المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لماذا ذهب الفكر العربي الإسلاميإلى تجسيد الجن ولم يذهب إلى تجسيد الملائكة؟


ابن حزم الأندلس
09 May 2008, 01:31 PM
لماذا ذهب الفكر العربي الإسلامي إلى تجسيد الجن ولم يذهب إلى تجسيد الملائكة؟


منذ زمن بعيد وحتى عصرنا هذا لم يوجد من ادعى أنه صادف أو التقى أو رأى ملكا من الملائكة، بالمقابل ادعى كثير من الناس رؤيتهم للجن والتعامل معهم ومنهم من تزوج وأنجب منهمذرية صالحة أو طالحة.


تبين الآيات والأحاديث بصراحة تجسد الملائكة في شكل بشروقد تكلم الأنبياء والرسل معهم كما أن الصحابة رأوهم في عصر النبوة.

يقول تعالىفي كتابه العزيز:
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا)- (مريم 17)(إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا
- إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا%وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ)قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا%سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَالحجر 51-53)(نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍفَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ)- َ (الحجر 61-62)(قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُون%الْمُرْسَلُونَ)- وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَوَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ%الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (الأنعام 8-9)(رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَقُلْ لَوْ)- كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ (الإسراء 95)(مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًاوفي صحيح مسلم من حديث عن عبدذاتrالله بن عمر قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول اللهيوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر،، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه علىtولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبيفخذيه (...) قال ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال لي: "يا عمر! أتدري من السائل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".

و في صحيح البخاريكان يوما بارزا للناس، إذ أتاه رجل يمشي(...) ثمr: أن رسول اللهtعن أبي هريرةانصرف الرجل، فقال: (ردوا علي). فأخذوا ليردوا فلم يروا شيئا، فقال: (هذا جبريل،جاء ليعلم الناس دينهم).

