عرض مشاركة واحدة
قديم 07 Oct 2008, 12:20 AM   #2
أبو سفيان
Banned


الصورة الرمزية أبو سفيان
أبو سفيان غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 2349
 تاريخ التسجيل :  Jan 2008
 أخر زيارة : 24 Jan 2012 (09:58 PM)
 المشاركات : 5,855 [ + ]
 التقييم :  14
لوني المفضل : Cadetblue


وفي هلوسات الصوفية التي يسمونها الكشف والفتح والعلم اللدني، والتي يرونها أثناء الجذبة، براهين تُضاف إلى ما سبق، على أن جذبة الأشراق هي نفس جذبة التحشيش والأفينة، لأن مشاهداتهم في هذه نفس مشاهداتهم في تلك، والفرق بينهما ناتج عن الفرق بين الأمانيّ والمعلومات المختزنة، ولأن الحالة النفسية في كلتيهما واحدة.
وتبرز ملاحظة مفيدة؟ فقد رأينا في فصل سابق أن هزّ الرأس على الطريقة النقشبندية قد يوصل إلى الجذبة بعد إحدى وعشرين هزة، أو بعد تكرارها، مما يدل على أن المادة المهلّسة المفرزة إنما تفرزها بعض أنسجة الدماغ أو بعض الغدد القابعة في ثناياه.
فهل الأمر كذلك؟
نعم إنه لكذلك! ففي الدماغ منطقة تُفرز مادةً شبه قلوية لها مفعول المرفين، هذه لمنطقة «تحت المهادية» واقعة في الجزء الأسفل من المخ، تفرز مادة «الأنْدُورفين» أي (المورفين الداخلي) وهي أقوى من المورفين المعروف، وظيفة هذه المادة هي تخفيف الآلام الشديدة التي يمكن أن تكون قاتلة، تلطِّفها وتجعلها – بآلية معقدة – في الحدود غير المميتة.
كما أن هناك مادة ثانية يفرزها الدماغ اسمها «أنكيفالين» لها نفس التأثير المخفف للآلام ونفس المفعول المورفيني، لكنها أضعف من المورفين.
نقرأ في المعجم الفرنسي (Larousse) تعريفًا لهاتين المادتين، ترجمته:
- أندورفين (Endorphine) : هرمون تفرزه الغدة تحت المهادية (Hypothalamus) له حصائص المورفين المسكّنة.

- أنكيفالين (Enkephaline): مادة يفرزها الدماغ تؤثر في نقل السياة العصبية ولها مفاعيل المورفين المسكّنة.

ونقرأ للدكتور أكرم المهايني في كتابه (علم الأدوية «الفارماكولوجيا») قوله:
- مماثلات المورفين: أقرّ العلماء مؤخرًا، إثر الدراسات الحديثة لفسيولوجية المراكز العصبية، وجود ببتيدات... تبدي قدرةً تحاكي فعل المورفين في عدد من النسج الحية، ولا سيما في الجملة العصبية والنخامي والأنبوب الهضمي، وقد تم حتى الآن، الكشف عن مجموعتين من هذه الببتيدات الداخلية المنشأت التي عرفت باسم «مماثلات المورفين» أو «الببتيدات نظيرة الأفيون» وهما:

1- مجموعة الأنكه فالين... (اكْتُشِفت سنة 1977).
2- مجموعة الأندورفين .. (اكْتُشِفت سنة 1976).

(ليس من موضوع كتابنا أن ننقل تجارب الفارماكولوجيين ومناقشاتهم في موضوع هذه الببتيدات، وإنما نورد منها ما يمس موضوع بحثنا).
إن دفقة كافية من الأندورفين، أو من الأنكيفالين، أو منهما مجتمعين توقع السالك في الجذبة المماثلة للجذبة التي يسببها المورفين، حيث ينال السعادة الأبدية التي تستمر دقائق أو سويعات، يرتقي أثناءها في المعارج، وينتقل في الفناءات، ويتحقق بالأسماء والصفات ويذوق من معاني اسمه الصمد...
فلكما التقديس يا إندورفين ويا أنكفالين، يا هرموني الولاية وإكسيري المعرفة، يا سُرارتي التوحيد وقراراتي التفريد.
يا إندورفين ويا أنكفالين، يا من بكما تعلقت همم الرجال، وإليكما تطاولت أعناق المحبين العاشقين الأبطال، ومن أجلكما اقتحموا الأهوال.
يا إندورفين ويا أنكفالين، إليكما حقيقةً توجهت صلوات الصوفية في الجهر والإسرار، وبكما حقيقة تعلقت قلوبهم والأسرار، وفي سبيلكما حقيقة واصلوا اجتهاد الليل بالنهار.
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا منتهى أمل السائرين ، وغاية غايات السالكين، إليكما صبت قلوبهم، ولكما عَنَت وجوههم ، وبتجلياتكما التي لا توصف بلسان، ولا تفصل ببيان، باعوا الدنيا والآخرة، ورضوا بجهنم مستقرًّا ومقاما.
يا نور يقينهم، وعين يقينهم، وحق يقينهم.
يا هرموني الفناءات، وإكسيري التجليات، يا مانحي التحقق بالأسماء والصفات.
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا كاشفي الحجب، يا مقدسي الأسرار، يا رافعي الغين عن العين.
ياسر الجذبات التي أوهمتهم شياطينهم من الإنس والجن أنها ولاية وقرب وتحقق بالألوهية.

