التام في الحقيقة عمى القلب, حتى أن عمي البصر بالنسبة إليه كالأعمى, حتى إنه يصح نفيه بالنسبة إلى كماله وقوته كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم"ليس الشديد بالصرعة, ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب". وقوله صلى الله عليه وسلم"ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس, ولا يفطن له فيتصدق عليه"ونظائره كثيرة.
والمقصود: أن من عقوبات المعاصي جعل القلب أعمى أصم أبكم.
ومنها: الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه: فيخسف به إلى أسفل سافلين, وصاحبه لا يشعر, وعلامة الخسف به: أنه لا يزال جوالا حول السفليات والقاذورات والراذائل, كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالا حول العرش.
ومنها: البر والخير ومعالي الأعمال والأقوال والأخلاق.
قال بعض السلف: "إن هذه القلوب جوالة, فمنها ما يجول حول العرش, ومنها ما يجول حول العش"
ومنها: مسخ القلب, فيمسخ كما تمسخ الصورة, فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته, فمن القلوب ما يمسخ على





ص -140- قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به, ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك, وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} قال: منهم من يكون على أخلاق السباع العادية, ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنازير وأخلاق الحمير, ومنهم من يتطوس في ثيابه كما يتطوس الطاوس, في ريشه ومنهم من يكون بليدا كالحمار, ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك, ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام, ومنهم الحقود كالجمل, ومنهم الذي هو خير كله كالغنم, ومنهم أشباه الذئاب ومنهم أشباه الثعالب التى تروغ كروغانها, وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحمر تارة, وبالكلب تارة, وبالانعام تارة, وتقوى هذه المشبهة باطنا حتي تظهر في الصورة الظاهرة ظهورا خفيا, يراه المتفرسون, وتظهر في الأعمال ظهورا يراه كل أحد, ولا يزال يقوي حتي تستشنع الصورة, فنقلب له الصورة بإذن الله, وهو المسخ التام, فيقلب الله سبحانه وتعالى الصورة الظاهرة على صورة ذلك الحيوان, كما فعل باليهود وأشباههم ويفعل بقوم من هذه الأمة يمسخهم قردة وخنازير.



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:49 AM   #22
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


فسبحان الله! كم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر؟ وقلب ممسوخ, وقلب مخسوف به, وكم من مفتون بثناء الناس عليه؟ ومغرور بستر الله عليه ومستدرج بنعم الله عليه؟ وكل هذه عقوبات وإهانات, ويظن الجاهل أنها كرامة.
ومنها: مكر الله بالماكر, ومخادعته للمخادع, واستهزاؤه بالمستهزىء, وإزاغته القلب الزائغ عن الحق.
ومنها: نكس القلب حتى يرى الباطل حقا, والحق باطلا, والمعروف منكرا, والمنكر معروفا, ويفسد ويرى أنه يصلح, ويصد عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعى إليها, ويشتري الضلالة بالهدى, وهو يرى أنه على الهدى, ويتبع هواه





ص -141- وهو يزعم أنه مطيع لمولاه, وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلب
ومنها: حجاب القلب عن الرب في الدنيا, والحجاب الأكبر يوم القيامة.
كما قال تعالى:{كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم فيصلوا إليها فيروا ما يصلحها ويزكيها, وما يفسدها ويشقيها وإن يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم, فتصل القلوب إليه, فتفوز بقربه وكرامته, وتقربه عينا وتطيب به نفسا, بل كانت الذنوب حجابا بينهم وبين قلوبهم, وحجابا بينهم وبين ربهم وخالقهم.
ومنها: المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة, قال: تعالي {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر, ولا ريب أنه من المعيشة الضنك, والآية تتناول ما هو أعم منه وإن كانت نكرة في سياق الإثبات فإن عمومها من حيث المعنى, فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره, فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه, وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم, ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه, وإنما يواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة, وإن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر, فسكرها هذه الأمور أعظم من سكر الخمر, فإنه يفيق صاحبه ويصحوا, وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحوا صاحبه إلاّ إذا سكر في عسكر الأموات, فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في دنياه وفي البرزخ ويوم معاده, ولا تقر العين, ولا يهدى القلب, ولا تطمئن النفس إلاّ بإلهها ومعبودها الذي هو حق, وكل معبود سواه باطل, فمن قرت عينه بالله.





ص -142- قرت به كل عين, ومن لم تقر عينه بالله تقطعت الدنيا حسرات, والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحا كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة والحسني يوم القيامة فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين.
ونظير هذا قوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} ونظيرها قوله تعالى{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة, حصلوا على الحياة الطيبة في الدارين, فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة, وهو النعيم على الحقيقة, ولا نسبة لنعيم البدن إليه.
فقد كان يقول بعض من ذاق هذه اللذة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفى عيش طيب.
قال الآخر: إن في الدنيا جنة هي في الدنيا كالجنة في الآخرة, فمن دخلها دخل تلك الجنة الآخرة, ومن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله"إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا, قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلق الذكر"وقال"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".



ص -143- ولا تظن أن قوله تعالى {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} يختص بيوم المعاد فقط, بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة, وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة, وأيّ لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب, وسلامة الصدر, ومعرفة الرب تعالى, ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلاّ عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإَِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وقال حاكيا عنه أنه قال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر, وحب الدنيا والرياسة, فسلم من كل آفة تبعده من الله, وسلم من كل شبهة تعارض خبره, ومن كل شهوة تعارض أمره, وسلم من كل إرادة تزاحم مراده, وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله, فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا, وفي جنة في البرزخ, وفي جنة يوم المعاد.
ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد وبدعة تخالف السنة, وشهوة تخالف الأمر, وغفلة تناقض الذكر, وهو يناقض التجريد والإخلاص.
وهذه الخمسة حجب عن الله, وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراداً لا تنحصر, ولذلك اشتدت حاجة العبد, بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم, فليس العبد أحوج إلى شيء منه إلى هذه الدعوة, وليس شيء أنفع له منها, فان الصراط المستقيم يتضمن علوماً وإرادات وأعمالاً وتروكا ظاهرة وباطنة تجري عليه كل وقت, فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد, وقد لا يعلمها, وقد يكون ما لا يعلمه أكثر مما يعلمه, وما يعلمه قد



ص -144- يقدر عليه وقد لا يقدر عليه, وهو من الصراط المستقيم وإن عجز عنه, وما يقدر عليه قد لا تريده, كسلا وتهاونا, أو لقيام مانع وغير ذلك, وما تريده قد يفعله وقد لا يفعله, وما يفعله قد يقوم بشروط الإخلاص وقد لا يقوم, وما يقوم فيه بشروط الإخلاص قد يقوم فيه بكمال المتابعة وقد لا يقوم, وما يقوم فيه بالمتابعة قد يثبت عليه وقد صرف قلبه عنه, وهذا كله واقع سار في الخلق, فمستقل ومستكثر, وليس في طباع العبد الهداية إلى ذلك, بل متى وكل إلى طباعه حيل بينه وبين ذلك كله, وهذا هو الإركاس الذي أركس الله به المنافقين بذنوبهم فأعادهم إلى طباعهم وما خلقت عليه نفوسهم من الجهل والظلم, والرب تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره, وأمر ونهيه, فيهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بفضله ورحمته, وجعل الهداية حيث تصلح, ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحل, وذلك موجب صراط المستقيم الذي هو عليه, فإذا كان يوم القيامة نصب لخلقه صراطاً مستقيما يوصله إليه, فهو على صراط مستقيم.
ونصب لعباده من أمره صراطاً مستقيماً دعاهم جميعا إليه حجة منه وعدلا, وهدى من يشاء منهم إلى سلوكه نعمة منه وفضلا, ولم يخرج بهذا العدل وهذا الفضل عن صراطه المستقيم الذي هو عليه, فإذا كان يوم لقائه نصب لخلقه صراطا مستقيما يوصلهم إلى جنته, ثم صرف عنه من صرف عنه في الدنيا, وأقام عليه من أقام عليه في الدنيا, وجعل نور المؤمنين به وبرسوله وما جاء به الذي كان في قلوبهم في الدنيا نورا ظاهرا لهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في ظلمة الحشر, وحفظ عليهم نورهم حتى يقطعوه, كما حفظ عليهم الإيمان حتى لقوه, وأطفأ نور المنافقين أحوج ما كانوا إليه, كما أطفأه من قلوبهم في الدنيا, وأقام أعمال





ص -145- العصاة بجنبتي الصراط كلاليب وحسكا تخطفهم كما تخطفهم في الدنيا عن الاستقامة عليه, وجعل قوة سيرهم وسرعتهم عليه على قدر قوة سيرهم وسرعتهم إليه في الدنياء, ونصب للمؤمنين حوضا يشربون منه بإزاء شربهم من شرعه في الدنيا, وحرم من الشرب منه هناك من حرم الشرب من شرعه ودينه هاهنا فانظروا إلى الآخرة كأنها رأى عين, وتأمل حكمة الله سبحانه في الدارين تعلم حينئذ (علما) يقينا لاشك فيه: أن الدنيا مزرعة الآخرة, وعنوانها وأنموذجها, وأن منازل الناس فيها من السعادة والشقاوة على حسب منازلهم في هذه الدار في الإيمان والعمل الصالح وضدهما, وبالله التوفيق.
فمن أعظم عقوبات الذنوب الخروج عن الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة.
فصل:
ولما كانت الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها تفاوتت عقوباتها في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتها.
ونحن نذكر فيها بعون الله وحسن توفيق فصلا وجيزا جامعا فتقول:
أصلها نوعان: ترك مأمور, وفعل محظور, وهما الذنبان اللذان ابتلى الله سبحانه أبوي الجن والإنس, بهما وكلاهما ينقسم باعتبار محله إلي ظاهر على الجوارح, وباطن في القلوب, وباعتبار متعلقة إلى حق الله, وحق خلقه, وإن كان كل حق لخلقه فهو متضمن لحقه, لكن سمى حقا للخلق, لأنه يجب بمطالبتهم, ويسقط بإسقاطهم.
ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام: ملكية, وشيطانية, وسبعية, وبهيمية, لا تخرج عن ذلك.