قوله فأتاه رجل، أي ملك في صورة رجل، وفي التفسير إذأتاه رجل يمشي، ولأبي فروة فإنا الجلوس عنده إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها وأطيبالناس ريحا كأن ثيابه لم يمسها دنس. ولمسلم من طريق كهمس في حديث عمر: بينما نحنإذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر وفيrذات يوم عند رسول اللهرواية بن حبان سواد اللحية لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلىفأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخديه وفي رواية لسليمان التيمي ليسrالنبيكما يجلس أحدنا فيrعليه سحناء السفر وليس من البلد فتخطى حتى برك بين يدي النبيوكذا في حديث بن عباس وأبي عامر الأشعري ...rالصلاة ثم وضع يده على ركبتي النبي (أنظر فتح الباري)
وحدثنا أبو عثمان قال: أنبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبيلأم سلمة: (من هذا). أو كما قال،rوعنده أم سلمة، فجعل يحدث ثم قام، فقال النبيrقالت: هذا دحية، قالت أم سلمة: وايم الله ما حسبته إلا إياه، حتى سمعت خطبة نبيبخبر جبريل. (صحيح البخاري)rاللهrقوله فقال لأم سلمة من هذا فاعل ذلك النبياستفهم أم سلمة عن الذي كان يحدثه هل فطنت لكونه ملكا أم لا؟ قال الداودي هذاالسؤال إنما وقع بعد ذهاب جبريل وظاهر سياق الحديث قوله قالت هذا دحية أي بن خليفةغالبا علىrالكلبي الصحابي المشهور، وكان موصوفا بالجمال وكان جبريل يأتي النبيذاهبا إلى المسجد وهذا يدل على أنه لم ينكر عليهاrصورته قوله فلما قام أي النبيما ظنته من أنه دحية اكتفاء بما سيقع منه في الخطبة مما يوضح لها المقصود قوله ماحسبته إلا إياه هذا كلام أم سلمة وعند مسلم فقالت أم سلمة أيمن الله ما حسبته إلايخبر بخبر جبريل أو كما قال في رواية مسلم.rإياه حتى سمعت خطبة النبيوجاء فيrدلائل البيهقي من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها رأت النبييكلم رجلا وهو راكب فلما دخل قلت من هذا الذي كنت تكلمه قال بمن تشبهينه قلت بدحيةبن خليفة قال ذاك جبريل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة... وفي هذا الحديث أن للملك أنيتصور على صورة الآدمي وأن له هو في ذاته صورة لا يستطيع الآدمي أن يراه فيها لضعفالقوى البشرية إلا من يشاء الله أن يقويه على ذلك ولهذا كان غالب ما يأتي جبريل إلىفي صورة الرجل كما تقدم في بدء الوحي وأحيانا يتمثل له الملك رجلا ولم يرrالنبيجبريل على صورته التي خلق عليها إلا مرتين كما ثبت في الصحيحين، وفيه فضيلة لأمسلمة ولدحية وفيه نظر لأن أكثر الصحابة رأوا جبريل في صورة الرجل لما جاء فسأله عنالإيمان والإسلام والإحسان. (فتح الباري)
يتضح لنا من هذه الأحاديث وغيرها أننوعا من الملائكة على الأقل نزل في صورة بشر كما وقع لمريم البتول وكما حدث معوقد رآهم بعض الصحابة ولكنrسيدنا ابراهيم وسيدنا لوط عليهما السلام وسيدنا محمدبذلك...rلم يعرفوا بأنهم ملائكة إلا بعد أن أخبرهم النبيفالملائكة مخلوقاتمتنوعة ولها مهام وأسماء وخصائص مختلفة، منها جبريل وميكال ومالك وحملة العرشوالروح والكتبة والحفظة والمعقبات والمدبرات وهاروت وماروت... وأشكالها أيضا مختلفةالْحَمْدُ لِلَّهِ))منها ذات الجناحين والثلاث والأربع والأكثر من ذلك، قال تعالى: فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِيأَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ (فاطر 1)((اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌفي عصرنا هذا لم نسمع عن عالمجليل أو فقيه ورع جاءه ملك أو ظهر له أو تعاقد معه... بالمقابل يتحدث الكثير منالناس ومن بينهم العلماء طبعا - من السلف والخلف من أمثال الإمام أحمد وابن تيميةوالشبلي وابن باز وعبد السلام بالي وغيرهم- عن ظهور الجن والشياطين في أشكال مختلفةوتلبس بعض الناس بهم ويجزمون أن بينهم وبين السحرة عقود وتعاملات متعددة وتزوج منهمخلق كثير وأنجب... وقد تحولت الكثير من القصص عن الجن حتى أصبحت خرافة/اسطورة لايصدقها عاقل. فكيف يتم ذلك؟عادة ما يتم البحث في الأشكال الأسطورية للجن،بعقل أسطوري هو الذي أوجدها أصلا.

تلعب الخرافة والأسطورة دورا هاما في تشكيلالوعي الجماعي وقد تشير إلى نظرة الشعوب للماورائيات والمواضيع الغامضة التي يقفأمامها العقل البشري عاجزا عن تحليل معانيها بوضوح. شاعت تلك القصص الخيالية إن صحالتعبير، لدى الشعوب البدائية واستمرت تتناقل عبر الأجيال حتى سادت بين الشعوبالمتحضرة، فالأسطورة ما هي إلا خلاصة تفكير شعب ما في عصر ما. إجمالا تلك الأساطيرتعنى بالقصص التي يلعب فيها الخيال الدور الأول وتتناوله خوارق الطبيعة، أعمالالآلهة، خلفيات العادات الاجتماعية، القصص الحيوانية الغريبة، وكلها تعكس تفكير هذهالفئة من الناس وتدل على طرق فهمهم وتقييمهم لما يحيط بهم من معان يصعب عليهم فهمهابشكل واضح.
ما يعنينا في هذا المجال، الالتفات نحو الإنسان العربي المسلم وإلقاءالضوء على كيفية تفسيره للظواهر الخارقة ومنها "الجن" وما أحاط بهذا الموضوع منخوارق وأعمال فاقت قدراته وقدراتنا البشرية.