* كيف يسبب الإندورفين والأنكفالين الجذبة:

الألم الشديد حافز يدفع الغدد الدماغية المختصة لإفراز هاتين المادتين أو إحداهما بشكل دفقات كافية لتخدير المراكز العصبية، بما في ذلك القشرة الدماغية، تخديرًا خفيفًا كافيًا لإبقاء الألم في حدود غير قاتلة.
كما يظهر من تجارب القوم (الصوفية) أن الاهتزازات العصبية العادية (غير الحادَّة) إذا استمرَّت مدة كافية (تختلف من شخص لآخر) تدفع هذه الغدد لإفراز دفقات من هاتين المادتين أو من إحداهما، وقد رأينا أن هز الرأس بعنف على الطريقة النقشبندية قد يثير الدفقات.
والرياضة الإشراقية عند الأمم الأخرى (الخلوة، والجوع، والسهر، والصمت، وتركيز الفكر في كلمة، وتركيز النظر على نقطة، وأخذ بعض الأوضاع غير المريحة، والاستمرار على ذلك مدة طويلة)، يقود إلى نتيجتين:
1- إفراغ مراكز الوعي من أي شيء يشغلها على الإطلاق، فتتعطل القشرة الدماغية من وظائفها الطبيعية التي طبعها الله سبحانه عليها، ومع المثابرة والاستمرار تصاب بشيء من الكسل والارتخاء، ومع المثابرة والاستمرار أيضًا، يزداد الكسل والارتخاء حتى تصل إلى درجة كافية للتأثر تأثرًا كافيًا بكمية المهلِّس (إندروفين أو أنكيفالين أو كليهما)، الضئيلة التي تفرزها الغدد المختصة، كما أن تكرار الرقص العنيف، يساعد في زيادة كسل القشرة الدماغية واسترخائها، أو انكماشها.
إن عملية عدم التفكير المطلق وإفراغ الذهن من كل ما يشغله عمليةٌ صعبة للغاية، بل تكون متعذرة للكثير من الأشخاص، فأعانهم إبليس بأن دلَّهم على فائدة تركيز الفكر في كلمة ما كائنة ما كانت هذه الكلمة، فالهندوسي، مثلاً ، يستعمل كلمة «أوم» أو «راها»، والطاوي يستعمل كلمة «طاو»... وإذا أراد أحد متصوفة المسلمين ممارسة رياضة الصمت (وهذا نادر جدًّا) ركز تفكيره في شيخه.
ويستطيع القارئ أن يجرب ذلك بنفسه، فيركز تفكيره في كلمة ما، ولتكن «زيز»، يرددها في ذهنه دون أن يحرك لسانه أو شفتيه أو أي جزء من فمه، مع الانتباه إلى هذا الترديد، وسيشعر أن ذهنه كان فارغًا من أية فكرة أثناء ترديدها.
2- النتيجة الثانية، هي الإرهاق المؤلم المستمر الذي يدفع الغدد الدماغية المختصة إلى إفراز مخزونها من المهلّس، واستمرار الألم وتزايده يدفع هذه الغدد إلى العمل المتزايد وإلى تزايد الإفراز، حتى تغدو الكمية المفرَزَة كافية للتأثير على المراكز العصبية التي وصلت إلى درجة كافية من الارتخاء؛ فتكون الجذبة التي يسمونها فيما يسمونها: «كشف الحجب، أو الفتح، أو الولاية، إلى آخر الأسماء الظالمة»، مع العلم أن ازدياد الإفراز عن الحدود المحتملة يقتل صاحبه.

أما متصوفة المسلمين:

فقد حذفوا من رياضتهم الصمت وتركيز الفكر والنظر وأخذ الأوضاع المؤلمة، واستبدلوها بما سمَّوه «الذكر». إن ترديد كلمة ما، يقود بعد مدة قد تطول وقد تقصر (حسب الأشخاص) إلى نفس النتيجتين السابقتين:
1- إفراغ الذهن من خواطره، والاستمرار على هذا الإفراغ بالذكر الإرهاقي المستمر ليالي وأيامًا يدفع القشرة الدماغية إلى الاستخدار. وكذلك الخضوع الكامل للشيخ هو عامل مساعد وقوي للوصول إلى الاستخدار لأنه يحول دون تشغيل الفكر، بل يشلّه.

2- من المعروف أن الإنسان إذا مارس حركة ما مدةً طويلة، تغدو لديه عادةً يقوم بها دون إرادة أو شعور. وكذلك ترديد كلمة ما، ليلاً ونهارًا، يغدو بعد مدةٍ عادةً، يرددها المرتاض دون إرادة أو شعور، ويزيدها الترديد الإرادي تمكنًا، حتى إنه يكون نائمًا، فيستيقظ، أو يوقظه أحد، فيلهج بها لسانه مباشرة دون وعي منه؛ بل قد يصل إلى ترديدها أثناء نومه.

ومثله الأعصاب التي تربط اللسان بالدماغ، والتي تسري فيها التموجات العصبية النطقية المتناغمة مع الكلمة المردّدة ومقاطعها وحروفها، تعتاد على ترديد تلك النبضات مع اللسان دون وعي.
ومثلها المراكز المختصة في الدماغ.
وبطبيعة الحال، تنتقل هذه النبضات إلى الأنسجة المحيطة بأعصاب اللسان وبمراكزها في الدماغ حيث تصبح لها عادة مثل اللسان وأعصابه. ومع الزمن يشعر المرتاض أن أعصابه كلها تردد تلك النبضات، وكلما زاد من ترديده الإرادي للكلمة كلما تمكنت تلك العادة من دماغه وأعصابه.
فلم يزل مستعــملاً للذكــر
فيصمت اللسان وهو يجــري
وقَدْرَ ما تجوهــر اللســان
بالاسم يستثبته الجَنـــــان
ثم جرى معنـــاه في الفؤاد
جَرْيَ الغِذا في جملة الأجسـاد