ص -146- فالذنوب الملكية: أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية, كالعظمة, والكبرياء, والجبروت, والقهر, والعلو, والظلم, واستعباد الخلق, ونحو ذلك, ويدخل في هذا الشرك بالله تعالى, وهو نوعان: شرك به في أسمائه وصفاته وجعل آلهة أخرى معه, وشرك به في معاملته, وهذا الثاني قد لا يوجب دخول النار, وإن أحبط العمل الذي أشرك فيه مع الله غيره.
وهذا القسم أعظم أنواع الذنوب, ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وأمره, فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه ربوبيته وملكيه, وجعل له ندا, وهذا أعظم الذنوب عند الله, ولا ينفع معه عمل.
فصل:
وأما الشيطانية: فالتشبه بالشيطان في الحسد, والبغي, والغش, والغل, والخداع, والمكر, والأمر بمعاصي الله, وتحسينها, والنهى عن طاعة الله, وتهجينها, والابتداع في دينه, والدعوة إلى البدع والضلال.
وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة, وإن كانت مفسدته دونه.
فصل:
وأما السبعية: فذنوب العدوان, والغضب, وسفك الدماء, والتوثب على الضعفاء والعاجزين, ويتولد منها أنواع أذي النوع الإنساني, والجرأة على الظلم والعدوان.
وأما الذنوب البهيمية: فمثل الشره, قضاء شهوة البطن والفرج, ومنها يتولد الزنى, والسرقة, وأكل أموال اليتامى, والبخل, والشح, والجبن, والهلع, والجزع, وغير ذلك.



ص -147- وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية, ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام, فهو يجرهم إليها بزمام, فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية, ثم إلي الشيطانية, ثم منازعة الربوبية, والشرك في الوحدانية.
ومن تأمل هذا حق التأمل تبين له أن الذنوب دهليز الشرك والكفر ومنازعة الله ربوبية.
فصل:
وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر, قال: الله تعالى {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاّ اللَّمَمَ}.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الصلوات الخمس, والجمعة إلى الجمعة, ورمضان إلي رمضان, مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات:


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:52 AM   #23
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


إحداها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها, والقيام بحقوقها, بمنزلة الدواء الضعيف الذي ينقص عن مقاومة الداء كمية وكيفية.
الثانية: أن تقاوم الصغائر, ولا ترتقى إلى تكفير شيء من الكبائر.
الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر, وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر. فتأمل هذا, فإنه يزيل عنك إشكالات كثيرة.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ألاّ أنبئكم بأكبر





ص -148- الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. فقال: الإشراك بالله, وعقوق الوالدين, وشهادة الزور".
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم:"اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم"أنه سئل أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قيل: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك"فأنزل الله تعالى تصديقها {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} الآية.
واختلف الناس في الكبائر, هل لها عدد يحصرها؟ على قولين:
ثم الذين قالوا بحصرها اختلفوا في عددها, فقال عبد الله بن مسعود: هي أربعة, وقال عبد الله بن عمر هي سبعة, وقال عبد الله بن عمرو ابن العاص هي تسعة, وقال غيره هي إحدى عشرة. وقال آخر: هي سبعون.
وقال أبو طالب المكي: جمعتها من أقوال الصحابة فوجدتها أربعة في القلب, وهي: الشرك بالله, والإصرار على المعصية, والقنوط من رحمة الله, والأمن من مكر الله. وأربعة في اللسان: شهادة الزور, وقذف المحصنات, واليمين الغموس, والسحر. وثلاثة في البطن: شرب الخمر, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا. واثنتان في الفرج: وهما الزنى, واللواط. واثنان في اليدين, وهما: القتل, والسرقة. وواحدة في الرجلين, وهي الفرار من الزحف. وواحدة تتعلق بجميع الجسد, وهو عقوق الوالدين.



ص -149- والذين لم يحصروها بعدد, منهم من قال: كلما نهى الله عنه في القرآن فهو كبيرة, وما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو صغيرة.
وقالت طائفة: ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن أو غضب أو عقوبة فهو كبيرة, ومالم يقرن به شيء من ذلك فهو صغيرة.
وقيل: كلما رتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة, وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا فهو صغيرة.
وقيل: كلما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر, وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة.
وقيل: كلما لعن الله أو رسوله فاعله فهو كبيرة, وقيل: كلما ذكر من أول سورة النساء إلى قوله {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}.
والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر قالوا: الذنوب كلها- بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه معصيته ومخالفة أمره – كبائر, فالنظر إلى من عصى أمره. وانتهك محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر, وهي مستوية في هذه المفسدة, قالوا: ويوضح هذا أن الله سبحانه لا تضره الذنوب ولا يتأثر بها, فلا يكون بعضها بالنسبة إليه أكبر من بعض, فلم يبق إلاّ مجرد معصيته ومخالفته, ولا فرق في ذلك بين ذنب وذنب.
قالوا: ويدل عليه أن مفسدة الذنب إنما هي تابعة للجراءة والتوثب على حق الرب تبارك وتعالى, ولهذا لو شرب رجل خمرا أو وطئ فرجا حراما, وهو لا يعتقد تحريمه, لكان قد جمع بين الجهل وبين مفسدة ارتكاب الحرام, ولو فعل ذلك من يعتقد تحريمه لكان آتيا بأحد المفسدتين, وهو الذي يستحق العقوبة دون الأول: فدل على أن مفسدة الذنب تابعة للجراءة والتوثب.



ص -150- قالوا: ويدل على هذا أن المعصية تتضمن الاستهانة بأمر المطاع ونهيه وإنتهاك حرمته, وهذا لا فرق فيه بين ذنب وذنب.
قالوا: فلا ينظر العبد إلى كبر الذنب وصغره في نفسه, ولكن ينظر إلى قدر من عصاه, وعظمته, وانتهاك حرمته بالمعصية, وهذا لا يقترن فيه الحال بين معصية ومعصية, فإن ملكا مطاعا عظيما لو أمر أحد مملوكيه أن يذهب في مهم له إلى بلد بعيد, وأمر آخر أن يذهب في شغل له إلى جانب الدار, فعصياه وخالفا أمره, لكانا في مقته والسقوط من عينه سواء.
قالوا: ولهذا كانت معصية من ترك الحج من مكة وترك الجمعة وهو جار المسجد أقبح عند الله من معصية من تركه من المكان البعيد, والواجب على هذا أكثر من الواجب على هذا, ولو كان مع رجل مائتا درهم ومنع زكاتها ومع آخر مائتا ألف ألف فمنع زكاتها لا يستويا في منع ما وجب على كل واحد منهما, ولايبعد استواؤهما في العقوبة, إذا كان كلا منهما مصرا على منع زكاة ماله, قليلا كان المال أو كثيرا.
فصل:
وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال:
إن الله عز وجل أرسل رسله, وأنزل كتبه, وخلق السموات والأرض ليعرف ويعبد ويوحد ويكون الدين كله لله, والطاعة كلها له, والدعوة له كما قال: تعالي {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} وقال تعالى: الله {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ





ص -151- وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
فأخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر: أن يعرف بأسمائه وصفاته, ويعبد وحده لا يشرك به, وأن يقوم الناس بالقسط, وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض, كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل ومن أعظم القسط التوحيد, بل هو رأس العدل وقوامه. وأن الشرك لظلم عظيم, والتوحيد أعدل العدل, فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر, وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له, وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات وأفرض الطاعات.
فتأمل هذا الأصل حق التأمل واعتبر به تفاصيله تعرف به حكمة أحكم الحاكمين, وأعلم العالمين, فيما فرضه على عباده, وحرمه عليهم, وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي.
فلما كان الشرك بالله منافيا بالذات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق, وحرم الله الجنة على كل مشرك, وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد وأن يتخذوهم عبيدا لهم, لما تركوا القيام بعبوديته, وأبى الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا, أو يقبل فيه شفاعة, أو يستجيب له في الآخرة دعوة, أو يقبل فيها عثرة, فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله, حيث جعل له من خلقه ندا, وذلك غاية الجهل به, كما أنه غاية الظلم منه, وإن كان المشرك لم يظلم ربه, وإنما ظلم نفسه.



ص -152- فصل:
ووقعت مسألة, وهي: أن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى أو أنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلاّ بالوسائط والشفعاء, كحال الملوك, فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية, وإنما قصد تعظيمه, وقال: إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه وتدخلني عليه, فهو المقصود, وهذه وسائل وشفعاء, فلم كان هذا القدر موجبا لسخطه وغضبه تبارك وتعالى, ومخلدا في النار, وموجبا لسفك دماء أصحابه, واستباحة حريمهم وأموالهم؟.
وترتب على هذا سؤال آخر, وهو: أنه هل يجوز أن يشرع الله سبحانه لعباده التقرب إليه بالشفعاء والوسائط, فيكون تحريم هذا إنما استفيد من الشرع, أم ذلك قبيح في الفطر والعقول يمتنع أن تأتي به شريعة؟ بل جاءت الشرائع بتقرير ما في الفطر والعقول من قبحه الذي هو أقبح من كل قبيح؟ وما السبب في كونه لا يغفره من دون سائر الذنوب؟ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
فتأمل هذا السؤال, واجمع قلبك جوابه ولا تستهونه, فإن به يحصل الفرق بين المشركين والموحدين, والعالمين بالله والجاهلين به, وأهل الجنة وأهل النار.
فتقول وبالله التوفيق والتأييد, ومنه نسأل المعونة والتسديد, فإنه من يهده الله فلا مضلل له, ومن يضلل فلا هادي له, ولا مانع لما أعطى, ولا معطى لما منع.
الشرك شركان: شرك بتعلق بذات المعبود, وأسمائه, وصفاته, وأفعاله, وشرك في عبادته ومعاملته, وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته, ولا في صفاته, ولا في أفعاله.



ص -153- والشرك الأول نوعان: أحدهما شرك التعطيل, وهو أقبح أنواع الشرك, كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال تعالى: مخبراً عنه أنه قال: لهامان {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} والشرك والتعطيل متلازمان, فكل معطل مشرك, لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل, بل قد يكون المشرك مقرا بالخالق سبحانه وصفاته, ولكن عطل حق التوحيد, وأصل الشرك وقاعدته التي ترجع إليها: هو التعطيل, وهو ثلاثة أقسام: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه, وتعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله, وتعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد, ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق, ولا هاهنا شيئان, بل الحق المنزه وهو عين الخلق المشبه, ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته, وأنه لم يكن معدوما أصلا, بل لم يزل ولا يزال, والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضيت إيجادها, ليسمونها العقول والنفوس, ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة, فلم يثبتوا اسما ولا صفة, بل جعلوا المخلوق أكمل منه, إذا كمال الذات بأسمائها وصفاتها.
فصل:
النوع الثاني شرك من جعل مع الله إلها آخر ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته كشرك النصارى الذي جعلوه ثلاثة, فجعلوا المسيح إلها, وأمه إلها.
ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلي النور, وحوادث الشر إلى الظلمة.



