ابن الورد
11 May 2007, 04:42 PM
الحمد لله الغفار خالق الملائكة الأبرار الأطهار والصلاة والسلام على النبي المختار وآله وصحبه الأخيار
اعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصا فضلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينهم وبين عباده يعرفونهم بمصالحهم ويحرضونهم على هدايتهم ويأخذون بحجزانهم عن النار ويدلونهم على طريق النجاة وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم قال ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني الله واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته الصدق لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة وعلامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين وليست منهما في شيء وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقي إليه قال وقد سئل عن الوحي أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ويدركه أثناء ذلك من الشدة والغط ما لا يعبر عنه ففي الحديث كان مما يعالج من التنزيل شدة وقالت عائشة كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه إن جبينه ليتفصد عرقا وقال تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ولأجل هذه الغاية في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون له رئي أو تابع من الجن وإنما ليس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال ومن يضلل فما له من هاد
ومن علاماتهم أيضا أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع وهذا هو معنى العصمة وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشيا عليه حتى استتر بإزاره ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئا من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال إني أناجي من لا تناجون وأنظر لما أخبر النبي خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره فقالت اجعلني بينك وبين ثوبك فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت إنه ملك وليس بشيطان ومعناه أنه لا يقرب النساء وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت إنه الملك يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر والشياطين.
________________________________________
مقدمة ابن خلدون ج:1 ص 91 ــ 92
اعلم أن الله سبحانه اصطفى من البشر أشخاصا فضلهم بخطابه وفطرهم على معرفته وجعلهم وسائل بينهم وبين عباده يعرفونهم بمصالحهم ويحرضونهم على هدايتهم ويأخذون بحجزانهم عن النار ويدلونهم على طريق النجاة وكان فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار الكائنات المغيبة عن البشر التي لا سبيل إلى معرفتها إلا من الله بوساطتهم ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم قال ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني الله واعلم أن خبرهم في ذلك من خاصيته وضرورته الصدق لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة وعلامة هذا الصنف من البشر أن توجد لهم في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين وليست منهما في شيء وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية ثم يتنزل إلى المدارك البشرية إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقي إليه قال وقد سئل عن الوحي أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ويدركه أثناء ذلك من الشدة والغط ما لا يعبر عنه ففي الحديث كان مما يعالج من التنزيل شدة وقالت عائشة كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه إن جبينه ليتفصد عرقا وقال تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ولأجل هذه الغاية في تنزل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون ويقولون له رئي أو تابع من الجن وإنما ليس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال ومن يضلل فما له من هاد
ومن علاماتهم أيضا أنه يوجد لهم قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع وهذا هو معنى العصمة وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشيا عليه حتى استتر بإزاره ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئا من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال إني أناجي من لا تناجون وأنظر لما أخبر النبي خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره فقالت اجعلني بينك وبين ثوبك فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت إنه ملك وليس بشيطان ومعناه أنه لا يقرب النساء وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت إنه الملك يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر والشياطين.
________________________________________
مقدمة ابن خلدون ج:1 ص 91 ــ 92