هذه الاهتزازات (الميكرونية طبعًا) المستمرة، تنتشر في الدماغ حتى تصل إلى الغدد المختصة التي تأخذ بالاهتزاز مثل بقية الدماغ؛ واستمرار هذه النبضات يفضي إلى إفراغ المخزون أو المهيّأ من هرمونها.
واستمرار الاهتزاز، باستمرار الذكر، يؤدي بعد مدة إلى إصابة هذه الغدد بالخلل، فيزداد إفرازها ويسهل قذفها، وقد تصاب بالتضخم، كما يؤدّي هذا إلى خلل في التفكير السليم.
وهكذا... حتى تغدو كمية الدفقة كافية لأفْيَنَةِ المراكز العصبية المستخدرة، فتكون الجذبة، ويغدو السالك وليًا لله بكمية من الإندورفين والأنكيفالين قد تقاس بأجزاء من الغرام ‍.
فلكما التمجيد والنعمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، ولكما توجههم الأسمى يا إندورفين ويا أنكيفالين، لوجهكما الرقص مع النقص ودون نقص، يا مقدسي الأسرار ويا باعثي الأنوار.
ما كان لهاثهم إلا وراء سرابكما، ولا هيامهم إلا بما يمنيهم إبليس فيكما من الخلد وملكٍ لا يبلى، يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا.
يا إندورفين ويا أنكيفالين، يا قدس أسرارهم، ويا جاذبيهم إلى الأوهام الشيطانية التي ضلّوا بها وأضلّوا.
وعندما تصير زيادة الإفراز وسهولة قذفه مقامًا بعد أن كانت حالاً، عندئذ يكون السالك قد وصل إلى الدرجات العلى، ونال القرب والسعادة العظمى، وصار بدلاً أو قطبًا أو غوثًا، حسبما تُوهمه شياطينه من الإنس والجن.
فيا عبّاد الإندورفين، احمدوه واشكروه على ما أولاكم من نِعَمه، ولا تنسوا الأنكيفالين.
إلى جانب هذين الهرمونين، يجب أن نذكر عاملاً مساعدًا هو الأكسجين. ففي الحضرة الراقصة، وبعد دقائق قليلة من القفز، يأخذ الراقص باللهاث والتنفس العميق، وهذا ما يسمّى «التهوية» حيث يدخل إلى رئتيه كمية من الهواء، وبالتالي من الأكسجين، أكبر من الكمية العادية.
عندما تستمر عملية التهوية مدة كافية، ترتفع نسبة الأكسجين في الدم، وللأكسجين تأثير أفيونيٌّ ضعيف، وارتفاع نسبته في الدم يصيب المراكز العصبية بأفْيَنَةٍ خفيفة، يختلف الإحساس بها من شخص إلى آخر.
لذلك نرى بعض الراقصين في الحضرة يأخذه الحال، فيزعق ويثور، إن كان الوارد قبضيًّا، أو يشعر بشيء من السرور والخدر اللذيذ، إن كان الوارد بَسْطيًّا، وقد يقع على الأرض، وقد يرى صورًا ينقصها الوضوح أو بعضُه، وهذا يثير فيه الشهية الجارفة للوصول إلى الجذبة ويدفعه إلى المثابرة على الرياضة، مع العلم أن بعض الذين يأخذهم الحال كاذبون لا يحسّون بشيء، وإنما يتظاهرون بذلك طمعًا في أن يحقّق الحال المقال.
كما أن للتهوية دورًا آخر، إذ إن ارتفاع نسبة الأكسجين في الدم يؤثر على المراكز العصبية في جميع الحالات، ويجعل فعاليتها تهبط، ولو لم يشعر الراقص بذلك، وكلما زاد عدد الحضرات كلما زاد الهبوط، وهذا يساعد السالك كثيرًا على الوصول إلى مقام الاستخدار، لذلك جعلوا الحضرة من المنشطات وأصرّوا عليها.

ترنيمة إلى الإندورفين (مع حفظ المقام للأنكيفالين):
كنت مزّقتُ شعري، لكن البادئ أو الباده أو الطالع أو اللائح أو البارق أو اللامح، (وكلها مترادفة تعني بدايات الحال). أو الهاجم أو الوارد أو الحال (وهذه أيضًا مترادفة)، أو المقام، أيها لا أدري، أجري في الخاطر هذه المقيصيرة فسجلتها.

أأندرفين والمسعى *** إلى إشراقك الأسنى
له التسبيحُ في الإعلا *** نِ والتمجيدُ في النجوى
له أبدالهم تعنو *** وفيه قُطبهم يفنى

أأندرفين هرمونَ الولاية *** مانحَ الحسنى
إليك عروجُ سالكهم *** ومنك سحائبُ النعمى
طَبَتْ سُبُحاتُ سرِّكَ سِرَّ *** قلب العارف المُظما
وقرّحَ جفنَه وَلَهُ *** بخمرة ذلك المجْلى
يهيم بسُكْر جذبتها *** يعبُّ يعبُّ لا يروى
بها قد باع دنياه *** وعاف لأجلها الأخرى
رضي بجهنمٍ سكَنًا *** مُقابل ساعةٍ تُجْلى

أأندرفين كنتَ لهم *** معين الخدعة الكبرى
سرابُك عندهم خلْدٌ *** ومُلْكٌ جلّ لا يبلى
وفيضك قدْسُ سِرَهمُ *** يُقدّسُ قدْرَ ما تطغى
فأنت محطّ قِبلتهمْ *** وأنت الغاية القصوى
إليك صلاتُهمْ حقًّا *** وذكرهُمُ وما يُتْلى
أضاعوا فيك رُشْدَهُمُ *** فضلّوا، السعْي والمسعى

- الترنيمة للأندرفين لأنني أظن أن له الدور الأساسي في الجذبة.

وقبل الانتقال إلى الفصل التالي، من المفيد ملاحظة ما يلي:

المنطقة تحت المهادية (Hypothalamus) هي منطقة من الدماغ الأوسط في قاعدة المخ حيث توجد عدة مراكز منظمة لوظائف فيزيولوجية هامة: «الجوع، والعطش، والنشاط الجنسي، والنوم، والاستيقاظ، وتنظيم الحرارة في الجسم».
وبدهي أن هذه المراكز هي أول ما يتأثر بالإندورفين، وبدهي أن هذا التأثر يغيّر كثيرًا أو قليلاً من فعاليات هذه المراكز، وهذا يفسّر ما يحدث لبعض الواصلين من بقاء مدة طويلة دون طعام أو شراب أو نوم، ومقدرة بعضهم على تحمّل البرد الشديد أو الحر الشديد، وغير ذلك. مما يظنّونه كرامات دالّة على ولايتهم.

