عرض مشاركة واحدة
قديم 04 Apr 2010, 02:56 AM   #27
محمد الغماري
وسام الشرف


الصورة الرمزية محمد الغماري
محمد الغماري غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم باحث : 8176
 تاريخ التسجيل :  Jan 2010
 أخر زيارة : 08 Aug 2011 (06:14 AM)
 المشاركات : 1,647 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة, قال: الله تعالي {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}.
وقد أشكل فهم هذا على كثير من الناس, وقالوا: معلوم أن إثم قاتل مائة أعظم عند الله من إثم قاتل نفس واحدة, وإنما أتوا من ظنهم أن التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة, واللفظ يدل على هذا, ولا يوم من تشبيه الشيء بالشيء بجميع أحكامه وقد قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وذلك لا يوجب أن لبثهم في الدنيا إنما كان هذا المقدار. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم"من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل, ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله"أي مع العشاء كما جاء في لفظ آخر. وأصرح من هذا قوله"من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر". وقوله صلى الله عليه وسلم"من قرأ: قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن ومعلوم"أن ثواب فاعل هذه الأشياء لم يبلغ ثواب المشبه به, فيكون قدرها سواء, ولو كان قدر الثواب سواء لم يكن لمصلى الفجر والعشاء في جماعة في قيام الليل منفعة غير التعب والنصب وما أوتي أحد -بعد الإيمان- أفضل من الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإن قيل: ففي أي شيء وقع التشبيه بين قاتل نفس واحدة وبين قاتل الناس جميعا؟ قيل, في وجوه متعددة:
أحدها: أن كل واحد منهما عاص لله ورسوله صلى الله عليه وسلم مخالف لأمره,





ص -175- متعرض لعقوبته وكل منهما قد باء بغضب من الله ولعنته, واستحقاق الخلود في نار جهنم, وأعدلهم عذابا عظيما, وإن تفاوتت دركات العذاب, فليس إثم من قتل نبيا أو إماما عادلا أو عالما يأمر الناس بالقسط كإثم من قتل من لا مزية له من آحاد الناس.
الثاني: أنهما سواء في استحقاق إزهاق النفس.
الثالث: أنهما سواء في الجراءة على سفك الدم الحرام, فإن من قتل نفسا بغير استحقاق بل لمجرد الفساد في الأرض أو لأخذ ماله, فأنه يجترئ على من قتل كل من ظفر به وأمكنه قتله, فهو معاد للنوع الإنساني.
ومنها: أنه يسمي قاتلا أو فاسقا أو ظالما أو عاصيا بقتله واحدا, كما يسمي كذلك بقتله الناس جميعا.
ومنها: أن الله سبحانه جعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتواصلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر. فإذا أتلف القاتل عضوا من ذلك الجسد فكأنما أتلف سائر الجسد, وآلم جميع أعضائه, فمن آذي مؤمنا واحدا فقد آذى جميع المؤمنين, وفي أذي جميع المؤمنين أذى جميع الناس, فإن الله يدافع عن الناس بالمؤمنين الذين بينهم, فإيذاء الخفير إيذاء المخفور. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم"لا تقتل النفس ظلما بغير حق إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل منها"لأنه أول من سن القتل, ولم يجيء هذا الوعيد في أول زان ولا أول سارق ولا أول شارب مسكر. وإن كان أول المشركين قد يكون أولى بذلك من أول قاتل, لأنه أول من سن الشرك, ولهذا رأي النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن لحى الخزاعي يعذب أعظم العذاب في النار, لأنه أول من غير دين إبراهيم عليه السلام. وقد قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا





ص -176- أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي فيفتدي بكم من بعدكم فيكون إثم كفره عليكم, وكذلك حكم من سن سنة سيئة فاتبع عليها.
وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة, ناصيته ورأسه بيده, وأوداجه تشخب دما, يقول: يا رب, سل هذا: فيما قتلني؟ فذكروا لابن عباس التوبة, فتلا هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} ثم قال:"ما نسخت هذه الآية ولا بدلت وأني له التوبة؟"قال: الترمذي هذا حديث حسن.
وفيها أيضاً: عن نافع قال"نظر عبد الله بن عمر يماً إلى الكعبة, قال: ما أعظمك وأعظم حرمتك, والمؤمن عند الله أعظم حرمة منك". قال: هذا حديث حسن.
وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال:"أول ما ينتن من الإنسان بطنه, فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلاّ طيبا فليفعل, ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة ملأ كف من دم أهراقه فليفعل".
وفي صحيح البخاري أيضا عن ابن عمر قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما".
وذكر البخاري أيضا عن ابن عمر قال:"من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".



