المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حي في أرض الأموات


الكَلِمُ الطيب
09 Dec 2008, 08:59 PM
ماإن تُذْكرُ قصص التوبة وأهلها إلا وتجيش المشاعر في صدري وأتذكر أخا لي قد أفضى إلى ربه ، إن لأهل التوبة قلوبا أنقى من الزجاج ، ولأهل التوبة ذِكْراً يؤنس القلوب ويزيل عنها غبار الغفلة ، وقد آثرتُ في هذا اليوم أن أنقل لكم خَبَرَ صاحبي ، لعلَّ الله أن يحي بقصتهِ قلوبا لم تزل معرضة عن الله .....


كنت شابا في العشرين من عمري كان لي رفقة صالحة يعينونني على الخير وأعينهم عليه ، جمع بيننا المسجد والقرآن وحبُّ الله ، كان لنا صديق تنتابه نزغة إلى الخير ونزغات كثيرة إلى الشر ، كنا نحرص عليه ، وكان أهل الشر أشد حرصا منا على صاحبنا فقد كان صاحب صوت جميل يحي ليلهم أنْساٍ وطَرَباً ، تَفَلَّتَتْ الأمور من أيدينا فلم يعد لنا على صَاحبنا سلطان ، فقد توغل في المعاصي وبات مجاهرا مفتخرا بها ولاحول ولاقوة إلا بالله .


قررت أنا وصحبي أن نُعذر إلى ربنا وندعوه إلى ركبِ الإيمان لعله يذَّكر أو يخشى ، حتى إذا كنا ذات مساء نسير بسيارتنا رأينا صاحبنا ، فدعوناه إلى مرافقتنا في السيارة لنقضي بعض الوقت ونتجاذب أطراف الحديث ، فرحب بالأمر وصعد معنا ، انطلقنا بسيارتنا إلى خارج البنيان ، ثم قال قائلنا : هل منكم من يسمعنا شيئا من كلام الله عز وجل فقد تاقت أنفسنا إلى سماع كلام الله ، وإذ بقارئنا مستعيذا بالله يقرأ بصوت شجي هذه الآيات المباركات من سورة ( المؤمنون ) :

( وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ{97} وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ{98} حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ{99} لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{100} فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ{101} فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{102} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ{103} تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ{104} أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ{105} قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ{106} رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ{107} قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ{108} إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ{109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ{110} إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ{111} قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ{112} قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ{113} قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{114} أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ{115} فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ{116} وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ{117} وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ{118}

لقد كانت هذه الآيات موعظة بليغة وجلت منها قلوبنا وذرفت منها عيوننا ، تذكرنا المرجع والمصير ، وفي هذه الأثناء تشاورنا في زيارة أهل القبور نُسَلِمُ عليهم وندعو لهم ، فتوجهنا إلى مقبرة قريتنا التي كانت بعيدة عن العمران في مكان مظلم موحش ، دخلنا المقبرة وكأننا ندخلها أولَّ مرة ، وإذ بالآيات التي قُرأت علينا آنفا يتردد صداها في آذاننا ، فلما هممنا بالانصراف بحثنا عن صاحبنا الذي نَبْغِي هِدَايَتَه ، فوجدناه قد جَثَى على رُكْبَيته يبكي بكاء شديدا ، استنهضناه لنمضي إلى بيوتنا فأبى أن ينهض معنا ، وقال امضوا إلى بيوتكم واتركوني وسألحق بكم ، قلنا كيف لنا أن نتركك في هذا المكان الموحش البعيد عن منازلنا ، انهض لتصلَ بيتك وتصلي بين يدي مولاك ، حتى إذا عُدت في يوم من الأيام إلى هذا المكان وقد حُمِلتَ على الأعناق كان لك عملا صالحا ترجو أن يرحمك الله به .