* فيزيولوجية الرؤى أثناء الجذبة:

مادامت مكاشفاتهم ومشاهداتهم وإشراقاتهم باطلة كلها ؛ لأنها مدحوضة كلها بنصوص القرآن والسنة.
ومادامت دون أي رصيد في واقع الحياة والوجود.
ومادام كل ما يشاهدونه ويسمعونه ويكاشفونه هذيانات وهلوسات إندورفينية أنكيفالينية!
مادامت كذلك ! إذن فما هي ؟ وكيف تحدث ؟
1- هناك التمثيليات الشيطانية، لكنها في واقع الأمر ثانوية، وقد لا تقتضيها الحاجة في كثير من الأحيان، وأكثر ما تكون في حالة الصحو، فيسمّونها الكرامات، ومع ذلك فهي وسيلة الخداع الأولى في الصوفية.
2- عملية الكشف والمشاهدة تجري في الدماغ، في مركز التفسير البصري، كالتالي: من المعروف أن الصور الحسّية (البصرية والسمعية والشمّية والذوقية واللمسيّة) عندما تتلقاها أعضاء الحسّ (العين والأذن والأنف واللسان والجلد) تحولها إلى سيالة عصبية تنقلها الأعصاب المختصة (بشكل تموجات قطعًا) مباشرة وبسرعة، إلى مراكز التفسير الحسّي في الدماغ، فما كانت بصرية انتقلت إلى مركز التفسير البصري، حيث يتم هناك الإحساس بالرؤية، أي إن مركز التفسير البصري في الدماغ (تحت القشرة) هو الذي يفسّرها بالصورة التي يعرفها كل من وهبه الله سبحانه نعمة البصر. وما كان سمعيًا انتقل من الأذن إلى مركز التفسير السمعي الذي يتمّ به الإحساس بالصوت وارتفاعه وحدّته وقربه وبعده.. وهكذا.

فمراكز التفسير في الدماغ هي التي تفسّر السيّالة (أو الموجات) الواردة إليها ذلك التفسير الذي يعرفه كل حي.
من مراكز التفسير الحسّي تنتقل الصور مباشرة وبسرعة إلى مخازن الحفظ في الخلايا الدماغية المتخصصة بذلك والقابعة في منطقة اللاشعور في الأجزاء الداخلية من الدماغ.
وكذلك يحدث للأفكار والتخيلات والأماني والطموحات، تُخزن كلها في خلايا مخازن الحفظ المخصّصة لها.
ويلاحظ بوضوح أن منطقة اللاشعور ليست مجرد مخازن صامتة تكدّس فيها الصور والأفكار بجمود، وإنما هي عالم حي تجري فيه بنشاطٍ عمليات تحليل وتركيب وإنشاء، لكن يغلب على هذه العمليات التنسيق مع العواطف والأماني المختزنة والتخميلات.
ويقرر علماء التشريح والفيزيولوجيا، بناءً على دراساتهم وتجاربهم الكثيرة، أن مراكز الوعي (التذكر والإدراك والمحاكمة والضبط وتمحيص الأمور) تقع في القشرة الدماغية.
ويظهر أن خلايا المراقبة والانتقاء تتوزع بين القشرة وتمتد إلى داخل الدماغ.
ومراكز التفسير الحسّي (البصري والسمعي وبقيتها ) تقع تحت القشرة داخل الدماغ أيضًا.
ومن ملاحظة أحلام اليقظة، والأفكار الشاردة أثناء الاسترخاء، والأحلام المنامية، ومن دراسة أوصافهم لأحلام جذباتهم الأفيونية والإشراقية، نستطيع أن نتخيل ما يلي:
أن هناك طرقًا عصبية (حبال) بعضها صادر عن مراكز الوعي في القشرة الدماغية (التذكر والإدراك وبقيتها ) وبعضها صادر عن مراكز التفسير الحسّي تحت القشرة (البصرية والسمعية وبقيتها ) وكلها تصبُّ مباشرة في مخازن الحفظ في مناطق اللاشعور في الدماغ، والتي هي خلايا عصبية تعد بالمليارات وأن هناك قنوات مباشرة من مراكز التفسير الحسّي إلى مراكز الوعي في القشرة (الإدراك والضبط وغيرها).
كما يلاحظ؛ مع شيء من القبول، أن هناك طريقًا، أو قناة عصبية (حبل) صادرة عن مخازن الحفظ في اللاشعور، تصبُّ، حسب مقتضى الحال، في مركز التذكر أو التخيل في القشرة، ومن هناك تتوزع إلى المراكز الأخرى في القشرة الدماغية حسب مطلوب الفرد أو حالته.
ويلاحظ أن الطريق الواصلة بين مراكز الوعي في القشرة وبين مخازن الحفظ في اللاشعور هي، في الحالة العادية، ذات اتجاهين: من القشرة إلى مخازن الحفظ، ومن مخازن الحفظ إلى القشرة (أي ذهاب وإياب).
والطريق الواصلة بين مراكز التفسير الحسّي تحت القشرة وبين مخازن الحفظ هي، في الحالة العادية، ذات اتجاه واحد: من مراكز التفسير الحسّي إلى مخازن الحفظ فقط.
كما أنه من الملاحظ أيضًا أن خروج الصور الحسّية والأفكار من مخازن الحفظ في اللاشعور يكون بأحد أسلوبين.
أ‌- أسلوب إرادي انتقائي، لا تخرج فيه إلا الصور المطلوبة، وهذا يدل على وجود خلايا دماغية وظيفتها الإشراف على إفراز الصور والأفكار المطلوبة وإخراجها إلى مركز أو أكثر من المراكز المناسبة في القشرة الدماغية، أي إن هذه الخلايا الدماغية هي مراكز مراقبة أو «رقيب» ويظهر أن جزءًا من هذه الخلايا (أو الحبال) الرقيبة واقع في منطقة اللاشعور، فهو يعمل دون أن يشعر به الكائن الحي.

ب‌-أسلوب لا إرادي، تتسرب فيه الصور والأفكار عفويًا (حسب الظاهر) وتجري هذه العملية في حالة الشرود الذهني والاسترخاء وفي حالة النوم (الأحلام) وفي الجذبة (الكشف)، عندما تكون مراكز الوعي والرقيب فاقدة فعالياتها.