ص -154- ومن هذا شرك القدرية القائلين بان الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه, وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته, ولهذا كانوا من أشباه المجوس.
ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه {إِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فهذا جعل نفسه ندا لله, يحيي ويميت بزعمه, كما يحيي الله ويميت, فالزمه إبراهيم عليه السلام أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها, وليس هذا انتقالا كما زعم بعض أهل الجدل, بل إلزاما على طرد الدليل إن كان حقا.
ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات, ويجعلها أربابا مدبرة لأمر هذا العالم كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.
ومن هذا شرك عباد الشمس وعباد النار وغيرهم.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:53 AM   #24
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة, ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة, ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة, وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه أقبل عليه واعتني به, ومنهم من يزعم أنه معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه, و الفوقاني يقربه إلى من هو فوقه, حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى, فتارة تكثر (الآلهة) الوسائط وتارة تقل.
فصل:
وأما الشرك في العبادة: فهو أسهل من هذا الشرك, وأخف أمرا, فانه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلاّ الله, وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطى ولا يمنع إلاّ الله, وأنه لا إله غيره ولا رب سواه, ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته, بل يعمل لحظ نفسه تارة, وطلب الدنيا تارة, ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة, فلله من عمله وسعيه نصيب, ولنفسه وحظه وهواه نصيب,





ص -155- وللشيطان نصيب, وللخلق نصيب, هذا حال أكثر الناس, وهو الشرك الذي قال: فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن حبان في صحيحه"الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل, قالوا: وكيف ننجوا منه يا رسول الله؟ قال: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم, وأستغفرك لما لا أعلم"فالرياء كله شرك, قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} أي كما أنه إله واحد, لا إله سواه, فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده, فكما تفرد بالإلهية يحب أن يفرد بالعبودية, فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة, وكان من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"اللهم اجعل عملي كله صالحا, واجعله لوجهك خالصا, ولا تجعل لا حد فيه شيئا".
وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل, وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا, فإنه ينزله منزلة من لم يعلمه, فيعاقب على ترك الأمر, فان الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة, قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به, بل الذي أتي به شيء غير المأمور به, فلا يصح, ويقبل منه, ويقول الله تعالى"أنا أغني الشركاء عن الشرك, فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري, فهو للذى أشرك به, وأنا منه برئ".
وهذا الشرك ينقسم إلي مغفور وغير مغفور, وأكبر وأصغر, والنوع الأول: ينقسم إلى كبير وأكبر, وليس شيء منه مغفور, فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب مخلوقا كما يحب الله, فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله





ص -156- وهو الشرك الذي قال: سبحانه فيه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الآية.
وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق, والرزق, والإماتة, والإحياء, والملك, والقدرة, وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل, وهذا غاية الجهل والظلم, فكيف يسوي من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوي العبيد بما لك الرقاب؟ وكيف يسوي الفقير بالذات, الضعيف بالذات, العاجز بالذات, المحتاج بالذات, الذي ليس له من ذاته إلاّ العدم, بالغنى بالذات, القادر بالذات, الذي غناه, وقدرته, وملكه, وجوده, وإحسانه, وعلمه, ورحمته, وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟.
فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأي حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه, كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فعدل المشرك من خلق السموات والأرض, وجعل الظلمات والنور, بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض, فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه.
فصل:
ويتبع هذا الشرك به سبحانه في الأقوال, والأفعال, والإرادات, والنيات, فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره, والطواف بغير بيته, وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره, وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض, أو تقبيل القبور, واستلامها, والسجود لها, وقد لعن النبي





ص -157- صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى لله فيها, فكيف بمن أتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله؟.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وفي الصحيح عنه:"إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء, والذين يتخذون القبور مساجد".
وفي الصحيح أيضا عنه:"أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد, ألا فلا تتخذوا القبور مساجد, فإني أنهاكم عن ذلك".
وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه, وصحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم قال:"لعن الله زوارات القبور, والمتخذين عليها المساجد والسرج".
وقال:"اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وقال:"أن من كان قبلكم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا, وصوروا فيه تلك الصورة, أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر, فكيف حال من سجد للقبر بنفسه؟ وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"وقد حمى النبي صلى الله عليه وسلم جانب التوحيد أعظم حماية, حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها, لئلا يكون ذريعة إلى التشبه بعباد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين, وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس.
وأما السجود لغير الله فقال:"لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلاّ لله"و"لا ينبغي"في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للذي هو في غاية الامتناع شرعا,





ص -158- كقوله تعالى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} وقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وقوله {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} وقوله عن الملائكة {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ}
فصل:
ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ, كالحلف بغيره, كما رواه أحمد وأبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حلف بغير الله فقد أشرك"وصححه الحاكم وابن حبان.
ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت, كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: له رجل:"ما شاء الله وشئت, قال: أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده"وهذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة كقوله {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك, وأنا في حسب الله وحسبك, وما لي إلاّ الله وأنت, وهذا من الله ومنك, وهذا من بركات الله وبركاتك, والله لي في السماء وأنت لي في الأرض, أو يقول: والله وحياة فلان, أو يقول: نذرا لله ولفلان, وأنا تائب لله ولفلان, أو أرجوا الله وفلانا, ونحو ذلك؟.
فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت, ثم انظر أيهما أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبي صلى الله عليه وسلم لقائل تلك الكلمة, وأنه إذا كان قد جعل لله ندا فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء- بل لعله أن يكون من أعدائه- ندا لرب العالمين, فالسجود والعبادة, والتوكل, والإنابة, والتقوى, والخشية, والحسب, والتوبة, والنذر, والحلف, والتسبيح, والتكبير, والتهليل, والتحميد,





ص -159- والاستغفار, وحلق الرأس خضوعا وتعبدا, والطواف بالبيت, والدعاء, كل ذلك محض حق الله لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وفي مسند الإمام أحمد"أن رجلا أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب ذنبا, فلما وقف بين يديه قال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد, فقال: قد عرف الحق لأهله".
فصل:
وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له, وقل من ينجو منه فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئا غير التقرب إليه, وطلب الجزاء منه, فقد أشرك في نيته وإرادته. والإخلاص: أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونيته. وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم, من أحد غيرها وهي حقيقة الإسلام كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهي ملة إبراهيم عليه السلام التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.
فصل:
إذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك الجواب عن السؤال المذكور, فنقول, ومن الله وحده نستمد الصواب.
حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به, هذا هو التشبيه في الحقيقة, لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله الله صلى الله عليه وسلم, فعكس من نكس الله قلبه, وأعمى عين بصيرته, وأركسه بكسبه, الأمر وجعل التوحيد تشبيها, والتشبيه تعظيما وطاعة, فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء



ص -160- والمنع وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده, فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق, وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا- فضلا من غيره- تشبيها لمن له الأمر كله, فأزمة الأمور كلها بيديه, ومرجعها إليه, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, لا مانع لما أعطى, ولا معطى لما منع, بل إذ فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد, وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد.
فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات, بالقادر الغني بالذات.
ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه, الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده, والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة, وغاية الذل مع غاية الحب, كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده, ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره, فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له, وذلك أقبح التشبيه وأبطله. ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره, مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب, مع غاية الذل, هذا تمام العبودية, وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين, فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه. وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع, وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل, ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم, وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها, ومضى على الفطرة الأولى من





 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:54 AM   #25
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue



ص -161- سبقت له من الله الحسنى, فأرسل إليهم رسله, وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم فازدادوا بذلك نورا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ},
إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود, فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.
ومنها: التوكل, فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها: التوبة, فمن تاب لغيره فقد شبهه به.
ومنها: الحلف باسمه تعظيما وإجلاله, فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه.
وأما في جانب التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء, وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته, وهو حقيقة بأن ويذله غاية الهوان, ويذله غاية الذل, ويجعله تحت أقدام خلقه.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله عز وجل: العظمة إزاري, والكبرياء ردائي, فمن نازعني واحدا منهما عذبته"وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة لتشبه بالله في مجرد الصنعة, فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والالهية؟ كما قال: النبي صلى الله عليه وسلم:"أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون, يقال لهم أحيوا ما خلقتم".
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي, فليخلقوا ذرة, فليخلقوا شعيرة"فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر.
والمقصود: أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة, فكيف حال من تشبه



ص -162- به في خواص ربوبيته وإلهيته؟ وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلاّ لله وحده, كملك الأملاك, وحاكم الحكام, ونحوه.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أن أخضع الأسماء عند الله رجل يسمى: بشاهان شاه- ملك الملوك- لا ملك إلاّ الله"وفي لفظ"أغيظ الله رجل يسمى بملك الأملاك".
فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلاّ له, فهو سبحانه ملك الملوك وحده وهو حاكم الحكام وحده, فهو الذي يحكم الحكام كلهم, ويقضي عليهم كلهم, لا غيره.
فصل:
إذا تبين هذا فهاهنا أصل عظيم يكشف سر المسألة, وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به, فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس, فظن به ما يناقض أسماؤه وصفاته, ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم, كما قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} وقال تعالى: لمن أنكر صفة من صفاته {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. وقال تعالى: عن خليله إبراهيم إنه قال: لقومه {مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فما ظنكم أي يجازيكم به إذا لقيتموة وقد عبدتم غيره وماذا ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟ وماظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم, وهو على كل شيء قدير, وأنه غني عن كل ما سواه, وكل ما سواه فقير إليه,





ص -163- وأنه قائم بالقسط على خلقه, وأنه المتفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره, والعالم بتفاصيل الأمور, فلا يخفي عليه خافية من خلقه, والكافي لهم وحده, فلا يحتاج إلى معين, والرحمن بذاته, فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه, وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء, فأنهم يحتاج إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم, إلى من قضاء حوائجهم, وإلى من يسترحمهم وإلى من يستعطفهم بالشفاعة, فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور علمهم, فأما القادر على كل شيء الغني عن كل شىء, الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء, فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده وظن به ظن سوء, وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده, ويمتنع في العقول والفطر وقبحه مستقر في السليمة فوق كل قبيح.
يوضع هذا: أن العابد معظم لمعبوده, متأله له, خاضع ذليل له, ورب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والجلال والتأله والتذلل والخضوع, وهذا خالص حقه, فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره, أو يشرك بينه وبينه فيه, ولا سيما الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه, كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الآية أي إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريك له في رزقه, فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا به متفرد به وهو الإلهية, التي لا تنبغي لغيري, ولا تصح لسواي؟
فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري, ولا عظمني حق عظمتي, ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي فما قدر الله بحق قدره من عبد معه غيري,