فمضينا إلى منازلنا بقلوب غير التي جئنا بها

أما صاحبنا الذي رجونا هدايته فقد َسبَقَنَا إلى الله ، حسُنت توبته ، كان بَكَّاء من خشية الله وقَّافا عند حدوده ، قارئاً لكتابه كثير الصيام والقيام ، كان يرافقنا في رحلاتنا إلى أطهر بقعتين مكة المكرمة والمدينة والمنورة ، كان إذا نام الناس انتصب قائما بين يدي مولاه قائما راكعا ساجدا ، إذا سَمِعتَ مناجاتِه لربه وبكائه بين يديه فرّ قلبك فَرَقَا من الله ، كان يُلح على ربه في الدعاء أن يقبضه إليه وهو صائم ، ويمضى العام الأول من هدايته وهو لم يزل مقبلا على الله ، ويمضي عامه الثاني وهو أشدُّ إقبالا على الله ، حتى إذا كان في عامه الثالث ، وقد أصبح صائما لله في صباح يوم الإثنين ، وبعد أن أدى صلاة العصر استقل سيارته متوجها إلى قرية مجاورة ، وقد كان يحمل في يده مصحفا مُجَزَئاً يراجع فيه حفظه أثناء قيادته للسيارة ، وقد انَشغَلَ بالمصحف عن القيادة ، وتقترب ساعة نهاية رحلته إلى الله فيصاب في حادث سيارة ليموت من ساعته وهو صائم ، ثم يُحمل على الأعناق ليدخل المقبرة التي دخلها قبل توبته وكان فيها من أمره ماكان .

لقد مات صاحبنا غير أن حبنا في الله الذي اجتمعنا عليه وافترقنا عليه لم يمت في قلبي ، وهاأنا أسطر قصته بعد أن مضى مايزيد على عشرين عاما على وفاته .

مات الشاب الصالح الذي لم نستطع أن نسبِقَهُ إلى الله ، كان يقوم الليل إذا نمنا ويصوم النهار إذا أفطرنا ، كانت عيناه تجود بالدمع إذا جفتْ مآقينا ، كان الله حاضرا في قلبه .

اللهم لاتحرمنا أجره ولاتفتنا بعده واغفر لنا وله .


كتبه الكَلِمُ الطيب يوم الثلاثاء 11 – 12 - 1429هجرية الموافق 09 – 12 – 2008 م

الحلم
09 Dec 2008, 09:14 PM
الله يشمله برحمته وغفرانه ويجعل قبره روضة من رياض الجنة وينورله قبره ويأنس وحدته ويسكنه فسيح جناته ويجعله مع النبين والصديقين والشهداء هو وابويا واخويا وجميع المسلمين ويلحقنا بهم بخير.....انه على كل شئ قدير سبحانه...

بارك الله فيك اخي الكريم نعم الصديق والاخ...الله يبارك لاهلك فيك ولاصحابك ولمن تحب...

اللهم ارزقنا الصحبة الطيبة الصالحة..واجعلنا من الناصحين بالخير والصلاح...آآآآآآآمين

تقبل مروري والف شكر على القصة والعظة منها.....

أبوحذيفة
09 Dec 2008, 10:40 PM
كفى بالموت واعظا .
قضة مؤثرة .. جزاك الله خيرا وبارك الله بك . وذكر الموت من انفع الأسباب في احياء القلوب وإصلاحها ،ولذا النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يذكر بالموت .."اكثروا من ذكر هاذم اللذات . وأذكر احد الصالحين انه كان يقول :: لو غفل قلبي عن ذكر الموت لساعة واحدة لفسد قلبي ..
اكرر شكري وتقديري واحترامي لك شيخنا .

أبو خالد
10 Dec 2008, 11:06 AM
بارك الله فيك اخي الفاضل

الكَلِمُ الطيب
10 Dec 2008, 12:12 PM
أخواني الكرام
أبو خالد
باحث الرقية
الحلم

أشكر لكم تشريفكم لقراءة هذه الكلمات
وماأفضتم به من تعليق طيب مبارك
لاحرمكم الله الأجر
وبنى الله لكم في الجنة قصر