كما يلاحظ أيضًا وبوضوح، أن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في مناطق الوعي تكون متناسقة مع واقع الحياة والوجود على قدر استيعابها لهذا الواقع.
وأن عمليات التحليل والتركيب التي تجري في منطقة اللاشعور تكون متناسقة مع العواطف والأماني والمخاوف الكامنة، تأخذ موادّها الأولية منها ومن المعلومات المختزنة، فتحللها وتركب منها صورًا جديدة تتفق والأماني المختزنة والعواطف، ويلعب فيها الذكاء الفطري للفرد وسعة خياله دورًا ملحوظًا، لذلك، غالبًا ما تقفز فوق الواقع والمعقول.
- وهناك حقائق تشريحية وفيزيولوجية تساعد معرفتها على معرفة كيفية حدوث الرؤى الجذبية، بل والمنامية أيضًا:

- يتألف الحبل العصبي من خلايا عصبية متصلة ببعضها، تنتقل السيالة العصبية فيها من خلية إلى جارتها حتى تصل إلى مراكز التفسير الحسي في الدماغ، أو إلى القشرة الدماغية.
- الخلية العصبية، ويسمونها «العصبون» أو «النورون» تعريبًا من (neu صلى الله عليه وسلم one) لا تستطيع الانقسام، وينتهي طرفاها بخيوط دقيقة متشعبة، تجتازها السيالة باتجاه واحد.
- بالقرب من منتهيات العصبونات، بملامسة التلاحمات العصبية، توجد حبيبات تحتوي على مكونات آمينية يسمونها «الآمينات الوسيطة».
- ما بعد منطقة التلاحم هذه يوجد تلاحم آخر غني بحويصلات كبيرة (نسبيًا) كروية تختزن مادة ببتيدية (أي لها نفس مفعول الأندورفين) يسمونها «المادة P». وقد أثبتت الدراسات أن المادة «P» والانكيفالين والمستقبلات المورفينية تبدي نفس التوزع. والمادة «P» هذه هي حموض نووية (كالآمينات) لها دور هام في تأمين نقل الشيفرات الألمية عبر الألياف الناقلة للألم.
- تمر السيالة العصبية الحاملة لحسٍّ ما من أول العصبون إلى آخره، وهناك يتحرر عدد من الآمينات الوسيطة من حبيبات ادخارها لتصطدم بمنتهيات العصبون المجاور لتنقل إليه السيالة، أو لتحرّض فيه سيالة مماثلة، أما المادة «P» ففي نقل الألم.
- تقوم أدوية الجملة العصبية المركزية (الأفيونيات ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتأثير منتشر، منبّه أو مثّبط، لجميع التلاحمات العصبية (أي مكان اتصال العصبونين المتجاورين)... ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية مختلفة الشدة، وذلك بتنشيط أو إبطاء استقلاب الآمينات الوسيطة، أو بالتدخل في وظائف هذه المواد (الآمينات الوسيطة)...
- وفي الحقيقة أصبح من المقبول اليوم أن السيّالة العصبية عندما تبلغ نهاية النورون العصبي حذاء المركز، يتحرر من هذه النهاية عدد من الآمينات الوسيطة وتنتشر لتنبه أو تثبط نورونًا آخر... أهـ.
- ألفتُ النظرَ إلى قوله: «ويتم هذا التأثير بطريقة اصطفائية».

ويقول في مكان آخر:

إن آلية التأثير العام لهذه الأدوية (المخدرات العامة) التي تستند على وجود ولعٍ اصطفائي مختلف الشدة بينها وبين المراكز العصبية المنتشرة على طول المحور الدماغي النخاعي...
ويقول: إن اكتشاف بعض المركبات الكيمياوية، كعقار الهلوسة (L S D ) والمسكالين وغيرهما، وملاحظة أن هذه المواد قد تسبب تبدلات عميقة في التصرفات تصل لدرجة الإهلاس، كل هذا لفت انتباه الدوائيين الجدد إلى إمكان وجود علاقة بين اضطرابات السلوك والتصرف، وبين بعض المركبات الكيميائية التي تبدي ولعًا اصطفائيًا خاصًا بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي. وقد ارتقت نظرية التأثير الاصطفائي إلى أبعد من ذلك.. أهـ.
- هذه التقارير منقولة عن الدكتور أكرم المهايني في كتابه علم الأدوية الخاص مع قليل من التصرف للتخلص من التعقيدات والتفصيلات التي لا تهمنا في بحثنا.
يهمنا من هذه التقارير :
- الآمينات الوسيطة التي تنتقل من نهاية عصبون إلى بداية جاره لتنبيهه بتحريض السيالة، أو تثبيطه.

- دور الآدوية المؤفينة (ومعها الإندورفين والأنكيفالين) بتنشيط الآمينات أو إبطائها (تثبيطها) أو تقويتها.

- تأثير هذه العقّارات الأفيونية على أماكن مصطفاه من الأعصاب ومن الدماغ، وخاصة بالمناطق الدماغية الخاصة بوظائف الكيان النفسي، وهو الموضوع الذي نحن بصدده في كتابنا.

- وهذه الأماكن واىلأجزاء العصبية التي لديها القابلية للتأثر بهذه العقّارات المخدرة يسمونها «المستقبِلات».

- يقول الدكتور أكرم المهايني عن مجموعة الأنكيفالين:

... تثبت بشدة على المستقبِلات المورفينية، وتتوزع في الجسم بشكل يتماشى مع توزع هذه المستقبلات...
ويقول عن مجموعة الأندرفين:

... وأثبتت الدراسات التجريبية.... عام 1976، بأن لهذه الببتيدات أيضًا ولع شديد بالمستقبلات المورفينية...
- من كل هذا، نرى أن الإندورفين والأنكيفالين اللذين يفرزهما الدماغ لهما نفس مفعول المورفين بصورة دقيقة، وإن كان الأنكيفالين أضعف منه، والأندرفين أقوى في بعض الحالات. وهذه التقارير العلمية، مضاف إليها ما رأيناه في الفصول السابقة من تشابه كامل بين حالة الجذبة الأفيونية الهلوسية ورؤاها وبين حالة الجذبة الصوفية ورؤاها، كل هذا يجعل التأكد كاملاً، ولا يترك مكانًا لأي شك أو تساؤل أو تردد بأن الجذبة الصوفية ورؤاها هي تهليس إندرفيني أنكيفاليني، وأن الرياضة الصوفية وعلى رأسها الذكر الإرهاقي تعمل على زيادة الكمية المفرزة من هاتين المادتين بشكل مَرَضيّ دائم، كما تعمل، بإرهاقها الدماغ مدة طويلة، على إضعافه إضعافًا كافيًا للتأثر بهذه الكمية الجديدة من إحدى هاتين المادتين أو كلتيهما.
وبالتالي تكون الصوفية، أو الإشراق، أو المعرفة، أو الكهانة، أو ما شئت غيرها من الأسماء التي أطلقوها، تكون خدعة إبليسية كبرى، وهي السبب الأساسي لانحراف الإنسانية عن الفطرة التي فطرها الله سبحانه عليها.
ولزيادة الفائدة وزيادة تأكيدها، نصان آخران.
يقول الدكتور أكرم المهايني:

... ويحسن بنا التذكير، بأن زوال الألم بفعل المورفين (ومثله الإندورفين والأنكيفالين طبعًا) لا يؤلف سوى وجه واحد من أوجه تأثيراته المتعددة، فطيف تأثيره يشمل أيضًا – بشكل أعم – السلوك والتصرفات.
.... ولوحظ أيضًا وجود فرط نشاط إندورفيني في السائل الدماغي الشوكي لدى المصابين بالفصام (الجنون) المترقي...
- أقول: يعرف القاريء الآن أن الفصام المترقي هو مقام «جميع الجمع»، وأن المصاب به هو الذي يسمونه «المراد»، ولو أجريت الفحوص اللازمة لهؤلاء الأولياء الأحياء الذين نسمع بهم، وخاصة عندما يكونون في مقام القُرْب، لوُجد فرط النشاط الإندورفيني في السائل الدماغي الشوكي عندهم.
ومن هنا يبرز الترجيح، أن لا الإندورفين هو صاحب الدور الأساسي، أو الرئيسي في الجذبة.
- والآن نستطيع أن نتخيل كيفية حدوث الرؤى الكشفية والأفيونية:
الظاهر أن مناطق اللاشعور في الدماغ تبقى في نشاط مستمر في جميع الحالات، شأن أجهزة الجسم اللاإرادية.
وواضح للمتأمل أن القناة العصبية التي تخرج فيها الصّوَر من مخازنها في خلايا اللاشعور إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، هذه القناة، أو القنوات، هي من مستقبلات المورفين؛ ولذلك عندما تغدو كمية الإندورفين المفرزة كافية، بتحريض الرياضة الصوفية، تتفاعل معها هذه المستقبلات، فتثبط الآمينات الوسيطة على طول الحبل العصبي الواصل بين المخازن والقشرة، وتغدو هذه الطريق مغلقةً، ويظهر أن خلايا الرقابة العليا يصيبها نفس الشيء، كما أن مستقبلات الأفيون في كل الجملة العصبية يصيبها نفس الشيء، وهذه هي الجذبة.
إن فقدان المجذوب الإحساس بما حوله جزئيًا أو كليًا (حسب كمية المهلِّس) هو دليل لازم كاف على أن الآمينات الوسيطة قد ثُبّطت، فتوقفت السيالات التي تحمل الإحساسات من أعضاء الحس (العين والأذن...) إلى القشرة الدماغية.
هذه هي الجذبة، وهذه هي الولاية (مرحبًا ولاية).