ص -164- كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره من لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره, وإن سلبهم الذباب شيئا مما عليه لم يقدر على الاستعاذة منه, قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآية فما قدر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة, بل هو أعجز شيء وأضعفه, فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل.
وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه لم يرسل إلى خلقه رسولا, ولا أنزل كتابا, بل نسبه إلى مال يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتضييعهم وتركهم سدي, وخلقهم باطلا عبثا, وكذا ما قدره حق قدره من نفي حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العلى, فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره وعلوه فوق خلقه, وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد, ونفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم, فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه, وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاءون بدون مشيئة الرب, فيكون في ملكه مالا يشاء, ويشاء مالا يكون, فتعالى الله عن قوله أشباه المجوس علوا كبيرا.
وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على مالا يفعله عبد, ولا له عليه قدرة, ولا تأثير له فيه البتة, بل هو نفس فعل الرب جل جلاله, فيعاقب عبده على فعله هو سبحانه الذي جبر العبد عليه, وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق, وإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن





ص -165- السيد لو أكره عبده على فعل أو ألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحا فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير. ولا هو واقع بإرادته, ولا هو فعله البتة, ثم يعاقب عليه عقوبة الأبد؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقول هؤلاء شر من أقول المجوس, والطائفتان ما قدر الله حق قدره.
وكذلك ما قدره حق قدره من لم يصنه عن نتن ولا حش ولا مكان يرغب عن ذكره, بل جعله في كل مكان, وصانه عن عرشه أن يكون مستويا عليه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وتعرج الملائكة والروح إليه, وتنزل من عنده {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} فصانه عن استوائه على سرير الملك, ثم جعله في كل مكان يأنف الإنسان, بل غيره من الحيوان, أن يكون فيه, وما قد الله حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته, ولا من نفي حقيقة حكمته التي هي الغابات المحمودة المقصودة بفعله, ولا من نفى حقيقة فعله, ولم يجعل له فعلا اختياريا يقوم به, بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه, فنفي حقيقة مجيئه وإتيانه واستوائه على عرشه, وتكليمه موسى من جانب الطور, ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه, إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها, وزعموا أنهم ينفيها قد قدروه حق قدره.
وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولدا, وجعله سبحانه يحل في جميع مخلوقاته, أو جعله عين هذا الوجود.
وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: إنه رفع أعلمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأعلى ذكرهم, وجعل الله فيهم الملك والخلافة والعز, ووضع أولياء





ص -166- رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذل أين ما ثقفوا. وهذا يتضمن غاية القدح في جناب الرب, تعالى عن قول الرافضة علوا كبيرا.
وهذا القول مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين: إنه أرسل ملكا ظالما, فادعى النبوة لنفسه, وكذب على الله, ومكث زمانا طويلا يكذب عليه كل وقت, ويقول: قال: الله كذا, وأمر بكذا, ونهى عن كذا, وينسخ شرائع أنبيائه ورسله, ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم, ويقول: الله أباح لي ذلك, والرب تعالى يظهره ويؤيده ويعليه, ويعزه ويجيب دعواته, ويمكنه ممن يخالفه, ويقيم الأدلة على صدقه, ولا يعاديه أحد إلا ظفر به, فيصدقه بقوله وفعله وتقريره, وتحدث أدلة تصديقه شيئا بعد شيء.
ومعلوم أن هذا يتضمن أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى وعلمه, وحكمته وحمته وربوبيته, تعالى الله عن قول الجاحدين علوا كبيرا.
فوازن بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرافضة تجد القولين, كما قال: الشاعر:
رضيعى لبان ثدى أم تقاسما
بأسحم داج عوض لا يتفرق
وكذلك لم يقدره حق قدره من قال: أنه يجوز أن يعذب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين ويدخلهم دار الجحيم, وينعم أعدءه ومن لم يؤمنبه طرفه عين ويدخلهم دار النعيم, وأن كل الأمرين بالنسبة إليه سواء, وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك, فمعناه للخبر لا للمخالفة حكمته وعدله, وقد أنكر سبحانه في كتابه على من جوز عليه ذلك غاية الإنكار, وجعل الحكم به من أسوء الأحكام.قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا





ص -167- وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وقال{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وقال {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيى الموتى, ولا يبعث من في القبور, ولا يجمع خلقه ليوم يجازى المحسن فيه بإحسانه والمسيء فيه بإساءته, ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه, ويكرم للمتحملين للمشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته, ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه, ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه, ونهيه فارتكبه, وحقه فضيعه, وذكره فأهمله, وغفل قلبه عنه, وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعته, فلله الفضلة من قلبه, وقوله وعلمه, هواه المقدم في ذلك لأنه المهم عنده, يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه وهو في قبضته, وناصيته بيده,


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:55 AM   #26
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ويعظم نظر المخلوق إليه وإطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه, ويستحيى من الناس ولا يستحيى من الله, ويخشى الناس ولا يخشى الله, ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه, وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره, وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة, وقد افرغ له قلبه وجوارحه, وقدمه على كثير من مصالحه, حتى إذا قام في حق ربه -إن ساعد القدر- قام قياما لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله, وبذل له ما يستحي أن يواجه به مخلوق لمثله, فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟





ص -168- وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل له من أقرب الخلق إليه شريكا في ذلك لكان ذلك جراءة وتوثبا على محض حقه, واستهانة به وتشريكا بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلاّ له سبحانه فكيف وإنما أشرك معه أبغض الخلق إليه, وأهونهم عليه, وأمقتهم عنده, وهو عدوه على الحقيقة؟ فإنه ما عبد من دون الله إلاّ الشيطان, كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم للشيطان, وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة, كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} فالشيطان يدعو المشركين إلى عبادته, ويوهمهم أنه ملك, كذلك عباد الشمس والقمر والكواكب يزعمون إنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب. وهي التى تخاطبهم, وتقضي لهم الحوائج, ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان فيسجد لها الكفار, فيقع سجودهم له, وكذلك عند غروبها, وكذلك من عبد المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان, فإنه يزعم أنه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أمه, ورضيها لهم وأمرهم بها, وهذا هو الشيطان الرجيم, لا عبد الله ورسوله, فنزل هذا كله على قوله تعالى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} فما عبد أحد من بني آدم غير الله كائنا من كان إلاّ وقعت عبادته للشيطان فيستمتع العابد





ص -169- بالمعبود في حصول غرضه, ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ} أي من إغوائهم وإضلالهم وقال أوليائهم من الإنس {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله, وأنه لا يغفره بغير التوبة منه, وإنه يوجب الخلود في العذاب, وأنه ليس تحريمه وقبحه لمجرد النهى عنه, بل يستحيل على الله سبحانه أن يشرع لعباده إلها غيره, كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كمال ونعوت جلاله, وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك, أو يرضي به؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فصل:
فلما كان الشرك أكبر شيء منافاة للأمر الذي خلق الله له الخلق, أمر لأجله بالأمر, الذي كان من أكبر الكبائر عند الله, وكذلك الكبر وتوابعه كما تقدم, فإن الله سبحانه خلق الخلق, وأنزل الكتاب, لتكون الطاعة له وحده, والشرك والكبر ينافيان ذلك, وكذلك حرم الله الجنة على أهل الشرك والكبر ولا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
فصل:
ويلي ذلك في كبر المفسدة: القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله. ووصفه بضد ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا أشد شيء منافاة ومناقضة لكمال من له الخلق والأمر, وقدح في نفس الربوبية وخصائص الرب, فإن صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك وأعظم إثماً





ص -170- عند الله فإن المشرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله! كما أن أقر للملك بالملك, ولم يجحد ملكه ولا الصفات التي استحق بها الملك, لكن جعل معه شريكا في بعض الأمور تقربا إليه, خير ممن جحد صفات الملك, وما يكون به ملكا, هذا أمر مستقر في سائر الفطر والعقول.
فأين القدح في صفات الكمال والجحد لها من عبادة واسطة بين المعبود الحق وبين العابد يتقرب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظاما له وإجلالا؟.
فداء التعطيل هذا الداء العضال الذي لا دواء له. ولهذا حكى الله عن إمام المعطلة فرعون أنه أنكر على موسى ما أخبر به من أن ربه فوق السموات, فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}. واحتج الشيخ وأبو الحسن الأشعري في كتبه على المعطلة بهذه الآية. وقد ذكرنا لفظه في غير هذا الكتاب, والقول على الله بلا علم والشرك متلازمان. ولما كانت البدع المضلة جهلا بصفات الله وتكذيبا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم عنادا وجهلا كانت من أكبر الكبائر, أن قصرت عن الكفر, وكانت أحب إلى إبليس من كبار الذنوب, كما قال: بعض السلف"البدعة أحب إلي إبليس من المعصية"لان المعصية يتاب منها والبدعة لايتاب منها وقال إبليس لعنه الله"أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلاّ الله, فلما رأيت ذلك ثبتت فيهم الأهواء, فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".
ومعلوم أن المذنب إنما ضرره على نفسه وأما المبتدع فضرره على النوع, وفتنة المبتدع في أصل الدين, وفتنة المذنب في الشهوة, والمبتدع قد قعد للناس





ص -171- على صراط الله المستقيم يصدهم عنه, والمذنب ليس كذلك. والمبتدع قادح في أوصاف الرب وكماله, والمذنب ليس كذلك, والمبتدع يقطع على الناس طريق الآخرة, والعاصي بطيء السير بسبب ذنوبه.
فصل:
ثم لما كان الظلم والعدوان منافيان للعدل الذي قامت به السموات والأرض, وأرسل الله سبحانه رسله صلى الله عليه وسلم وأنزل كتبه ليقوم الناس به كان من أكبر الكبائر عند الله, وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه, وكان قتل الإنسان ولده الطفل الصغير الذي لا ذنب له -وقد جبل الله سبحانه القلوب على محبته ورحمته وعطفها عليهم, وخص الوالدين من ذلك بمزية ظاهرة وقتله خشية أن يشاركه في مطعمه ومشربه وماله- من أقبح الظلم وأشده وكذلك قتله أبويه الذين كانا سبب وجوده, وكذلك قتله ذا رحمه, وتتفاوت درجات القتل بحسب قبحه وإستحقاق من قتله السعي في إبقائه ونصيحته, ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة نبيا من قتل النبي أو قتله نبي ويليه من قتل إماما أو عالما يأمر الناس بالقسط, ويدعوهم إلى الله سبحانه, وينصحهم في دينهم, وقد جعل الله سبحانه جزاء قتل النفس المؤمنة عمدا الخلود في النار, وغضب الجبار, ولعنته وإعداد العذاب العظيم له, هذا موجب من قتل المؤمن عمدا ما لم يمنع منه مانع. ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل طوعا واختيارا مانع من نفوذ ذلك الجزاء وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف, وهما روايتان عن أحمد.
والذين قالوا لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدمي لم يستوفه في دار الدنيا, وخرج منه بظلامته, فلا بد أن يستوفى له في دار العدل.
قالوا: وما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله بين





ص -172- استيفائه والعفو عنه, وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه؟.
وهذا أصح القولين في المسألة أن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث, وهما وجهان لأصحاب أحمد و الشافعي وغيرهما.
ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث, فإن التوبة تهدم ما قبلها, والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده.
قالوا: وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر, وهما أعظم إثماً من القتل, فكيف تقصر عن محو أثر القتلة؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءه, وجعلهم من خيار عباده, ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة. وقال تعالي {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فهذه في حق التائب وهي تتناول الكفر فما دونه.
قالوا: وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه.
قالوا: وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه ولا يمكن تسليمها إلى المقتول فأقام الشارع وليه مقامه, وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول, بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه, فانه يقوم مقام تسليمه للموروث.
والتحقيق في المسألة: أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله وحق للمظلوم المقتول, وحق للولى, فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ما فعل, وخوفا من الله وتوبة نصوحا, يسقط حق الله بالتوبة, وحق الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو. وبقى حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن, ويصلح بينه وبينه, فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا.