لقد تناول الجاحظ هذه الفكرة حينأورد في كتابه "الحيوان" ما يلي: " إذا استوحش الإنسان تمثل له الشيء الصغير فيصورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه، فرأى ما لا يرى، وسمع ما لا يسمع، وتوهم الشيءال**** أنه عظيم جليل..."

حينما يسيطر الجهل والخوف على الإنسان فإنه يفسرالظواهر والخوارق على هواه وكيفما أراد عقله. فيمزج الحقيقة بالخيال ليريح ذهنه منالتفكير وبدنه من عناء البحث والتنقيب. لكن يبقى لكل حدث أصل وحقيقة والحقيقةمرتبطة بالمكان والزمان الذي وقع فيهما الحدث وبالأشخاص الذين عاينوه وبدرجة صدقهمووعيهم وتفسيرهم. فإذا سقط واحد من هذه الركائز –الثالوث- (المكان، الزمان،الأشخاص) أو أختل أحدها تحولت الحقيقة إلى خرافة ثم إلى أسطورة ولا يفصل الحقيقة عنالخرافة إلا شعرة دقيقة جدا، كما أن فهم الكلمات وتفسيرها وشحنها بمفاهيم مغايرةيلعب دورا مهما في تشكيل الوعي الجماعي....

يقول تعالى في كتابه العزيز فيشأن الملائكة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ)الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي (فاطر(الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 1)
فالملائكة، حسب النص القرآني ـ الذي يعتبر أرقى درجات الحقيقة بالنسبة لنانحن المسلمين ـ لها أجنحة حقيقة، لكن إذا اختلط على الناس الأمر وبدلوا كلمة "الملائكة" بكلمة "الجن" أو اعتقدوا أن الملائكة أصلهم من الـجِنَّةُ، كما قال ذلكبعض العلماء:
؛ قالوا:(ولقد عَلِـمَت الـجِنَّةُ إِنهم لـمُـحْضَرُون)الـجِنَّةُ ههنا الـملائكةُ عند قوم من العرب، وقال الفراء فـي قوله تعالـى: ، قال: يقال الـجِنَّةُ ههنا الـملائكة،(وجعلوا بـينه وبـين الـجِنَّةِ نَسَباً)وكان أَهلُ الـجاهِلـيَّة يسمّون الـملائكة، علـيهم السلام، جِنَّاً لاسْتِتارِهمعن العيون.

؛ إِنه(إِلا إِبلـيس كان من الـجنِّ)وقد قـيل فـي قوله عزّ وجلّ: عَنى الـملائكة، قال أَبو إِسحق: فـي سِياق الآية دلـيلٌ علـى أَن إِبلـيس أُمِرَبالسجود مع الـملائكة، قال: وأَكثرُ ما جاء فـي التفسير أَن إِبلـيس من غيرالـملائكة، وقد ذكر اللَّه تعالـى ذلك فقال: كان من الـجِنّ؛ وقـيل أَيضاً: إِنإِبلـيس من الـجنّ بمنزلة آدمَ من الإِنس، وقد قـيل: إِن الـجِنّ ضرْبٌ منالـملائكة كانوا خُزَّانَ الأَرض، وقـيل: خُزَّان الـجنان.

قال النووي رحمهالله: إبلـيس كنـيته أبو مرّة، واختلف العلـماء فـي أنّه هل هو من الـملائكة منطائفة يقال لهم الـجن، أم لـيس من الـملائكة، وفـي اسمه هل هو اسم أعجمي أم عربـي،قال عبد الله بن عباس وابن مسعود وابن الـمسيب وقتادة وابن جرير والزجاج وابنالأنباري : كان إبلـيس من الـملائكة من طائفة يقال لهم الـجن، وكان اسمهبالعبرانـية عزازيل وبالعربـية الـحرث، وكان من خزان الـجنّة، وكان رئيس ملائكةسماء الدنـيا وسلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الـملائكة اجتهاداً وأكثرهمعلـماً، وكان يسوس ما بـين السماء والأرض...