ص -177- وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم"معاهدا لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها يوجد مسيرة أربعين عاما".
هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان معاهدا في عهده وأمانه فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعطشا فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم وفي بعض السنن عنه صلى الله عليه وسلم لزوال الدنيا عند الله خير من قتل مؤمن بغير حق
فصل:
ولما كانت مفسدة الزنى من أعظم المفاسد وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب وحمايه الفروج وصيانة الحرمات وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وبنته وأخته وأمه وفي ذلك خراب العالم كانت تلى مفسدة القتل في الكبر ولهذا قرنها الله سبحانه بها في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في سننه كما تقدم.
قال: الإمام أحمد: ولا أعلم النفس شيئا أعظم من الزنا وقد أكد سبحانه حرمته بقوله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاّ مَنْ تَابَ} الآية. فقرن الزنى بالشرك وقتل النفس وجعل جزاء ذلك الخلود في النار في العذاب المضاعف المهين ما لم يرفع العبد وجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح وقد قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}. فأخبر عن فحشه في نفسه وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول. حتى عند كثير من الحيوان كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون





ص -178- الأودي قال:"رأيت في الجاهلية قردا زنا بقردة فأجتمع القرود عليهما فرجموهما حتى ماتا". ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلا فأنه سبيل هلكة وبوار وافتقار في الدنيا وسبيل عذاب في الآخرة وخزي ونكال ولما كان نكاح أزواج الآباء من أقبحه خصه بمزيد ذم فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} وعلق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه منه فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه منه فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} إلى قوله {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.
وهذا يتضمن ثلاثة أمور: أن من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين وأنه من الملومين ومن العادين ففاته الفلاح واستحق إسم العدوان ووقع في اللوم فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها أيسر من بعض ذلك.
ونظير هذا: أنه ذم الإنسان وأنه خلق هلوعا لا يصبر على سرّاء ولا ضرّاء بل إذا مسه الخير منع وبخل وإذا مسه الشر جزع إلاّ من استثناه بعد ذلك من الناجين من خلقه فذكر منهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وأمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.
ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج فإن الحوادث مبدؤها من البصر كما أن معظم النار من مستصغر الشرر





ص -179- تكون نظرة ثم تكون خطرة ثم خطوة ثم خطيئة؟ ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات والخطرات واللفظات والخطوات. فينبغى للعبد أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة ويلازم الرباط على ثغرها فمنها يدخل عليه العدو فيجوس خلال الديار ويتبر ما علوا تتبيرا.
فصل:
وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة فنذكر في كل واحد منها فصلا يليق به.
فأما اللحظات: فهي رائد الشهوة ورسولها وحفظها أصل حفظ الفرج فمن أطلق نظره أورده موارد الهلاك. وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى".
وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم:"النظرة سهم مسموم من سهام إبليس, فمن غض بصره عن محاسن امرأة لله أورث الله في قلبه حلاوة إلى يوم القيامة". هذا معنى الحديث. وقال:"غضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم". وقال:"إياكم والجلوس على الطرقات. قالوا يا رسول الله مجالسنا مالنا بد منها. قال:"فإن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقه. قالوا وما حقه؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام".
والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع. وفي هذا قيل:"الصبر على غض البصر أيسر من ألم ما بعده"ولهذا قال الشاعر:

كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر



ص -180- والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين العين موقوف على الخطر

بسرور مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

ومن آفات النظر: أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات فيرى العبد ما ليس قادرا عليه ولا صابرا عنه وهذا من أعظم العذاب: أن ترى ما لا صبر لك عنه ولا عن بعضه ولا قدرة لك عليه قال الشاعر:

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وهذا البيت يحتاج إلي شرح. ومراده: أنك تري ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه فإن قوله:"لا كله أنت قادر عليه"نفى لقدرته على الكل الذي لا ينتفي إلاّ بنفي القدرة عن كل واحد واحد.



 
 توقيع : محمد الغماري

احفظ الله يحفظك

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

[email protected]


رد مع اقتباس