ويظهر أن هذه الولاية تصيب أيضًا خلايا الرقابة في الدماغ، فتأخذ خلايا اللاشعور حريتها بتحليل الصور والمعلومات المختزنة، وغيرها، لتركب منها صورًا جديدة متناسقة مع عواطف المجذوب ورغباته، بل، لعل العواطف والرغبات هي التي تحرك عملية التحليل والتركيب.
تخرج هذه الصور الجديدة ، وغالبيتها بصرية، على غفلة من الرقيب المخدّر بشكل سيالات عصبية، لعلها موجيّة (وهو المنطقي)، في الطريق المعتاد الذي طُبعت عليه، أي إلى مراكز الوعي في القشرة الدماغية، لكنها تجد منافذها مغلقة، وتجد إلى جانبها منفذًا آخر، وهو الطريق ذات الاتجاه الواحد التي تخرج من مراكز التفسير الحسي وتصب في المخازن، وهي، بدهيًا، تقع داخل الدماغ، فتعبرها اضطرارًا مخالفة للعادة في الحالة العادية، حيث تصل إلى مراكز التفسير الحسي. ولعل المادة «p» لها دور في فتح هذه القناة بصورة معكوسة.
بما أن غالبية الصور بصرية، لذلك تذهب إلى مركز التفسير البصري، فيفسرها ويحس بها كما لو كانت آتية عن طريق العين، ويراها المجذوب مجسّمةً ماثلة أمامه كأنها شيء واقع حقيقي؛ لأن مركز التفسير مطبوع على التأثر بأية موجة تصله، ليفسرها ويرسلها مفسرة إلى مركز الإدراك في القشرة، ولا علاقة له بمصدرها ولا بالطريق الذي سلكته.
وتذهب الصور السمعية إلى مركز التفسير السمعي، واللمسية إلى مركز التفسير اللمسي... وهكذا.
وعندما يصل الخدر خفيفًا إلى الطرق الواصلة بين المخازن ومراكز التفسير الحسّي، عندئذ يختلط الحابل بالنابل، ويختلط السمع بالبصر بالشم بالذوق باللمس، فتذهب الموجات البصرية إلى مركز تفسير حسّي (بصري أو غير بصري) وكذلك السمعية والشمّية والذوقية واللمسية، فتحدث لهم الرؤى التي لا يستطيعون وصفها، وتوهمهم شياطينهم ، ويصور لهم غرورهم أن الأنبياء كانوا كذلك وتوهمهم جذباتهم أن الجنة كذلك.
وعندما يزيد المخدّر عن حده، ويتغلغل في الدماغ يصاب المجذوب بالجنون أو الشلل أو الموت.
هكذا تحدث أحلام الجذبة بجميع أنواعها سواءٌ أكانت مورفينية أو إندورفينية، أي سواءً كانت جذبة تحشيش أو جذبة إشراق.
ولعل من آثار الأندورفين أيضًا تمييع الخلايا العصبية، وخاصة خلايا القشرة الدماغية، تمييعًا خفيفًا طبعًا؛ لأن هذا يمكن أن يكون تعليلاً لما يرونه من تضخيم الأبعاد قليلاً أو كثيرًا، ومن إطالة الزمن أو تقصيره، ومن رؤية فراغات لا نهائية أو رؤية الأشياء شفافة أولا وجود لها... وذلك؛ لأن الخلايا المدركة في القشرة، عندما تتميع، يمكن أن يتغير شكلها باتجاه أو بآخر بسبب الضغوط حولها، فيحدث ذلك التشويه في الإدراكات، كما يمكن أن يكون حدوث هذا التميع في مراكز التفسير ذاتها.
وهنا يأتي دور الشيخ ؟
فلولا الشيخ لكانت الرؤى متشابهة مع بعضها في الجذبتين «جذبة التحشيش وجذبة الإشراق». لكن توجيهات الشيخ وإيحاءاته المتناسقة مع تجاربه السابقة، تحقن المريد بالعواطف والطموحات التي توجه رؤاه إلى العروج في السماوات والمحاضرات والمكاشفات والمشاهدات والفناءات والتحقق بالأسماء والصفات، ورؤية جبل قاف وكاف وعين وصاد، وغيرها، حيث يرى السالك منها ما يتناسب مع استعداداته الفكرية والإندورفينية.
ولهذا السبب كان الشيخ هو الأصل في طريقهم؛ ولهذا السبب قالوا من لا شيخ له فشيخه الشيطان؛ لأن من لا شيخ له تكون رؤاه مثل رؤى حشاشي الحشيش والمورفين وزمرتهما؛ ولهذا السبب كان الخضوع الكامل للشيخ أساسياًّ ليسهل انطباع توجيهاته وإيحاءاته في أعماق المريد.
مساكين الحشاشون والمورفينيون مساكين!
فلو كان لهم شيخ يوجههم، لذاقوا أيضًا الفناءات، وتحققوا بالأسماء والصفات، وتصرفوا بالكون، ولكان منهم الأبدال والأقطاب والأغواث.
أما قولهم بالتصرف في الكون، هذا الهذيان المضحك المبكي (وكلهم هذيانات مضحكة مبكية) فقد رأينا مثله عند حشاش عقار الهلوسة، الذي يكفي، في بعض الحالات، أن يتخيل شيئًا أو يتمنى رؤيته حتى يراه أمامه مجسمًا.
ومثل هذا يحصل لبعض الواصلين الذين صار خَلَل غددهم المفرزة للهرمونين مقامًا عاليًا ، فقد يمر بخاطره عرش الرحمن مثلاً ، فيراه أمامه مجسّمًا كما يتصوره بوهم جذبته، لا كما هو على حقيقته التي لا يعلمها إلا الله.
وقد يخطر على بال جذبته أن ينقله من مكان إلى مكان، فيقول له«انتقل» فيراه قد انتقل.. وهكذا. وهذا ما يسمونه «التصرف في عالم الملكوت».
وكذلك ما يحدث لبعضهم أحيانًا من اضطراب في إحساسه بالزمن، حيث يحسّ أنه قطع سنين طويلة في جذبة لم تدم سوى دقائق قليلة‍ مثل هذا ما رأيناه يحدث لمجذوب المهلِّسات...
والرجاء من القاريء أن يعود إلى مفعول المخدرات في أول هذا الفصل لتتوضح أمامه ما هي كشوفهم ومعارفهم وعلومهم اللدنية.

والآن، نستطيع أن ندرك بصورة أوضح وأدق، دور الرياضة الصوفية. فهي بعناصرها التي عرفناها والتي يُجْملها قولهم: «اخلع نعليك، الدنيا والآخرة»، تقلّل الإحساسات الذاهبة إلى الدماغ تقليلاً كبيرًا، وهذا يعني أن السيّالات العصبية تقل كثيرًا، وهذا يعني كذلك أن الأمينات الوسيطة يقل عملها كثيرًا، ومع الزمن تصاب بالكسل، ومع تطاول الزمن بالمثابرة على الرياضة، ومع تكاثر الإندورفين والأنكيفالين بسبب الرياضة أيضًا، يغدو كسل الآمينات الوسيطة مقامًا عاليًا، وتغدو مستعدة للشلل أو ما يشبهه بكمية من المخدر أقل من الذي تحتاجه في الحالة العادية، أي تصل إلى مقام الاستخدار، والذكر الإرهاقي يقوم بنفس المفعول، وإذا ساعدته عناصر أخرى من الرياضة كان أسرع، ولعل التلاحمات العصبونية المحيطة بالدماغ هي محل العمليات المذكورة؛ وذلك لتكاثر الإندورفين في السائل الدماغي الشوكي أثناء الجذبة.

* فقرات معترضـة :

* إكسير الولاية :-
تسهيلاً على المريدين وتيسيرًا لهم للوصول إلى الولاية والصديقية والغوثية والألوهية بيوم أو يومين، ودون تعب ولا خلوة ولا جوع ولا سهر، نقترح على الشيوخ العارفين الكمل، ذوي المدد العظيم من الأموال التي تنهمر عليهم من المخدوعين والغافلين، أن يكلفوا واحدًا أو أكثر من علماء الكيمياء الطبية، لتحضير نوعين من العقاقير:
أ‌- عقّار يسبب هبوط فعالية الأمينات الوسيطة بشكل دائم (الاستخدار).

ب‌- عقّار آخر يحدث خللاً يضخم الغدد الدماغية المفرزة للمخدرين ويزيد إفرازها زيادة كافية.

عندئذ تصبح الولاية والقطبية والألوهية في متناول الجميع! فكل من يريد التحقق بالأسماء والصفات والفناءات في الذات والتصرف في الكون، ما عليه إلا أن يذهب إلى صيدلية يشتري منها «إكسير الولاية» المكون من عقارين:
- العقار الأول يأخذه في اليوم الأول، حيث يجتاز كل المقامات في ساعات، ويصل إلى مقام الاستخدار.