إذا انطلقنا من مثل هذه الأقوالفإننا حتما سنصل إلى نتيجة واضحة هي أن الجن والملائكة والشياطين يقعون تحت يافطةواحدة وهي كلمة "جن" لذا قد يلتبس الأمر علينا فنخلط بين هذه الكلمات وبينمحتوايتها المفاهيمية...

لنرى ماذا يقول لنا القاموس عن كلمة "جنن" : في اللغة ،جن الشيء يجنه جنا: ستره. وكل شيء ستر عنك فقد جُن عنك. أجنه: ستره. جِن عين: أي ماجُن عن العين فلم تره، ستر عنها. والجن لغة ضد الإنس، فلغويا إذا اعتبرنا كلمة "جن" بمعناها العام، أي كل كائن لا يرى بالعين، فالملائكة من الجن لأنهم لا يرو بالعين. وغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جِنّا، فـيكون إبلـيسوالـملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بنـي آدم. لكن إذا اختلط الأمر واعتبرنا الجنحيا من أحياء الملائكة كما ورد عن ابن عباس: قال: كان إبلـيس من حيّ من أحياءالـملائكة، يقال لهم «الـجن» خـلقوا من نار السموم من بـين الـملائكة، وكان اسمهالـحرث. وكان خازنا من خزان الـجنة. وخـلقت الـملائكة كلهم من نورغير هذا الـحيّ. وخـلقت الـجنّ الذين ذكروا فـي القرآن من مارج من نار...

فيصبح الجن له بهذاالمعنى له بعض خصائص الملائكة ومنها الأجنحة طبعا وكذلك خاصية التشكل والتجسد، يمكنللجن أن يظهر في صورة إنسان كما ظهر الملائكة في عهد النبوة، فيلتبس الأمر وتصيرالحقيقة خيالا، إذ ليس هنالك أي دليل على أن للجن أجنحة أو أنها تتشكل.

أحدثتمثل هذه الأقوال وغيرها لبسا وقلبا في معاني الكلمات لدى جمهور غفير من الناس،فأصبح الجن ملكا وصار الملك جنا، وبتناقلها من مكان إلى مكان وعبر مختلف الأزمنة عنطريق عدة أشخاص يحدث فيها زيادة ونقصان وتكون لبنة لقصص وروايات بعيدة عن الصوابقريبة من الخيال... فيصبح الجن له أجنحة ويصير إبليس من الملائكة ويتشكل الجانبأشكال البشر والحيوان فيخيف ويرعب كالأفاعي.

خلاصة القول لكل مقام مقال، إذااعتبرنا كلمة "جن" بمعناها العام: أي كل ما اجتن عن بصر الإنسان ولم ير بالعين فهومن الجن فهنا يمكن أن ندخل كلمة "الملائكة" في هذا المعنى العام، أي أنهم مخلوقاتلا يراها بنو آدم بأعينهم.

كما أننا إذا فسرنا كلمة "جان" بكلمة "جن" فقط، أيبمعناها الخاص (المخلوقات التي ذكرت في القرآن والأحاديث وهي غير الملائكة من ناحيةالماهية والتكوين والأصل طبعا والتي تعيش معنا على الأرض وتشاركنا المال والطعاموالأولاد والحساب والعقاب دون أن نراها أو نحس بها) التبس علينا الأمر حينما نقرأقول الله تعالى:
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا)جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ(لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَفمن فهم أن "الجان" هنا تعني "الجن" فقط، سوف يقول أنالجن يهتز ويخيف ويصبح الاهتزاز من صفات الجن والصحيح أن هناك معنى آخر لكلمة "الجان"، أي ضرب من "الأفاعي" والثعابين تهتز وتخيف بطبيعتها كما تفعل حية الكوبرامثلا. وما يبين ذلك قوله تعالى:
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ)- (عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَفَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا)- (هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌفهذا يبين لنا أن عصا موسى هي التي اهتزت كالأفعىالمسمات "الجان" وهي التي أصبحت "ثعبانا".