ص -173- وأما مسألة المال فقد اختلف فيها, فقالت طائفة: إذا أدي ما عليه من المال إلى الوارث فقد بريء من عهدته في الآخرة, كما بريء منها في الدنيا.
وقالت طائفة بل المطالبة لمن ظلمه بأخذه باقية عليه يوم القيامة, وهو لم يستدرك ظلامته بأخذ وارثه له, فأنه منعه من انتفاعه به في طول حياته, ومات ولم ينتفع به. فهذا ظلم لم يستدركه, وإنما ينتفع به غيره باستدراكه, وبنوا على هذا أنه لو انتقل من واحد إلي واحد وتعدد الورثة. كانت المطالبة به للجميع, لأنه حق كان يجب عليه دفعه إلى كل واحد منهم عند كونه هو الوارث وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد.
وفصل شيخنا رحمه الله بين الطائفتين, فقال: أن تمكن الموروث من أخذ ماله أو المطالبة به فلم يأخذه حتى مات, صارت المطالبة به للوارث في الآخرة, كما هي له كذلك في الدنيا, وإن لم يتمكن من طلبه وأخذه, بل حال بينه وبينه ظلما وعدوانا, فالطلب له في الآخرة.
وهذا التفصيل من أحسن ما يقال, فإن المال إذا استهلكه الظالم على الموروث وتعذر عليه أخذه منه صار بمنزلة عبده الذي قتله قاتل, وداره التي أحرقها غيره, وطعامه وشرابه الذي أكله وشربه غيره, ومثل هذا إنما تلف على الموروث لا على الوارث, فحق المطالبة لمن تلف على ملكه, فيبقى أن يقال فإذا كان المال عقارا أو أرضا أو أعيانا قائمة باقية بعد الموت, فهي ملك للوارث يجب على الغاصب دفعها إليه كل وقت, وإذا لم تدفع إليه استحق المطالبة بها عند الله تعالى كما يستحق المطالبة بها في الدنيا.
وهذا سؤال قوى لا مخلص منه إلاّ بان يقال: المطالبة لهما جمعيا, كما لو غصب مالا مشتركا بين جماعة استحق كل منهم المطالبة بحقه منه, وكما لو استولى على وقف مرتب على بطون فأبطل حق البطون كلهم منه كانت المطالبة يوم القيامة لجميعهم ولم يكن بعضهم أولى بها من بعض, والله أعلم.



ص -174- فصل:


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:56 AM   #27
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة, قال: الله تعالي {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}.
وقد أشكل فهم هذا على كثير من الناس, وقالوا: معلوم أن إثم قاتل مائة أعظم عند الله من إثم قاتل نفس واحدة, وإنما أتوا من ظنهم أن التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة, واللفظ يدل على هذا, ولا يوم من تشبيه الشيء بالشيء بجميع أحكامه وقد قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وذلك لا يوجب أن لبثهم في الدنيا إنما كان هذا المقدار. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم"من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل, ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله"أي مع العشاء كما جاء في لفظ آخر. وأصرح من هذا قوله"من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر". وقوله صلى الله عليه وسلم"من قرأ: قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن ومعلوم"أن ثواب فاعل هذه الأشياء لم يبلغ ثواب المشبه به, فيكون قدرها سواء, ولو كان قدر الثواب سواء لم يكن لمصلى الفجر والعشاء في جماعة في قيام الليل منفعة غير التعب والنصب وما أوتي أحد -بعد الإيمان- أفضل من الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإن قيل: ففي أي شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة وبين قاتل الناس جميعا؟ قيل, في وجوه متعددة:
أحدها: أن كل واحد منهما عاص لله ورسوله صلى الله عليه وسلم مخالف لأمره,





ص -175- متعرض لعقوبته وكل منهما قد باء بغضب من الله ولعنته, واستحقاق الخلود في نار جهنم, وأعدلهم عذابا عظيما, وإن تفاوتت دركات العذاب, فليس إثم من قتل نبيا أو إماما عادلا أو عالما يأمر الناس بالقسط كإثم من قتل من لا مزية له من آحاد الناس.
الثاني: أنهما سواء في استحقاق إزهاق النفس.
الثالث: أنهما سواء في الجراءة على سفك الدم الحرام, فإن من قتل نفسا بغير استحقاق بل لمجرد الفساد في الأرض أو لأخذ ماله, فأنه يجترئ على من قتل كل من ظفر به وأمكنه قتله, فهو معاد للنوع الإنساني.
ومنها: أنه يسمي قاتلا أو فاسقا أو ظالما أو عاصيا بقتله واحدا, كما يسمي كذلك بقتله الناس جميعا.
ومنها: أن الله سبحانه جعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتواصلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر. فإذا أتلف القاتل عضوا من ذلك الجسد فكأنما أتلف سائر الجسد, وآلم جميع أعضائه, فمن آذي مؤمنا واحدا فقد آذى جميع المؤمنين, وفي أذي جميع المؤمنين أذى جميع الناس, فإن الله يدافع عن الناس بالمؤمنين الذين بينهم, فإيذاء الخفير إيذاء المخفور. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم"لا تقتل النفس ظلما بغير حق إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل منها"لأنه أول من سن القتل, ولم يجيء هذا الوعيد في أول زان ولا أول سارق ولا أول شارب مسكر. وإن كان أول المشركين قد يكون أولى بذلك من أول قاتل, لأنه أول من سن الشرك, ولهذا رأي النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن لحى الخزاعي يعذب أعظم العذاب في النار, لأنه أول من غير دين إبراهيم عليه السلام. وقد قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا





ص -176- أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي فيفتدي بكم من بعدكم فيكون إثم كفره عليكم, وكذلك حكم من سن سنة سيئة فاتبع عليها.
وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة, ناصيته ورأسه بيده, وأوداجه تشخب دما, يقول: يا رب, سل هذا: فيما قتلني؟ فذكروا لابن عباس التوبة, فتلا هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} ثم قال:"ما نسخت هذه الآية ولا بدلت وأني له التوبة؟"قال: الترمذي هذا حديث حسن.
وفيها أيضاً: عن نافع قال"نظر عبد الله بن عمر يماً إلى الكعبة, قال: ما أعظمك وأعظم حرمتك, والمؤمن عند الله أعظم حرمة منك". قال: هذا حديث حسن.
وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال:"أول ما ينتن من الإنسان بطنه, فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلاّ طيبا فليفعل, ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملأ كف من دم أهراقه فليفعل".
وفي صحيح البخاري أيضا عن ابن عمر قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما".
وذكر البخاري أيضا عن ابن عمر قال:"من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".



ص -177- وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم"معاهدا لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها يوجد مسيرة أربعين عاما".
هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان معاهدا في عهده وأمانه فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعطشا فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم وفي بعض السنن عنه صلى الله عليه وسلم لزوال الدنيا عند الله خير من قتل مؤمن بغير حق
فصل:
ولما كانت مفسدة الزنى من أعظم المفاسد وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب وحمايه الفروج وصيانة الحرمات وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وبنته وأخته وأمه وفي ذلك خراب العالم كانت تلى مفسدة القتل في الكبر ولهذا قرنها الله سبحانه بها في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في سننه كما تقدم.
قال: الإمام أحمد: ولا أعلم النفس شيئا أعظم من الزنا وقد أكد سبحانه حرمته بقوله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاّ مَنْ تَابَ} الآية. فقرن الزنى بالشرك وقتل النفس وجعل جزاء ذلك الخلود في النار في العذاب المضاعف المهين ما لم يرفع العبد وجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح وقد قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}. فأخبر عن فحشه في نفسه وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول. حتى عند كثير من الحيوان كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون





ص -178- الأودي قال:"رأيت في الجاهلية قردا زنا بقردة فأجتمع القرود عليهما فرجموهما حتى ماتا". ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلا فأنه سبيل هلكة وبوار وافتقار في الدنيا وسبيل عذاب في الآخرة وخزي ونكال ولما كان نكاح أزواج الآباء من أقبحه خصه بمزيد ذم فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} وعلق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه منه فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه منه فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} إلى قوله {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.
وهذا يتضمن ثلاثة أمور: أن من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين وأنه من الملومين ومن العادين ففاته الفلاح واستحق إسم العدوان ووقع في اللوم فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها أيسر من بعض ذلك.
ونظير هذا: أنه ذم الإنسان وأنه خلق هلوعا لا يصبر على سرّاء ولا ضرّاء بل إذا مسه الخير منع وبخل وإذا مسه الشر جزع إلاّ من استثناه بعد ذلك من الناجين من خلقه فذكر منهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وأمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج فإن الحوادث مبدؤها من البصر كما أن معظم النار من مستصغر الشرر





ص -179- تكون نظرة ثم تكون خطرة ثم خطوة ثم خطيئة؟ ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات والخطرات واللفظات والخطوات. فينبغى للعبد أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة ويلازم الرباط على ثغرها فمنها يدخل عليه العدو فيجوس خلال الديار ويتبر ما علوا تتبيرا.
فصل:
وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة فنذكر في كل واحد منها فصلا يليق به.
فأما اللحظات: فهي رائد الشهوة ورسولها وحفظها أصل حفظ الفرج فمن أطلق نظره أورده موارد الهلاك. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى".
وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم:"النظرة سهم مسموم من سهام إبليس, فمن غض بصره عن محاسن امرأة لله أورث الله في قلبه حلاوة إلى يوم القيامة". هذا معنى الحديث. وقال:"غضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم". وقال:"إياكم والجلوس على الطرقات. قالوا يا رسول الله مجالسنا مالنا بد منها. قال:"فإن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقه. قالوا وما حقه؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام".
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل:"الصبر على غض البصر أيسر من ألم ما بعده"ولهذا قال الشاعر:

كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر



ص -180- والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين العين موقوف على الخطر

بسرور مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

ومن آفات النظر: أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات فيرى العبد ما ليس قادرا عليه ولا صابرا عنه وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عنه ولا عن بعضه ولا قدرة لك عليه قال الشاعر:

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وهذا البيت يحتاج إلي شرح. ومراده: أنك تري ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه فإن قوله:"لا كله أنت قادر عليه"نفى لقدرته على الكل الذي لا ينتفي إلاّ بنفي القدرة عن كل واحد واحد.