- العقار الثاني يأخذه في اليوم الثاني، حيث تخرق له الحجب وتكشف الغيوب بعد ثواني أو دقائق.

لكن الشيخ يبقى لازمًا لا بد منه في جميع الحالات! إذ دون إيحاءاته وتوجيهاته لن يستطيع المريد الوصول إلى الألوهية؛ لأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومن لم يكن بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل فلا يمكن لإيحاءات الشيخ أن تنطبع في أعماقه لتصبح جزءًا هامًا من أمانيه وطموحاته.
وصحبة شيخ وهو أصل طريقهــم
فما نبتت أرض بغير فلاحــــة

ولهذا، فلن يكون إكسير الولاية خطرًا على المدد الذي ينهمر على الشيوخ، بل بالعكس، سيزيد كثيرًا عدد السالكين بسبب سهولة (الطريقة الإكسيرية)، وبذلك سيزداد كثيرًا مدد الشيخ، كما سيحتاجون إلى عدد أكبر من الشيوخ الكمّل.
* أحلام النــوم:-
فيزيولوجية أحلام النوم تشبه فيزيولوجية أحلام الجذبة، مع فارق هو: في الجذبة: يبقى خدر الدماغ سطحيًّا وثابتًا في موضعه طيلة الجذبة، بينما تكون بقية أجزاء الدماغ متمتعة بنشاطها المعتاد إلا في حالة «الفناء عن الفناء» أو جمع الجمع.
وفي النوم: يبدأ النوم سطحيًّا (في القشرة الدماغية) حيث تحدث الأحلام، وتكون أجزاء الدماغ الأخرى في حالة هبوط تدريجي نحو النوم، فحالة الهبوط تجعل الحلم غامض الموضوع، والتدرج نحو النوم الكامل، أو بالعكس، يسبب القفزات في تسلسل حوادثه.
وعندما يصل النوم إلى مراكز التفسير الحسي تنقطع الأحلام.
* هل سيبصر الأعمى:-
لا أظنه بعيدًا، ذلك اليوم الذي يذهب فيه الأعمى إلى الصيدلية ليشتري «جهاز إبصار» يضعه على رأسه، ترتبط به نظارات يضعها على عينيه، ثم يخرج وهو يرى الحياة كما يراها البصير العادي، وتحدث عملية الرؤية كالتالي:
تقع الأشعة المنعكسة عن الأشياء على نظارات الجهاز (مثل وقوعها على العين العادية) وترتسم صورها عليها.
تتحول هذه الصور إلى موجات كهرطيسية تسري عبر شريط ناقل إلى الجهاز الموضوع في مكان معين فوق الرأس.
يحوّل هذا الجهاز الموجات الكهرطيسية إلى موجات عصبية مناسبة تخترق الجمجمة والقشرة الدماغية حتى تصل إلى مركز التفسير البصري الذي يفسرها كما لو كانت آتية إليه عن طريق العين، إذ كل ما يريده مركز التفسير البصري هو أن تصله موجات عصبية مناسبة، ليفسرها ويحس بها ذلك الإحساس الذي يعرفه كل كائن حي بصير.
أما من أين أتت تلك الموجات؟ وكيف؟ وفي أي طريق؟ فهذا لا شأن له به.
وهكذا تحل مشكلة العميان حلاًّ جذريًّا أو شبه جذري، كما يستطيع أي إنسان أن يستعمل هذا الجهاز للتسلية، أو لضرورة ما.
* جهاز فيديو يغني عن الشيخ والرياضة وعن إكسير الولاية:-
نفس جهاز الإبصار الذي يضعه الأعمى على رأسه، يرتبط به جهاز فيديو خاص (بدلاً من النظارات).
يستطيع صاحب الجهاز أن يقتني مجموعة كبيرة من أشرطة الفيديو التي سجلت عليها مناظر متنوعة الأشكال والمواضيع.
فما على المرء إذا أراد أن يقوم بسياحة إلى إندونيسيا، مثلاً، إلا أن يضع الجهاز على رأسه، ويضع في الفيديو الشريط المناسب، ويحرك الزر المطلوب، ثم تبدأ الرحلة!
فيرى نفسه ذاهبًا إلى وكالة سفريات، حيث يشتري بطاقة طائرة، وفي اليوم التالي يستيقظ من النوم باكرًا،ويذهب إلى المطار، ويختلط بالمسافرين، ويقف بدوره أمام رجل الأمن المكلف بمراقبة الأمتعة، وبعد أن ينتهي من كل المشاكل، يعبر إلى المدرج، ويصعد إلى الطائرة ليجلس على مقعد فوق مؤخرة جناح الطائرة الأيمن، ويجلس إلى جانبه شاب يمضغ لبانًا في فمه مما يثير في نفسه الضيق والحنق معًا... وتتحرك الطائرة وتحلق في الجو، وينظر صاحبنا من النافذة ليمتع نظره بالأرض التي تطوي تحته ببطء لتظهر أرض غيرها... وهكذا حتى يصل إلى مطار لاهور... إلى آخر الرحلة وتفاصيلها... بينما هو في حقيقة الأمر قابع في غرفته لم يتحرك من مكانه!
وإن كان صاحبنا من المريدين الذين لا يريدون إلا وجهه (؟) فيضع في الفيديو شريط الولاية، وإن أراد الحسنى (؟) وضع شريط العروج إلى الله ( جل الله وعلا علوًا كبيرًا)، فيرى الملائكة تتنزل عليه وتقول له: «لا تخف ولا تحزن»... ويرفعه أحدهم... حتى يعبر السماوات ويصل إلى العرش (في قصة طويلة ومناظر متنوعة مذهلة) وهناك تحدث له الفناءات والتحققات والتصرفات، ويذوق من معاني اسمه الصمد والرب والرحمن، حتى الاسم الأعظم.
وهكذا... إلى آخر المناظر المسجلة على الشريط، وعلى بقية الأشرطة.

( المرجع : الكشف عن حقيقة التصوف ، للأستاذ عبدالرؤوف القاسم ، ص 655 – 700 بتصرف يسير ) .


المصدر : موقع الكاشف
http://www.alkashf.net/



 

رد مع اقتباس