فالـمعنى القريب إلى العقل أَن العصاصارت تتـحرَّكُ كما يتـحرَّكُ الـجانُّ حركةً خفـيفةً، وكانت فـي صورة ثُعْبانٍ،وهو العظيم من الـحيَّاتِ، فشبّهها فـي عِظَمِها بالثعبانِ وفـي خِفَّتِهابالـجانِّ، ولذلك قال تعالـى مرَّة: {فإِذا هي ثُعْبانٌ}، ومرَّة: {كأَنها جانٌّ}؛و الـجانُّ: الشيطانُ أَيضاً. وفـي حديث زمزم: أَن فـيها جِنَّاناً كثـيرة أَيحيَّاتٍ.

من مثل هذا اللبس بدأ البعض يعتقد أن الجن تمسخ أفاعي وتتشكل بشتىأشكال الحيات يمكن أن تكون لهذه الحياة أجنحة فتتشكل صورة وهمية مركبة من الملائكةوالجن والحيات والأجنحة فتعطينا مخلوقات خرافية كالتنين وكالعنقاء: ذكر الزمخشري في "ربيع الأبرار" أن الله خلق في زمن موسى طيرا أطلق عليه اسم العنقاء، وجهه كوجهإنسان وله أربعة أجنحة من كل جانب...

واتفق الناس على أن العنقاء طائر غريب وجههكوجه الإنسان، وحجمه كبير ضخم لدرجة أنه يستطيع اختطاف فيل والتحليق به عاليا، وهذاليس بمستغرب استنادا لما قيل في عدد أجنحته البالغة ثمانية، لذا قيل إنه عند طيرانهيسمع لأجنحته دوي كالرعد القاصف.
أما المخلوق الخرافي الآخر الذي لعب فيه الخيالالبشري دورا هاما، هو التنين: ذكر فيهأنه حية ضخمة توازي النخلة طولا وتشتهربالقوة والبأس والتمرد تعيث في الأرض فسادا فتلتهم دواب البر وتنشر الخراب أينماحلت، وقد ضج منها البشر، فأرسل الله ملكا حملها ورماها في قعر البحر، فازداد تمردهاوأذاها، وأخذت تبتلع كل المخلوقات المائية، وبالتالي كبر جسمها وازدادت ضخامة، فعادإليها الملك وحملها ورماها لقوم يأجوج وماجوج.

هذا ما كان يعتقده العديد منالناس عن التنين وعن نوع ممارساته البرية والبحرية، وقد زعم بعضهم أنه رآى تنينايبلغ طوله فرسخين. زيادة على ما تقوم من أذى ذاك الحيوان الخرافي، يؤكد البعض بأنهيتخذ شكل ريح سوداء تهب من قعر البحر وتبدأ بالدوران، مثيرة معها الغبار وتمربالمدن وتحيل بيوتها خرابا، وتقتلع الأشجار، وتزعزع الجبال، وربما تمادى هذاالحيوان فنفث من فمه نارا تحرق الأرض وتحول زرعها يباسا. وربما اجتاز التنين وهو فيالسحاب وذنبه خارج عنها بالشجر العادي والبناء الشامخ فيضربه بذنبه فيهدم البناء منأصله ويَقْلَع الشجر بعروقه، ولقد احتمله السحاب من بحر أنطاكية فضرب بذنبه بضعةعشر برجاً من أبراج سورها... وروى شهود عيان من أهل الشام وأنطاكية والبحرين، أنمسجد أنطاكية أصابه الخراب عندما صعد التنين من البحر، وبدأ بالدوران ومر علىالمدينة، وعندما حاذى المسجد ضربه بذيله فأوقع منارته، والمنارة الموجودة هي منارةمستجدة، أما القديمة فقد أطاح بها التنين أثناء ثورته وهيجانه.
أضاف البعض أنله جناحان عظيمان كهيئة أجنحة السمك ورأسه مثل التل العظيم شبه رأس الإنسان ولهأذنان مفرطتا الطول وعينان مدورتان كبيرتان جداً ويتشعب من عنقه ستة أعناق طول كلعنق منها عشرون ذراعاً في كل عنق رأس كرأس الحية ... هكذا يتمادى الفكر العربيالخرافي في وصفه لهذا المخلوق العجيب الذي لا يوجد إلا في الخيال....