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 02:58 AM   #28
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


وكم من أرسل لحظاته فمن أقلعت إلاّ وهو يتشحط بينهن قتيلا كما قيل:

يا ناظرا ما أقلعت لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلا

ولي من أبيات:

مل السلامة فاغتدت لحظاته وقفا على طلل يظن جميلا

ما زال يتبع أثره لحظاته حتي تشحط بينهن قتيلا

ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتي يتبوء مكانا من قلب الناظر ولي من قصيدة:

ياراميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب

يا باعت الطرف يرتاد الشفاء له أحبس رسولك لا يأتيك بالعطب

وأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحا فيتبعها جرح على جرح ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعا تكرارها. ولي أيضا في هذا المعنى:

مازلت تتبع نظرة في نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح



ص -181- وتظن ذاك دواء جرحك وهو في ال تحقيق تجريح على التجريح

فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح

وقد قيل: أن جنس اللحظات أيسر من دوام الحسرات.
فصل:
وأما الخطرات: فشأنها أصعب فأنها مبدأ الخير والشر ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم فمن راعي خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب. ومن استهان بالخطرات قادته قهرا إلى الهلكات. ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} وأخس الناس همة وأوضعهم نفسا من رضي من الحقائق بالأماني الكاذبة واستجلبها لنفسه وتحلى بها وهي لعمر الله رؤوس من أموال المفلسين ومتاجر الباطلين وهي قوة النفس الفارغة التي قد قنعت من الوصل بزورة الخيال ومن الحقائق بكواذب الآمال كما قال الشاعر:

أماني من سعد رواء على الظما سقتنا بها سعد على ظماء برداوإلا

مني إن تكن حقا تكن أحسن المنى فقد عشنا بها زمنا رغدا

وهي أضر شيء على الإنسان وتتولد من العجز والكسل وتولد التفريط والإضاعة والحسرة والندامة. والمتمني لما فاته مباشرة الحقيقة بجسمه حول صورتها في قلبه وعانقها وضمها إليه فقنع بوصال صورة وهمية خالية صورها فكره وذلك لا يجدي عليه شيئا وإنما مثله مثل الجائع والظمآن يصور في وهمه صورة الطعام

ص -182- والشراب وهو لا يأكل ولا يشرب والسكون إلى ذلك واستجلابه يدل على خساسة النفس ووضاعتها. وإنما شرف النفس وزكاؤها وطهارتها وعلوها بأن ينفى عنها كل خطرة لا حقيقة لها ولا يرضى أن يخطرها بباله ويأنف لنفسه منها.
ثم الخطرات بعد أقسام تدور على أربعة أصول: خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه وخطرات يستدفع بها مضار دنياه وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته وخطرات يستدفع بها مضار آخرته.
فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة فإذا انحصرت له فيها فما أمكن اجتماعه منها لم يتركه لغيره وإذا تزاحمت عليه الخطرات كتزاحم متعلقاتها قدم الأهم فالاهم الذي يحشى فوته وأخرى الذي ليس بأهم ولا يخاف فوته.
بقي قسمان آخران أحدهما: مهم لا يفوت. والثاني: غير مهم ولكنه يفوت ففي كل منهما ما يدعو إلى تقديمه فهنا يقع التردد والحيرة فيه فإن قدم الأهم خشي فوات ما دونه وإن قدم ما دونه فاته الاشتغال به عن المهم وذلك بأن يعرض له أمران لا يمكن الجمع بينهما ولا يحصل أحدهما إلاّ بتفويت الآخر فهذا موضع استعمال العقل والفقه والمعرفة ومن هاهنا ارتفع من ارتفع وأنجح من أنجح وخاب من خاب فأكثر من ترى ممن يعظم عقله ومعرفته يؤثر غير المهم الذي لا يفوت على المهم الذي يفوت ولا تجد أحدا يسلم من ذلك ولكن مستقل ومستكثر.
والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي عليها مدار الشرع والقدر وإليها مرجع خلقت الخلق والأمر وهي إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما وإن فاتت المصلحة التي هي دونها والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها



ص -183- فيفوت مصلحة لتحصيل ما هو وأكبر منهما ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها.
فخطرات العاقل وفكره لا يجاوز ذلك وبذلك جاءت الشرائع ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلاّ على ذلك وأعلى الفكر وأجلها وأنفعها: ما كان لله والدار الآخرة فما كان لله فهو أنواع.
الأول: الفكرة في آياته المنزلة وتعقلها وفهمها وفهم مراده منها ولذلك أنزلها الله تعالى لا لمجرد تلاوتها بل التلاوة وسيلة. قال بعض السلف: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملا.
الثاني: الفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها والاستدلال بها على أسمائه وصفاته وحكمته وإحسانه وبره وجوده وقد حض الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبرها وتعقلها وذم الغافل عن ذلك.
الثالث: الفكرة في آلائه وإحسانه وإنعامه على خلقه بأصناف النعم وسعة مغفرته ورحمته وحلمه.
وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه ودوام الفكرة في ذلك مع الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة.
الرابع: الفكرة في عيوب النفس وآفاتها وفي عيوب العمل وهذه الفكرة عظيمة النفع وهي باب لكل خير وتأثيرها في كسر النفس الأمارة بالسوء ومتى كسرت عاشت النفس المطمئنة وانتعشت وصار الحكم لها فحي القلب ودارت كلمته في مملكته وبث أمراءه وجنوده في مصالحه.
الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه فالعارف ابن وقته فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها فجميع المصالح





ص -184- إنما تنشأ من الوقت فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبدا.
قال الشافعي رضي الله عنه:"صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين أحدهما قولهم: الوقت سيف فإن لم تقطعه قطعك. وذكر الكلمة الأخرى ونفسك إن أشغلتها بالحق وإلا شغلتك بالباطل"فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة وهو مادة حيا الأبدية في النعيم المقيم ومادة المعيشة الضنك في العذاب الأليم وهو يمر أسرع من مر السحاب فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره وغير ذلك ليس محسوبا من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم فإذا قطع وقته في الغفلة والشهوة والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه بالنوم والبطالة فموت هذا خيرا له من حياته وإذا كان العبد وهو في الصلاة ليس له (من صلاته) إلاّ ما عقل منها فليس له من عمره إلاّ ما كان فيه بالله وله وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر فأما وساوس شيطانية وإما أماني باطلة وخدع كاذبة بمنزلة خواطر المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين ولسان حال هؤلاء يقول عند انكشاف الحقائق:

أن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنت ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها أضغاث أحلام

وأعلم أن ورود الخاطر لا يضر وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته فالخاطر كالمار على السلام فإن لم تستدعه فإن تركته مر وانصرف عنك وإن استدعيته سحرك بحديثه وخدعه وغروره وهو أخف شيء على النفس الفارغة بالباطلة وأثقل شيء على القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة.
وقد ركب الله سبحانه في الإنسان نفسين نفسا أمارة ونفسا مطمئنة وهما متعاديتان فكلما خف على هذه ثقل على هذه وكل ما التذت به هذه



ص -185- تألمت به الأخرى فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله وإيثار رضاه على هواها وليس لها أنفع منه وكذا النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله وإجابة داعي الهوى. وليس عليها شيء أضر منه. والملك مع هذه عن يمنة القلب والشيطان مع تلك عن يسرة القلب والحروب مستمرة لا تضع أوزارها إلاّ أن يستوفى أجلها من الدنيا والباطل كله يتحيز مع الشيطان والأمارة والحق كله يتحيز مع الملك والمطمئنة والحرب دول وسجال والنصر مع الصبر ومن صبر وصابر ورابط واتقى الله فله العاقبة في الدنيا والآخرة وقد حكم الله تعالى حكما لا يبدل أبدا: أن العاقبة للتقوى. والعاقبة للمتقين. فالقلب لوح فارغ والخواطر نقوش تنقش فيه فكيف يليق بالعاقل أن تكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخدع وأماني باطلة وسراب لا حقيقة له؟ فأي ولا كمل وعلم وهدي ينتقش مع هذه النقوش؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في محل مشغول بكتابة مالا منفعة فيه فإن لم يفرغ القلب من الخواطر الردية لم تستقر فيه الخواطر النافعة فإنها لا تستقر إلاّ في محل فارغ كما قيل:

أتانى هواها قبل أن أعرف الهوي فصادف قلبا فارغا فتمكنا

وهذا كثير من أرباب السلوك بنوا سلوكهم على حفظ الخواطر وأن لا يمكنوا خاطر يدخل قلوبهم حتى تصير القلوب فارغة قابلة للكشف وظهور حقائق العلويات فيها وهؤلاء حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء فإنهم أخلوا القلوب من أن يطرقها خاطر فبقيت فارغة لا شيء فيها فصادفها الشيطان خالية فبذر فيها الباطل في قوالب أوهمهم أنها أعلى الأشياء وأشرفها وعوضهم بها عن الخواطر التي هي مادة العلم والهدي وإذا خلى القلب عن هذه الخواطر جاء الشيطان فوجد المحل خاليا فشغله بما يناسب حال صاحبه حيث لم يستطع



ص -186- أن يشغله بالخواطر السفلية فكيف بالعلوية فشغله بإرادة التجريد والفراغ من وإنهم التي لا صلاح للعبد ولا فلاح إلاّ بأن تكون هي قلبه وهي إرادة مراد الله الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه وشغل القلب واهتمامه بمعرفته على التفصيل به والقيام به وتنفيذه في الخلق والتطرق إلى ذلك والتوصل إليه بالدخول في الخلق لتنفيذه فيظلهم الشيطان عن ذلك بأن دعاهم إلى تركه وتعطليه من باب الزهد في خواطر الدنيا وأسبابها. وأوهمهم أن كمالهم في ذلك التجريد والفراغ. وهيهات هيهات إنما الكمال في امتلاء القلب من الخواطر والإرادات والفكر في تحصيل مراضي الرب تعالي من العبد ومن الناس والفكر في طرق ذلك التوصل إليه فأكمل الناس أكثرهم خواطر وفكر وإرادات لذلك كما أن أنقص الناس أكثرهم خواطر وفكرا وإرادات لحظوظه وهواه وأين كانت والله المستعان.
ولهذا فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت تتزاحم عليه الخواطر في مرضات الرب تعالى فربما استعملها في صلاته فكان يجهز جيشه وهو في صلاته فيكون قد جمع بين الصلاة والجهاد وهذا من باب تداخل العبادات في