أما فيالفكر الأسطوري الأوروبي والشرقي، فالتنين : هو وحش عجيب غريب له رأس حية، يشبهالتمساح، وله في الغالب أجنحة ومخالب، ذيله ذيل ثعبان، ينفث النارمن فمه، وهو رمزالشر والدمار.

يتبين من طريقة وصف التنين وهيجانه وتدميره للمناطق التي يمر بها،بل إحراقها أحيانا، أن هذا المخلوق الذي أخاف البشر، عهودا طويلة ونسجوا حوله قصصاوروايات ملأت عقول الأغبياء وأثرت دور النشر والمطبعات، ما هو إلا إعصار منالأعاصير الهائلة التي ترافقها الصواعق الحارقة، فعجز الإنسان عن تفسير العواملالطبيعية التي تواجهه وتخيفه وتدمره أحيانا أدت إلى جموح خياله ولعبت بعقله وفكرهوجعلته يتصور أنها حية ملتوية سوداء تنفث النار من فمها ومنخريها، تماما كما تصورهلنا أفلام هوليود الخيالية اليوم.

حينما تلتقي قصص حقيقية عن حيات ضخمة كالأصلة (بوء boa) تفترس دواب الأرض بقصص عن طائر كالعقاب يحمل بمخالبه في السماء خروفا أوغزالا صغيرا ويكبر في الخيال حتى يصبح العقاب رخا أو عنقاء والحمل فيلا، بقصصالبحارة عن سمك الحوت الضخم بزعانفه الكبيرة التي تتحول إلى أجنحة تدوي وترعب، بقصصأخرى واقعية عن الأعاصير و الصواعق والبراكين الحارقة... وتنصهر مع بعضها البعض فيزمن الجهل والتخلف وفي أمكنة مظلمة حول موقد النار يحكي فيها الراوي حكايته المثيرةوالممتزجة بالخوف وبخيالات الضل التي تكبرها نار الموقد وتزيد في رعب الحديث، تتولدقصص خيالية نسجت وتغذت من الواقع وجنحت عنه لتعطينا مخلوقات ليس لها وجود إلا فيالخيال...هذا الخيال نفسه هو الذي أطلق قيود الجن والشياطين لتعيث في الأرض الفسادوتتشكل بشتى الأشكال فتسكن أرواح البشر وتتقمص صوره وتفعل الأفاعيل باسمه وتشوهسمعته وتمنع حضر التجول في الجبال والأودية وفي الأماكن الخالية وتبني بالنسوة وهننيام وتسرق الطعام وتطير بالأولياء في السماء وتقتل الغرباء التائهين وتحلق رؤوسالنائمين وتغسل أجساد الميتين و...و...و...


------------------

- هنارضوان، الميثولوجيا عند العرب، مجلة الفكر العربي المعاصر، 88-98 ، ص.68.
- النمل/ 10
- الأعراف / 117
- الأعراف / 107
- موسوعةأونكارتا

أبو سفيان
09 May 2008, 11:18 PM
جزاك الله خيرا وبارك الله بك

أبوحذيفة
09 May 2008, 11:50 PM
ساعود مرة اخرى لتكلمة قراءته فجزاك الله خيرا

حسن عوفي
10 May 2008, 11:19 AM
برك الله بيك اخي على المعلومات المفيده انشاء الله ان يتقبلها منا ومنكم عند الله سبحانه وتعالى على خدمة المسلمين اجمعين انشاء الله

ابن حزم الأندلس
10 May 2008, 08:38 PM
الأخوة الكرام الغريب وحسن عوفي شكرا لكما على قراءة الموضوع

أخي الكريم باحث الرقية أهلا وسهلا بك ...

أكون ممتنا لو تفضلت بإبداء ملاحظاتك على الموضوع

مودتي