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 03:00 AM   #29
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


العبادة الواحدة. وهو من باب عزيز شريف لا يدخل منه إلاّ صادق حاذق الطلب متضلع من العلم عالي الهمة بحيث تدخل في عبادة يظفر فيها بعبادات شتي وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
فصل:
وأما اللفظات: فحفظها بأن لا يخرج لفظه ضائعة بأن لا يتكلم إلاّ فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح أو فائدة أم لا؟ فان لم يكن فيها ربح أمسك عنها وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوته بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه وإذا أردت أن تستدل





ص -187- على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان فإنه يطلعك على ما في القلب شاء مصاحبه أم أبى.
قال: يحيى بن معاذ"القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها". فانظر الرجل حين يتكلم فرن لسانه يغترف لك به مما في قلبه حلو وحامض وعذب وأجاج وغير ذلك ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه أي كما تطعم بلسانك فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القدر بلسانك.
وفي حديث أنس المرفوع"لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال:"الفم والفرج". قال: الترمذي حديث حسن صحيح. وقد سأل معاذ النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره صلى الله عليه وسلم برأسه وعموده وذروة سنامه ثم قال:"ألا أخبركم بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله فأخذ بلسان نفسه ثم قال: كف عليك هذا فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوهم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"قال: الترمذي حديث حسن صحيح.
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى يري الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بال يزال بالكلمة الواحدة بين المشرق والمغرب وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم





ص -188- ولسانه يفري في أعراضه الأحياء والأموات ولا يبالى ما يقول.
وإذا أردت أن تعرف ذلك فأنظر إلى ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم"قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي إني لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك"فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله.
وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك ثم قال أبو هريرة:"تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته".
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم"إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوي بها في نار جهنم". وعند مسلم"أن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المغرب والمشرق".
وعند الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بلال بن الحارث المزني"إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه". فكان علقمة يقول":كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث"؟
وفي جامع الترمذي أيضا من حديث أنس قال:"توفى رجل من الصحابة فقال رجل: أبشر بالجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بمالا ينقصه"قال: حديث حسن.



ص -189- وفي لفظ"أن غلاما ما استشهد يوم أحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت هنيئا لك يا بني الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك؟ لعله كان يتكلم فيما لا الايعنيه ويمنع مالا يضره".
في الصحيحين من حديث أبى هريرة يرفعه"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
وفي لفظ لمسلم"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمرا فليتكلم بخير أو ليسكت".
وذكر الترمذي بإسناد صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حسن إسلام المرأ تركه ما لا يعنيه".
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال:"قل آمنت بالله ثم استقم"قال: قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال:"هذا"والحديث صحيح.
وعن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل كلام ابن آدم عليه لا له إلاّ أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر لله عز وجل"قال: الترمذي حديث حسن. وفي حديث آخر"إذا أصبح العبد فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: اتق الله فإنما نحن بك فإذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا".
وقد كان بعض السلف يحاسب أحدهم نفسه في قوله: يوم حار ويوم بارد ولقد روى بعض الأكابر من أهل العلم في النوم بعد موته فسئل عن حاله فقال: أنا موقوف على كلمة قلتها قلت ما أحوج الناس إلى غيث فقيل لي: وما يدريك؟





ص -190- أنا أعلم بمصلحة عبادي. وقال بعض الصحابة لخادمه يوما: هات لي السفرة نعبث بها ثم قال: استغفر الله ما أتكلم بكلمة إلاّ وأنا أخطمها وأزمها إلاّ هذه الكلمة خرجت مني بغير خطام ولا زمام أو كما قال: والأيسر حركات الجوارح حركة اللسان وهي أضرها على العبد.

واختلف السلف والخلف هل يكتب جميع ما يلفظ به أو الخير والشر فقط؟ على قولين أظهرهما الأول.
وقال بعض السلف: كل كلام بن آدم عليه لا له إلاّ ما كان من ذكر الله وما والاه وكان الصديق رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول:"هذا أوردني الموارد"والكلام أسيرك فإذا خرج من فيك صرت أسيره. والله عند لسان كل قائل {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
وفي اللسان آفتان عظيمتان إن خلص العبد من احدهما لم يخلص من الأخرى. آفة الكلام وآفة السكوت وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأخرى في وقتها فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاص لله مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته فهم بين هذين النوعين وأهل الوسط وهم أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل واطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة فلا ترى أحدهم أنه يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة فضلا أن تضره في آخرته وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله عز وجل وما اتصل به.



ص -191- فصل:
وأما الخطوات: فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلاّ فيما يرجوا ثوابه عند الله تعالى فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود عنها خير له ويمكنه أن يستخرج من كل مباح يخطو إليه قربة يتقرب بها وينويها لله فتقع خطاه قربة.
ولما كانت العثرة عثرتين: عثرة الرجل وعثرة اللسان جاءت إحداهما قرينة الأخرى في قوله تعالى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} فوصفهم بالاستقامة في لفظاتهم وخطواتهم كما جمع بين اللحظات والخطوات في قوله تعالى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
فصل:
وهذا كله ذكرناه مقدمة بين يدي تحريم الفواحش ووجوب حفظ الفرج وقد قال: صلى الله عليه وسلم"أكثر ما يدخل الناس النار: الفم والفرج".
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم"لا يحل دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة". وهذا الحديث في اقتران الزنا بالكفر وقتل النفس نظير الآية التي في الفرقان ونظير حديث ابن مسعود.
بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكثر وقوعا ثم بالذي يليه فالزنا أكثر وقوعا النفس وقتل النفس أكثر وقوعا من الردة نعوذ بالله منها وأيضا فإنه انتقال من الأكبر إلى ما هو أكبر منه مفسدة ومفسدة الزنى مناقضة لصلاح العالم فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم بين الناس





ص -192- وإن حملت من الزنى فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنى والقتل وإن حملته الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم فورثهم وليس منهم ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم إلى غير ذلك من مفاسد زناها وأما زنا الرجل فإنه يوجد اختلاط الأنساب أيضا وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين وإن عمرت القبور في البرزخ والنار في الآخرة فكم في الزنى من استحلال لحرمات وفوات حقوق ووقوع مظالم!.
ومن خاصيته: أنه يوجب الفقر ويقصر العمر ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس.
ومن خاصيته أيضا: أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.
وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه:"لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"متفق عليه.
وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسلم"إن الله يغار وإن المؤمن يغار غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه".
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم"لا أحد أغير من الله من





ص -193- أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك أثني على نفسه".
وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال:"يا أمة محمد والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ثم رفع يديه فقال: اللهم هل بلغت؟".
وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله وظهور الزنى من أمارات خراب العالم وهو من أشراط الساعة كما في الصحيحين عن أنس بن مالك أنه قال:"لأحدثكم حديثا لا يحدثكموه أحد بعدي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنى ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد".


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
قديم 04 Apr 2010, 03:01 AM   #30
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه أنه عند ظهور الزنى يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه فلابد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة فقال: عبد الله بن مسعود"ما ظهر الربا والزنا في قرية إلاّ أذن الله بإهلاكها"ورأى بعض أحبار بنى إسرائيل ابنا له يغامز امرأة فقال مهلا يا بني فصرع الأب عن سريره فأنقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقيل له"هكذا غضبك لي؟ لا يكون في جنسك خير أبدا".
وخص سبحانه حد الزنى من بين سائر الحدود بثلاث خصائص:
أحدها القتل فيه بأشنع القتلات وحيث خففه فجمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.



ص -194- الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمتعهم من إقامة الحد عليهم فإنه سبحانه من رأفته بهم ورحمته بهم شرع هذه العقوبة فهو أرحم بكم منكم بهم ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.
وهذا -وإن كان عاما في سائر الحدود- ولكن ذكر في حد الزنى خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلطة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم من أرباب الجرائم والوقائع والواقع شاهد بذلك فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله عز وجل.
وسبب هذه الرحمة: أن هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأراذل وفي النفوس أقوى الدواعي إليه والمشارك فيه كثير وأكثر أسبابه العشق والقلوب مجبولة على رحمة العاشق وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقرية وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليها ولا يستنكر هذا الأمر: فهو مستقر عند من شاء الله من أشباه الأنعام ولقد حكى لنا من ذلك شيء كثيرا كثرة عن ناقصي العقول كالخدام والنساء.
وأيضا فإن هذا ذنب غالب ما يقع مع التراضي من الجانبين فلا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه وفيها شهوة غالبة له فتصور ذلك لنفسها فتقوم بها رحمة تمنع إقامة الحد وهذا كله من ضعف الإيمان, وكمال الإيمان أن تقوم به قوة يقيم أمر الله ورحمة يرحم بها المحدود فيكون موافقا لربه سبحانه في أمره ورحمته.
الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين فلا يكون في خلوة حيث لا يراهما أحد وذلك أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر وحد





ص -195- الزاني المحصن مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة وذلك لاشتراك الزنى واللواط في الفحش وفي كل منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره فإن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد ولأن يقتل المفعول به خير له من أن يؤتي فإنه يفسد فسادا لا يرجى له بعده صلاح أبدا ويذهب خيره كله وتمص الأرض ماء الحياء من وجهه فلا يستحي بعد ذلك لا من الله ولا من خلقه وتعمل في قلبه وروحه نطفة الفاعل ما يعمل السم في البدن.
وقد اختلف الناس: هل يدخل الجنة مفعول به؟ على قولين سمعت شيخ الإسلام رحمه الله يحكيهما.
والذين قالوا لا يدخل الجنة احتجوا بأمور:
منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنة ولد زنا"فإذا كان هذا حال ولد الزنى مع أنه لا ذنب له في ذلك ولكنه مظنة كل شر وخبث وهو جدير أن لا يجيء منه خيرا أبدا لأنه مخلوق من نطفة خبيثة وإذا كان الجسد الذي تربى على الحرام النار أولى به فكيف بالجسد المخلوق من النطفة الحرام؟.
قالوا: والمفعول به شر من ولد الزنى وأخزى وأخبث وأوسخ وهو جدير أن لا يوفق للخير وأن يحال بينه وبينه وكلما عمل خيرا قيض الله ما يفسده عقوبة له وقل أن ترى من كان كذلك في صغره إلاّ وهو في كبره شر مما كان ولا يوفق ولا لعلم نافع ولا عمل الصالح ولا توبة نصوح.
والتحقيق في هذه المسألة أن يقال: إن تاب المبتلى بهذا البلاء وتاب ورزق توبة نصوحا وعملا صالحا وكان في كبره خيرا منه في صغره وبدل سيئآته بحسنات وغسل عار ذلك عنه بأنواع الطاعات والقربات وغض بصره وحفظ فرجه عن المحرمات وصدق الله في معاملته فهذا مغفور له وهو من






ص -196- أهل الجنة فإن الله يغفر الذنوب جميعا وإذا كانت التوبة تمحو كل ذنب حتى الشرك بالله وقتل أنبيائه وأوليائه والسحر والكفر وغير ذلك فلا تقصر عن محو هذا الذنب وقد استقرت حكمة الله به عدلا وفضلا"أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له"وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنا أنه يبدل سيئاته حسنات وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب وقد قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد ولكن هذا في حق التائبين خاصة.
وأما مفعول به إن كان في كبره شرا مما كان في صغره: لم يوفق لتوبة نصوحا ولا لعمل صالح ولا استدرك ما فات ولا أبدل السيئات بالحسنات فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمة يدخل بها الجنة عقوبة له على عمله فإن الله سبحانه وتعالى يعاقب على السيئة بسيئة أخرى وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى فتضاعف الحسنات.
وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة عقوبة لهم على أعمال السيئة.
قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله:"وأعلم أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسباب ولها طرق وأبواب أعظمها الإنكباب على الدنيا وطلبها والحرص عليها والإعراض عن الأخرى والإقدام معاصي الله عز وجل وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض ونصيب من الجرأة والإقدام فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجحت فيه موعظة فربما جاءه الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين له المراد ولا علم ما أراد وإن كرر عليه الداعي وأعاد.




ص -197- ولا أعلم ما أراد وإن كرر عليه الداعي وأعاد.
قال: ويروي أن بعض رجال الناصر نزل به الموت فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلاّ الله فقال الناصر مولاي فأعاد عليه القول فقال مثل ذلك أصابته غشية فلما أفاق قال: الناصر مولاي وكان هذا دأبه كلما له قيل لا إله إلاّ الله قال: الناصر مولاي ثم قال: لابنه يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك والقتل القتل ثم مات على ذلك. قال: عبد الحق رحمه الله -وقيل لآخر ممن أعرفه- قل لا إله إلاّ الله فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا.
وقال: وفيما أذن أبو طاهر السلفي أن أحدث به عنه أن رجلا نزل به الموت فقيل له: قل لا إله إلاّ الله فجعل يقول بالفارسية: ده يازده ده وزداه تفسيره: عشر بإحدى عشر. وقيل لآخر: قل لا إله إلاّ الله فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب؟.
قال: وهذا الكلام له قصة وذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره وكان بابها يشبه باب هذا الحمام فمرت به جارية لها منظر فقالت: أين السلام إلى حمام منجاب؟ فقال هذا حمام منجاب فدخلت الدار ودخل وراءها. فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه. وقالت له: خدعة منها له وتحيلا لتتخلص مما أوقعها فيه وخوفا من فعل الفاحشة يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقربه عيوننا فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها فأخذ ما يصلح ورجع فوجدها قد خرجت وذهبت ولم تخنه في شيء فهام الرجل وأكثر الذكر لها وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول:

يارب قائلة يوما وقد تعبت أين الطريق إلي حمام منجاب

فبينما يقول ذلك وإذا بجاريته أجابته من طاق:

ص -198- هل لا جعلت سريعا إذ ظفرت بها حرزا على الدار أو قفلا على الباب

فازداد هيمانه واشتد هيجانه ولم يزل كذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا.
ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفا من الذنوب؟ فأخذ تنبة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه وإنما أبكى خوفا من"سوء"الخاتمة.
وهذا من أعظم الفقه: أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى.
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبى الدرداء أنه لما احتضر جعل يغمى عليه ثم يفيق ويقرأ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابا بينهم وبين الخاتمة الحسنى.
قال: وأعلم أن سوء الخاتمة- أعاذنا الله تعالى منها- لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة أو إصرار على الكبيرة وإقدام على العظائم فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة فيأخذه قبل إصلاح الطوية ويصطلم قبل الإنابة فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة ويختطفه عند تلك الدهشة والعياذ بالله.
قال: ويروي أنه كان بمصر رجل يلزم المسجد للأذان والصلات فيه وعليه بهاء الطاعة وأنور العبادة فرقى يوما المنارة على عادته للأذان وكان تحت المنارة دارا لنصراني فاطلع فيها فرأي إبنة صاحب الدار فافتن بها فترك الأذان

ص -199- ونزل إليها ودخل الدار عليها فقالت له: ما شأنك وما تريد؟ قال: أريدك. قالت: لماذا؟ قال: قد سلبت لبي وأخذت بمجامع قلبي. قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبدا. قال: أتزوجك. أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك. قال: أتنصر. قالت: إن فعلت أفعل فتنصر الرجل ليتزوجها وأقام معهم في الدار فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات فلم يظفر بها وفاته دينه.
وقال: ويروى أن رجلا عشق شخصا فاشتد كلفه به وتمكن حبه من قلبه حتى وقع ألما به ولزم الفراش بسببه وتمنع ذلك الشخص عليه واشتد نفاره عنه فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده أن يعوده فأخبر بذلك الناس. ففرح واشتد سروره وانجلى غمه وجعل ينتظر الميعاد الذي ضربه له فبينا هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما فقال: أنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع فرغبت إليه وكلمته فقال: أنه ذكرني وفرح بي ولا أدخل مداخل الريب ولا أعرض نفسي لمواقع التهم فعاودته فأبى وانصرف فلما سمع البائس ذلك أسقط في يده إلى أشد مما كان به وبدت عليه علائم الموت فجعل يقول في تلك الحال:

أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنف النحيل

رضاك أشهى إلي فؤادي من رحمة الخالق الجليل

فقلت: له يا فلان اتق الله قال: قد كان فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت فعياذا بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة.
فصل:
ولما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات.

ص -200- وقد أختلف الناس هل هو أغلظ عقوبة من الزنى أو الزنى أغلظ عقوبة منه أو عقوبتهما سواء؟ على ثلاثة أقوال:
فذهب أبو بكر الصديق وعلى بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وخالد بن زيد وعبد الله بن معمر والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك وإسحق بن راهويه والإمام أحمد في أصح الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه إلى أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزنى وعقوبته القتل على كل حال محصنا كان أو غير محصن.
وذهب عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والأوزاعى والشافعي في ظاهر مذهبه والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه وأبو يوسف ومحمد إلى أن عقوبته وعقوبة الزانى سواء.
وذهب الحاكم والإمام أبو حنيفة إلى أن عقوبته دون عقوبة الزانى وهي التعزير.
قالوا: لأنه معصية من المعاصي لم يقدر الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فيه حدا مقدرا فكان فيه التعزير كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير.
قالوا: ولأنه وطأ في محل لا تشتهيه الطبائع بل ركبها الله تعالى على النفرة منه حتى الحيوان البهيم فلم يكن فيه حد كوطء الأتان وغيرها.
قالوا: ولأنه لا يسمى زانيا لغة ولا شرعا ولا عرفا فلا يدخل في النصوص من الدلالة على حد الزانيين.
قالوا: وقد رأينا قواعد الشريعة أن المعصية إذا كان الوازع عنها طبعيا اكتفى بذلك الوازع من الحد وإذا كان في الطبائع تقاضيها جعل فيها الحد بحسب اقتضاء الطبائع لها ولهذا جعل الحد في الزنى والسرقة وشرب المسكر دون أكل الميتة والدم ولحم الخنزير.
قالوا: وطرد هذا أنه في وطيء البهيمة ولا الميتة وقيل: جبل الله





ص -201- سبحانه الطبائع على النفرة من وطيء الرجل"رجلا"مثله أشد نفرة كما جبلها على النفرة من استدعاء الرجل من يطؤه بخلاف الزنى فإن الداعي فيه من الجانبين.
قالوا: ولأن أحد النوعين إذا استمتع بشكله لم يجب عليه الحد كما لو تساحقت المرأتان واستمتعت كل واحدة منهما بالأخرى.
قال أصحاب القول الأول وهم جمهور الأمة وحكاه غير واحد إجماعا للصحابة: ليس في المعاصي مفسدة أعظم من مفسدة اللواط وهي تلي مفسدة الكفر وربما كانت أعظم من مفسدة القتل كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قالوا: ولم يبتل الله تعالى بهذه الكبيرة قبل قوم لوط أحدا من العالمين وعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدا غيرهم وجمع عليهم أنواعا من العقوبات من الإهلاك وقلب ديارهم عليهم والخسف بهم ورجمهم بالحجارة من السماء وطمس


 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ضعف مراقبة الله في الخلوات ( الداء والدواء ) فخوره بحجابى مواضيع لاتدعها تفوتك !! Threads do not let them miss 6 05 Oct 2012 08:36 PM
الطب النبوي ... لأبن القيم محمد الغماري طب الأعشاب . علمها وطبها وفوائدها Department of Herbal Medicine. Flag and Dobaa and benefits 44 04 Apr 2010 02:03 AM
اخي اراقي:اين الجواب الكافي. نضال الدين اليمني إدارة الطب الإلهي والنبوي ـ االإستشارات العلاجية والإستشفاء ـ Department of Medicine and the Prophet 2 07 Apr 2008 10:12 PM
الداء والدواء .. مسك 2007 منهج السلف الصالح . The Salafi Curriculum 8 08 Mar 2008 08:51 PM
//--// الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي //--// نورالهدى منهج السلف الصالح . The Salafi Curriculum 2 03 May 2007 12:46 PM

 
مايُكتب على صفحات المركز يُعبّر عن رأى الكاتب والمسؤولية تقع على عاتقه


علوم الجان - الجن - عالم الملائكة - ابحاث عالم الجن وخفاياه -غرائب الجن والإنس والمخلوقات - فيديو جن - صور جن - أخبار جن - منازل الجن - بيوت الجن- English Forum
السحر و الكهانة والعرافة - English Magic Forum - الحسد والعين والغبطة - علم الرقى والتمائم - الاستشارات العلاجية - تفسير الرؤى والاحلام - الطب البديل والأعشاب - علم الحجامة

الساعة الآن 12:47 AM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2011-2012
جميع الحقوق محفوظة لمركز دراسات وأبحاث علوم الجان العالمي